بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسئلة المجتمع بين قصور فقهي وغلو ليبرالي.
نشر في هسبريس يوم 16 - 07 - 2012

تهيمن على الجدالات المستعرة في الساحة ظاهرة التعصب للمرجعية الفكرية التي يرتبط بها كل مجادل ينخرط في مناقشة الأسئلة التي يطرحها سؤال التغيير، و تفرضها الوتيرة السريعة التي يتطور بها المجتمع. لذلك تغلب على الحلول المقدمة نبرة روتينية مملة لا تخرج عن شرنقة الأحكام الشرعية بالنسبة للخطاب الفقهي، و ثنائية حرية-قمع في المنظومة الليبرالية، إلى درجة أن القارئ المتابع للجدل القائم بين المرجعيتين يمكن له الاستغناء عن مطالعة ما تقدمه الجرائد و المجلات من آراء حول أسئلة المجتمع – و هي ليست كذلك بالنسبة للمرجعيتين، بل إنما هي قضايا مرتبطة بالإيديولوجيا-، فالفقيه ينضبط بمرجعيته الأصولية التي تختزل عمله في "استخراج الأحكام من الأدلة الشرعية"، بينما الليبرالي المرتبط بالنشاط الحقوقي-النقابي لا يمل و لا يكل من ترديد أسطوانته المشروخة حول "الحرية" بحمولتها التي لم يضبط دلالتها الفلسفية في الغالب، و في الحالتين معا تذوب أسئلة المجتمع و ينصهر الإنسان و حقه في الحياة الكريمة في بوثقة دوامة من الأسئلة لا ناقة له فيها و لا جمل،و يغيب الحس المقاصدي في الخطاب الفقهي، و مصلحة المجتمع و سعادته في الفكر الليبرالي:
أزمة الخطاب الفقهي
إن الخطاب الفقهي ككل يعاني أزمة منهجية تضرب في جذور إبستمولوجيا المبحث، فالخطاب الفقهي سلبي إلى أقصى حد، إنه لا يسهم في معالجة الأسئلة الاجتماعية التي تشغل المواطن البسيط، و لا يرى أن ذلك من وظيفته –هذا ما يقوله لسان الحال-، و إن كان الفقيه يدعي أنه الوصي الوحيد على المجتمع و راعي حقوقه الدينية و المدنية. فعلا، المسلم لابد أن يطلب حكم الله فيما يبادر فعله، لكن في المقابل لابد أن يكون الفقه في مستوى تطلعات و انتظارات المواطن، لا بد أن يسترشد بقواعد أصولية من قبيل "حيث المصلحة فثمة شرع الله"، و أن يتسلح بنظرة مقاصدية تجعل الإنسان محور الاهتمام، بعبارة أخرى لابد من أنسنة الفهم الديني، والانتقال من الإلهياء إلى الإنسياء، فالتشريع الإلهي إنما جاء لتحرير الإنسان و سعادته في الدنيا و الآخرة، هذا الكلام يردده دائما الفقهاء لكن شتان بين الخطاب و الواقع. و لو نقبنا بروية و تأني في أصل المشكل، سنجد أنه مرتبط بالأساس بطبيعة مبحث الفقه الإسلامي، إنه منذ أن أطر الإمام الشافعي عمل الفقيه و سطر حدوده، حكم عليه بالسلبية، فالفقه الإسلامي حتى وإن كان يدرس المشاكل الاجتماعية فذلك من أجل أن يصدر فيها حكما من الأحكام الخمسة (واجب، محرم، مستحب، مكروه، حلال).
ولا يساهم الفقيه أبدا في إيجاد حلول لمشاكل المجتمع، إن عمله ينتهي بمجرد أن يصدر حكما معينا، فهو بسلوكه النمطي هذا أشبه ما يكون بعمل رؤساء المصالح المتمثل في التوقيع، هكذا تغيب الرؤية النافذة العميقة لدى الفقيه، و هذا المنهج يوقعه في إحراجات كثيرة، منها أنه يترك التنظير الفكري و معالجة القضايا الاجتماعية للمدارس الأخرى المرتبطة بالبحث السوسيولوجي و السيكولوجي، التي تجر معها و لاشك رؤاها المادية، ثم عدم ربط الظواهر بمسبباتها الحقيقية، لأن طبيعة المبحث تملي عليه ذلك، فإصدار الفتوى صارت عند الفقيه عملا اعتياديا، و العادة تجرد سلوك ما من بطانته النفسية و الوجدانية، لتصير عملا ميكانيكيا آليا جامدا، و هذا هو سر جفاء أكثر الفقهاء و غلظتهم، بل و بغضهم للتصوف كتربية للنفس و تزكية لها، إنه لم يعد يستحضر جسامة المسؤولية باعتباره نائبا عن الشارع في إصدار الحكم.
ومن آفات الفقه الإسلامي كما هو الآن، عدم ربط الأحكام بمسبباتها، الفقيه يدافع بشراسة عن حرمة الإجهاض، لكنه لا يتساءل ما هي أسباب الإجهاص في المجتمع؟ لا نجد جوابا عنده، غير تحميل العلمانيين بدونكشوتية غبية لمسؤولية ما نشهده من تفسخ و انحلال أخلاقي، كأن المغربي صار بليدا و لم يعد له تمييز، و كل من هب و دب يستطيع ان يؤثر فيه. إنه لا يعود إلى دراسة القاعدة الاجتماعية، و ربط تفشي الزنا بالواقع السوسيواقتصادي المزري للإنسان المغربي، هذا الأخير لم تعد له "الباءة" التي هي شرط لبناء أسرة، فينصرف عن الحلال إلى الحرام بحثا عن تفريغ شهواته الجامحة التي يهيجها الواقع أكثر فأكثر، و الأدهى و الأمر، أنه لا ينخرط في نقاش جاد حول مصير تلك النفس التي ستولد غدا، و البحث عن ضمانات جادة لتأمين حياته، يقول الفقيه بعناد الإجهاض حرام، ثم يولي ظهره لتبعات حكمه، و يتمثل بالمثل الشعبي "معزة و لو طارت".
ولعل أكبر إحراج يواجه الخطاب الفقهي، هو تجاهله لدور السلطة الحاكمة في تعطيل الأحكام، لذلك لا نجده في الغالب يناقش تطبيق الحدود لأن المسألة –كما يعي ذلك جيدا- منوطة بالحاكم الذي سلك مسلكا علمانيا، إن من الأحكام الملتصقة بالإجهاض مثلا تطبيق حد الزنا على الواقعين في الفاحشة، لكن جبن الفقهاء و طمعهم في التزلف من الحاكم لنصر إيديولوجيتهم جعلهم يتملصون من الدفاع عن قضاياهم بصدق، و يتملقون للحاكم الذي لا يرقب فيهم إلاّ و لا ذمة.
على أن التشدد للمرجعية الفكرية تميزا عن الآخر، تبدو واضحة في مقاربة الفقيه لسؤال الإجهاض، إننا لا نجد عنده إنصافا و موضوعية، فهو يصدر حكمه بتحريم الإجهاض دون تفصيل، مع أن الاختلاف حول حكم الإجهاض قوي جدا، و هو اختلاف مرده إلى مناط التحريم، فالحنفية و الحنابلة جعلوا المناط هو نفخ الروح، أي بعد أربعة أشهر، و الشافعية يذهبون إلى أن مناط التحريم هو تصور و تخلق الجنين، أي أربعون يوما، بينما يرى المالكية والظاهرية أن التحريم يكون من تلقيح المني لبويضة المرأة، و منهم من قال بتحريم العزل، لأن الحيوان المنوي يحمل أصل الاستعداد للحياة، و بعد كل هذا القضية اجتهادية لا نص قطعي فيها كما يقر بذلك الضالعون بصناعة الفقه، يقول الدكتور محمد يعقوبي خبيزة : "لا يوجد نص قطعي الدلالة في مناط تحريم الإجهاض، و إنما هي آراء اجتهادية، حددت المناط مسبقا ثم استندت إلى نصوص شرعية إن دلت على الوقت الذي يتم فيه ما ادعي انه مناط فإنها لا تدل على أنه هو المناط المعتبر عند الشارع حقيقة و بصورة قطعية" (مقال "الاجهاض و حكمه في الشريعة" بمجلة الإحياء، العدد 11،يناير 1998)، و يقول محمد سعيد رمضان و هو ينص على الاختلاف في مناط التحريم "إذا كان للإمام الغزالي أن يصطلح فيحدد أولى مراتب استعداد أصل الحياة باللحظة التي تلتقي فيها خليتا الرجل و المرأة فإن لغيره أن يصطلح أيضا فيجعل أولى مراتب هذا الاستعداد عند تحويل النطفة إلى علقة أو إلى مضغة بدأت تسري فيها خطوط الصورة و التخلق" (محمد البوطي، مسألة تحديد النسل وقاية و علاجا، ص 85)، طبعا يجب أن ندرك أن البوطي شافعي المذهب لذلك جعل المناط هو التخلق، استنادا على بعض الروايات.
مناقشة موقف الليبرالي من الحرية :
لندع جانبا موقف الليبرالي من قضايا جزئية معينة، و لنناقشه في رؤيته للحرية التي يستند إليها في تبريره لضرورة السماح ببعض القضايا التي تبدو مشينة و مرفوضة في المجتمع. صحيح أن التفكير في الحرية من صلب التفكير في الإنسان و متفرع عنه،و طرح سؤال "ما الحرية" يقودنا بداهة للتساؤل عن الإنسان،و العكس صحيح،من هنا يرى "غرامشي" أن أصل السؤال "ما الإنسان" هو استشكال عن مصير الإنسان،أ هو قادر على التحكم و السيطرة في مصيره الخاص؟ أي هل الإنسان حر بما فيه الكفاية؟ لا يهمنا هنا الإجابة عن هذا السؤال الكبير و الواسع،الذي يمكن أن نطرحه من أكثر من زاوية و ننظر إليه بأكثر من عين،و لكن من المهم جدا أن نسجل أن البحث في الحرية باعتبارها موضوعا للنقد الفلسفي الصارم و التحليل الموضوعي الفاحص يؤدي إلى نفي الحرية و تكريس "اللاحرية"، وذلك لا من منظور الدين كما يعتقد البعض بسطحية،فعندما نتموقع داخل دائرة الدين،فإننا نتناول قضية أخرى، إنها علاقة الإرادة الإلهية بإرادة البشر،و لعل الجواب عن هذا السؤال الأنطولوجي قد حسم في كتب علم الكلام،و إنما عند نفحص عن علاقة الإنسان بالطبيعة،حينئذ نفاجأ بالحتمية والضرورة، حيث يرزح الإنسان تحت نير الإكراهات الطبيعية،ما يعني تضييق أفق الحرية،و كذلك إذا ألغينا أي وازع أو سلطة خارجية،نكون خاضعين لإكراهات ذاتية لاشعورية،فنتأرجح بين الوعي و اللاوعي،الشعور و اللاشعور،بل حتى إذا تخلصنا من كل ما هو كوني،ذاتيا كان أو خارجيا،و رحنا نفكر في علاقة الإنسان - ككائن حر اجتماعي فاعل بالاختيار لا بالطبع- بالمجتمع و بالأنظمة السياسية،تواجه الحرية إكراهات تفرض نفسها بحدة،قد تكون موضوعية معقولة و قد تكون استبدادية لا تبغي غير خنق الإنسان و سلب حقه في ممارسة الحرية.
إن الإنسان يعيش في المجتمع،ما يعني أن منظومة القيم السائدة تعمل على تقليص إمكان الفعل الإنساني،ذلك لأن هذا الأخير لا يقوم بذات الفاعل فقط،بل إنه كما يقول ابن رشد "إضافة موجودة بين الفاعل و المفعول،إذا نسبت إلى الفاعل سميت فعلا و إذا نسبت إلى المفعول سميت انفعالا"،من هنا نستشعر إكراهات الآخر الذي قد ينزعج بما يصدره شخص ما كمنفعل بفعله،و كذلك الأنظمة السياسية،حتى إذا تجاهلنا الأنظمة الديكتاتورية التي تتعمد قهر المواطن،و أخذنا النظم الديموقراطية فإننا نجدها تنخر جسد الحرية بعناد دائم لا لشئ إلا لأنها ديموقراطية،فهذه الأخيرة تميل دائما إلى رأي الأغلبية،فمثلا لو قمنا باستفتاء حول قانونين و رجحت كفت قانون،ألا نكون هنا قد تعسفنا عل الأقلية التي مالت إلى القانون المرجوح؟فالنتيجة إذن أن الديموقراطية تتحول عندما ننظر إليها من ثقب الحرية من أرقى ما توصل إليه الإنسان في مجال السياسة إلى شكل من أشكال الاستبداد و عقبة أمام تحقيق الحرية.إن هذه الإكراهات التي تحيط بالحرية و تنهش جسدها النحيل و المخاطر التي تحدق بها من كل جانب هي التي حملت الليبراليين على الاستخفاف بمكر بكل من نظر للحرية من ماركسيين و هيغليين و وجوديين،و هذا التملص يعبر عنه المفكر المغربي عبد الله العروي بقوله : "إن الليبرالية لا تمثل نظرية بين نظريات الحرية،بل تنفي ضرورة تنظير الحرية"،و في موضع آخر يقول "إن الليبرالية تنفي البحث في نظرية الحرية عن قصد لأنها تخاف من نتائجها".
إن تجربة الحرية طوبي أكثر ما هي واقع،و وهم أبعد ما تكون عن الحقيقة،و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدعي شخص عن وعي و روية أنها جسدت في حقبة ما في صورتها "المثالية" و "الكاملة"،المجردة و العارية من أي حاجز أو عائق،و هذا راجع بالأساس إلى مفهوم الحرية في حد ذاته،إن هذا الأخير اتخذ كشعار لا كمفهوم،الحرية أدلوجة،و في الأيديولوجيا تحضر الغواية و يغيب التنظير الفلسفي الغائي،فمن يرفع شعار الحرية لا تسأله عن ماهيتها،و لكن قل له ما صورتك عنها؟ و كيف و أين و متى تتصور حضورها؟ بعبارة أوضح ما هي مطالبك التي تريد تحقيقها باسم الحرية؟ عندئذ حتما سنتفق على أن من يرفع شعار الحرية لا يرى فيها مبدأ و لكن منتهى لامشروط،و كل من يؤدلج الحرية لا يرى فيها باعثا على التصرف و إرادة في الفعل فقط،وإنما مطية يركبها لغاية و غرض،فباسم الحرية و تعميق شعور الشعوب المقهورة بها نشبت حروب راحت ضحيتها حضارات عريقة،و باسمها نادت جهات معينة بضرورة تحرير المرأة من العاديات البالية وأغروها تحت يافطة الحرية بما سموه مساواة،و بأدلوجة الحرية يدعو البعض إلى ما يسمونه تنقية الذهن من الخرافات الدينية و الأساطير.. و المطالب التي تحمل توقيع الحرية طويلة جدا.
من أجل ذلك تباينت الرؤى و اختلفت مشارب الناس في الحرية،فالليبرالي البسيط في تفكيره ينتقد حرية الماركسي و يرى فيها استعبادا لا يخفى و طوبي مستحيل التحقق،و الماركسي الذي لا يشعر بوجوده و كيانه إلا داخل مجتمع القطيع،ينقض رؤية الليبرالي للحرية بدعوى أنها ورقة رابحة في يد فئة قليلة،و تهميش مكشوف للبروليتاريا التي تقتات من على جهدها العضلي-الفكري،فالحرية عند الماركسي ليست حقيقة أو واقع و إنما حلم لم(ن) يبزغ فجره،و هو مازال ينتظر نهاية التاريخ لتتحقق،و الوجودي يوظف الحرية ليصير مقدسا كالإله، لذلك يدعو بشغب إلى ضرورة الانتقال من الإلهياء إلى الإنسياء،،و يرى أن رمز ألوهية الإنسان حريته،و هذه الحرية التي تميز الإنسان تجعله مسؤولا عن الوجود،و بالتالي فحرية الإنسان في قدرته على إعدام الوجود،يقول الوجودي "دوستويفسكي" : " لقد بحثت مدة ثلاث سنوات عن صفة ألوهيتي و أخيرا عثرت عليها،تلك الصفة هي الإرادة،بالإرادة وحدها يمكن أن أبرهن على عصياني و حريتي الجديدة المخيفة،إنني أنتحر لأعبر عن تمردي حريتي"،و مادامت الحرية عند الوجودي هي القدرة على إعدام الوجود،فقد وظف بعض المفكرين العرب هذه الفكرة و دعوا إلى الحرية الوجودية،طبعا بعد تنحية مفهوم الوجود و تعويضه بالنظام السياسي،إن الحرية عند الوجودي العربي هي القدرة على إعدام الأنظمة السياسية و الإطاحة بها…
أصل الحرية عند الهيغيلي الدولة،و عند الماركسي الطبقة، وعند الوجودي الوجدان الفردي،أما الليبرالي فيدهس بسطحيته كل الأصول لأنه كما قلنا ينفي ضرورة تنظير الحرية،إذ وعى نتائجها التي توقعه في مطبات و تناقضات،فتملص من التنظير بجبن خالع،و اتخذ منه موقفا يشبه تصرف النعامة عندما يحدق بها خطر ما..هذا عن الليبرالي الغربي،أما الليبرالي العربي الذي تعمق شعوره بضرورة الحرية كردة فعل على تضييق الخناق عليها في واقعنا العربي من قبل الأنظمة المستبدة، ورأى فيها تلك الشجرة الخالدة التي يستمد منها وجوده،فقد ركب العمياء بعد أن تعامى هو الآخر،و تخبط خبط عشواء في إدراك حقيقة الحرية الليبرالية،لذلك وقع في ثلاثة أخطاء،كلها تنم عن أدلجة الحرية،الأول عدم الوعي بالمراحل الأربعة التي مرت بها الليبرالية،و هو ما يفسر كثرة التداخلات الزمنية التي تذوب و تلغى فيها بصمات التاريخ و آثاره في بلورة المفاهيم،الثاني : الانتقائية الغبية التي تكشف عن تدليس واضح،فالليبرالي العربي يستمد أفكاره من غير ما مذهب،فلا يعير اهتماما للتناغم و الانسجام في كتاباته، ولا يتحرى التناسق المنطقي في عرض الأفكار،بل قد ينتقي أي فكرة تخدم قضية الحرية المطلقة المرادفة للتسيب على كل الأصعدة من أي منظومة فكرية،و يورد فكرتين عن الحرية متعارضتين ثم يرسمهما في لوحة و كأنهما على ود و وفاق،و ذلك باعتماد سلاح التأويل من أجل تطويع النصوص لتتوافق مع غايته (غوايته)،و الخطأ الثالث تهميشهم للتراث أو لواقعنا التاريخي..
إن الدين ككل يلعب دورا رئيسيا في تحرير الإنسان، وتحطيم القيود و الأغلال التي تحد من حريته الفكرية،أقول الفكرية لأن الدين لم يخول للمسلم حق مطلق التصرف في جسده،بل ضبط هذا الأخير بأحكام أوجب الالتزام بها،و هذا ما انتبه له الليبرالي "جون ستورت ميل" في كتابه "في الحرية"،حيث يشتد نكيره على تحريم الإسلام للخمور و أكل لحم الخنازير،و تكوين هيأة (الحسبة) لمراقبة هذه الأمور،إنه يرفض نطام الحسبة بشدة و يرى في ذلك تجني على الإنسان باعتباره عاقلا يعرف مصلحته - على حد زعمه -،لكنه لم يثبت على موقفه،عندما يعي هو الآخر تناقضات مطلق الحرية، فيعود ويتساءل بحيرة هل يجوز بيع الخمور والسموم و التبغ؟ هل يجب تحديد النسل؟هل يسمح للفرد أن يستعبد نفسه؟ هل يجب إجبار المرء على التعليم؟ لقد ضل ميل مترددا في الجواب عن هذه الأسئلة،يقول عبد الله العروي معلقا : "في واقع الأمر لم يكن من المنتظر أن يطرح ميل مثل هذه الأسئلة إذا تذكرنا الحجج التي بنى عليها انتقاده للحسبة في الإسلام،لقد رفض مبدأ الحسبة لأنها تفترض في رأيه خطأ أن الإنسان لا يعرف مصلحته،و ها هو الآن يرجع إلى المنطلق الذي كان الفقهاء المسلمون يبررون به نظام الحسبة" إن ميل توصل إذا إلى كون الإنسان قد يضر نفسه بنفسه في حالة إطلاق حريته من أي قيد،و هذا بالضبط هو المقصد الذي من أجله حرم الإسلام بعض الأمور سواء تلك التي تمس عقله أو نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه،فمن أجل أن ديننا يخاطب العقل يحرم على المسلم الانغماس الكلي في تحقيق شهوات النفس التي تحد من قدرات الإنسان الفكرية،إن ديننا يريد انتصار العقل و الحفاظ عليه في معركته الضروس مع الجسد،إن الحرية في الإسلام هي مدى قدرة الإنسان على تحقيق العقل في حياته،طبعا بعد التخلص من الحاكم الوهمي و الحسي.
إن العقل أعدل قسمة بين الناس كما يقول ديكارت،فهو الذي ينبغي أن نجعله معيارا و ميزانا نحتكم إليه فيما اختلفنا فيه من مسائل الفكر و غيره،فالحرية أدلوجة و مجرد مصطلح زائف فضفاض،يقول ميل و هو ينزع عنه قميص الليبرالية "كلما تعين ضرر واقع أو محتمل،إما للفرد أو للعموم،ينزع الفعل الذي يتسبب في الضرر من حير الحرية ليلحق بحيز الأخلاق أو القانون"،و يبقى العقل هو المحدد الوحيد لهذا الضرر،و هذا لا يتعارض مع الشرع،لأن العقل حق و الشرع حق،و الحق لا يضاد الحق.
خلاصة:
أكثر السجالات المفتعلة في واقعنا الراهن، يراد لها أن تكون شجرة تخفي غابة مشاكلنا المعقدة و المتشابكة، إننا إذا انخرطنا فيها و أهدرنا طاقاتنا في مسايرتهم على الخط الذي رسموه له سنكون مخطئين. إن الصراع القائم إيديولوجي فج، لا يهم المواطن البسيط المغلوب على أمره من قريب و لا من بعيد، و ما نراه من ركوب الجماهير للعمياء و تصفيقهم لتيار فكري معين أمارة على انطلاء الحيلة علينا. و حتى هذا الجدل الساخن لا ينم أبدا عن صحوة وعي، بل هي حوارات لا تفتئ تدق ناقوس الخطر، أين نحن من قضايا التنمية التي كانت تناقش على نطاق واسع في أوج انتشار الاشتراكية في الوطن العربي؟ بل و أين نحن من أصول استبداد الكواكبي و أصول حكم علي عبد الرازق تحرير المرأة لقاسم أمين و قضايا أخرى نهضوية بامتياز.
www.Adiltahiri.maktoobblog.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.