«والمدينة الجاهلة هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم. إن ارشدوا إليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنها خيرات .. مثل سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات» الفارابي. من هن نساء المدينة الجاهلة؟ وهل سنتمكن من الهروب في جنح الظلام كاللصوص من نساء المدينة الجاهلة؟ أم أنه قد حكم علينا بالعيش تحت رحمتهن مدى الحياة؟، ألا نكون بطرحنا لهذه الأسئلة نثير غضب النساء مما يجعلنا في خطر؟ أفما آن الأوان لنعترف أن امرأة واحدة بإمكانها تدمير جمهورية الرجال بكاملها، ومع ذلك فإننا نغامر بمواجهة جمهورية النساء؟، ومن باستطاعته أن يتجرأ على مواجهة النساء غير الفيلسوف؟ من الأشياء الطريفة في هذا الحوار الذي فتحناه مع النساء، أننا لم نعد نبحث عن حقيقة النساء، لأن الحقيقة نفسها امرأة قامت بإغراء الفيلسوف إلى أن قادته إلى الصمت، ثم الهروب في جنح الظلام، مفضلا قساوة العزلة على جحيم المدينة الجاهلة، والشاهد على ذلك أن ابن باجة في تدبير المتوحد، طرد من مدينته القضاة والأطباء، لكون مدينة المتوحد ليست في حاجة إليهما، لأن أهل مدينته لا يتشاجرون، ولا يأكلون بشراهة، الحكمة والحمية، باعتبارهما فنا للحياة، بيد أن ابن باجة نسي أن يطرد النساء من مدينة السعادة، أو بالأحرى المدينة الفاضلة، لأنهن سبب الفتن، ولذلك تم طرده من جمهورية النساء لأنها ليست في حاجة إلى الفيلسوف. بقدر ما أنها في حاجة إلى سلامة الأبدان والثروة واللذة، الأمر الذي يفرض وجود الأطباء والقضاة، والبنوك. ولعل زارادشت نفسه كان ضحية هذه المؤامرة، لأن براءته لم تنفعه مع خداع ومكر العجوز، باعتبارها تاريخا للوعي الجمعي عند النساء، الأمر الذي يجعلها لحظة أساسية في فهم بنية هذا الوعي، من أجل الوقوف على التشكلات الأولى للخطاب النسوي في المدينة الجاهلة التي تسود الفضاء العربي من المحيط إلى الخليج، لأن النساء في هذه المدن لم يعدن مرتبطات بالحقيقة والمعرفة، بل والمجتمع العلمي والمدني بل أصبحن معتقلات في مجتمع الاستيهام واللذة؛ نساء من أجل اللذة، واللعب مع الشيطان، في لعبة جدلية لا نستطيع معرفة قواعدها بدون تقنية التأويل، وتفكيك الخطاب التي تناط بها مهمة كبرى لفهم انقطاعات التاريخ العربي واتصالاته، فسياسة المدينة الجاهلة لا تقبل النساء كقوة تشارك في السلطة، بل كأجساد طيعة ولذيذة قابلة لأن تزرع فيها بذور التكيف والتنميط، ولذلك لا يسمح لها أن تخرج بدون ارتداء الحجاب، وترديد خطاب الرجال في الابتهالات والتوجه إلى الأضرحة والأولياء، فالمجتمع لا يتسامح مع المجنون والمجرم والمرأة، أو اللاعقل، واللاعدل والجنس، ينبغي إخضاعهم للهيمنة والخضوع، فكل جسد عاص سيكون مصيره النفي خارج المدينة الجاهلة، وذلك من أجل التمييز بين الأجساد الطاهرة العاقلة، والأجساد الخبيثة المجنونة التي يسكنها الشيطان: أمة لا تزال تفسر تاريخ الأخطاء انطلاقا من الشيطان. منذ أن نزل آدم وحواء من جنة عدن إلى الأرض، فهل معنى ذلك أن سلطة الأعيان تريد أن تنشر وعيا مغلوطا يقول للمواطنين أن هناك مناطق محرمة لا ينبغي الاقتراب منها؟، وبعبارة فوكو أن السلطة تتمظهر من خلال من تحكمهم، وتهيمن على أرواحهم بواسطة إقصائها للخطاب المعارض، وتطهير الجسم الاجتماعي المقدس الذي يتشكل من الرعية، ومن كل البدع العالقة به ليظهر بؤرة مثالية أقرب إلى الكمال، كما يتصوره زعيم القبيلة، وحاكم العشيرة، وأمير العقيدة؛ القبيلة والعشيرة، والعقيدة، ثلاثية تحرم الإنسان العربي من السعادة. لكن أين تم نسيان النساء في هذه البنية التقليدية؟، وكيف تحولت السلطة السياسية إلى سلطة تمارس على النساء كأجساد حتى تصبح مطبوعة بطابع السلطة؟ فهل تعيش هذه الأجساد مرحلة ما قبل التاريخ الحديث، أم مرحلة المجتمع الاعتقالي؟، بل أكثر من ذلك، كيف يمكن للسلطة أن تستغل تيكنولوجية المراقبة والعقاب على أجساد النساء وإخضاعهن بالعنف للهيمنة وعدم المطالبة بالحرية في تمزيق الحجاب، أو سياقة السيارة، أو تأسيس حزب سياسي، أو رئاسة الجمهوريات والملكيات؟. لقد حولت السلطة الوسطوية المرأة إلى دمية اجتماعية تقدم إشهار مواد التجميل وهي محرومة من التمتع بجمالها، لأنها منغلقة في جغرافية النمذجة والتنميط، مجرد أجساد يجب ضبطها وتأهيلها بالإيديولوجية في أفق اعتمادها كالآلات متحكم فيها، بغية جلب اللذة وتسلية الرجال والإنجاب. وهذه هي صفات نساء المدينة الجاهلة. فلماذا كل هذه الآلام والفضاعة في معاقبة النساء كأجساد عاريات في القصور، ومحتجبات في الشوارع؟. ولماذا أن السلطة تختفي وراء الأخلاق والعقيدة لممارسة القهر السياسي على المواطنين؟، وهل المرأة العربية لم تكتمل بعد للحصول على الحق في المواطنة؟، وكيف أمكن للسلطة أن تؤدلج الواقع لتنشر اعتقادا خاطئا، مفاده أن النساء قاصرات مدى الحياة يحتجن لسلطة الرجال؟. في كتابه «الشيخة والفتاة» يترك نيتشه الحرية للمرأة العجوز من أجل أن تعلن عن حقيقة زارادشت هذا الذي لا يحب أن يتكلم عن النساء إلا للرجال، حيث تقول مندهشة: «لقد كلمنا زارادشت مرارا نحن النساء، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة». ومعنى ذلك أن زارادشت نفسه كان يتحرك تحت هيمنة سلطة الرجال، ويفكر في النساء من خلال ثقافة عصره، ولذلك لم يتكلم عنهن ولو مرة واحدة مع النساء، أما مع الرجال، فإنه قام بتحطيم إرادتهن عندما اعتبرهن مجرد لعبة خطيرة تحطم آمال الرجال، أو بالأحرى الأطفال الكبار ويقصد بهم أهل الإبداع، لأن النساء بقدر ما يخضعن لهيمنة القساة والطغاة، بقدر ما أنهن محطمات للفلاسفة وأهل الإيداع والعلماء، وربما يكون هذا هو السر الكامن وراء خوف زارادشت من الكلام مع النساء عن كل النساء، لأن: «كل ما في النساء لغز، وليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد وهو كلمة «الحبل». والنساء أنفسهن لا يعتبرن الرجال أصدقاء أهلا للحوار، أو التكلم عن حقيقة الرجال، بل مجرد وسيلة للتسلية والإنجاب حفاظا على استمرارية الحياة: «والتمتع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح، وبالجملة اللذة من المحسوس والتخيل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه ومن كل نحو». لأن المرأة في المدينة الجاهلة تتنازل عن جميع حقوقها في النهار لكي تنال متعة ولذة الليل: «ويكون كدهن اللذة التي تنالهم من الغلبة فقط»، وتكمن أهمية قراءة الفارابي لأمزجة أهل المدن الجاهلة في استثماره لصناعة الطب، باعتبارها اقرب إلى قلوبهم من أية صناعة، وغالبا ما يفزعون إليها خوفا من الموت، ويفرحون بتناول الأدوية بدلا من حزنهم بالالتزام الحمية: «فتصير أنفسهم مرضى، فلذلك ربما التذوا بالهيئات التي يستفيدونها بتلك الأفعال، كما أن مرضى الأبدان، مثل كثير من المحمومين لفساد مزاجهم، يستلذون الأشياء التي ليس شأنها أن يلتذ بها من الطعوم. ويتأذون بالأشياء التي تكون لذيذة، ولا يحسون بطعوم الأشياء الحلوة التي من شأنها أن تكون لذيذة، كذلك مرضى الأنفس، بفساد تخيلهم الذي اكتسبوه بالإرادة والعادة، يستلذون الهيئات الرديئة والأفعال الرديئة، ويتأذون بالأشياء الجميلة الفاضلة أو لا يتخيلونها أصلا». بل أن الفارابي يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يتحول إلى محلل نفسي لهؤلاء المرضى، نظرا لازدواج شخصيتهم، وربما يكون هذا الازدواج في الشخصية من مميزات النساء العربيات: «وكما أن في المرضى من لا يشعر بعلته، وفيهم من يظن مع ذلك أنه صحيح، ويقوى ظنه بذلك حتى لا يصغي إلى قول طبيب أصلا، كذلك من كان من مرضى الأنفس لا يشعر بمرضه، ويظن مع ذلك انه فاضل صحيح النفس فإنه لا يصغي أصلا إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم». كم هو رائع هذا التشخيص لمرضى الأبدان والأنفس في المدن الجاهلة، ولعل ما يجعله رائعا أيضا هو إلغاء إمكانية العلاج، نظرا لتوهم المرضى بأنهم أصحاء، ولذلك لا يسمعون إلى طبيب ولا إلى قول معلم. فبزوال هذه الإمكانية يصبح هذا العمل الذي نقوم به مجرد تأملات ميتافيزيقية لا تصلح لهذا العصر، الذي حطم المعقولات، والمثل وأبعدهما عن الحقيقة، ليجعل منها لعبة في يد الأقدار، وبخاصة وأن معرفة الحقيقة لا يمكن بلوغها إلا من خلال الفكر وحده، وليس انطلاقا من الخرافة والآراء العشوائية التي تشجه على الشعوذة والابتهالات إلى السماء، لأن رفع الحقيقة إلى السماء معناه إفراغ الإنسان من إنسانيته بعد تحطيم كينونته. هكذا تبرز الحاجة من جديد إلى تحرير النساء من المدينة الجاهلة وجعلهن في قلب النهضة العربية، لأنهن يعلمن القراءة والكتابة، وبإمكانهن نشر فضيلة العلم والمعرفة، إذا كن متعلمات، والشاهد على ذلك أن الثورة الثقافية في ألمانيا مثلا لم يحققها الرجال، بل النساء، انطلاقا من تعميم القراءة، وتعليم الكتابة، فما أحوجنا إلى نساء يعممن القراءة في أمة كتاب لا تقرأ الكتب، إنها توزع حياتها بين المطبخ وغرفة النوم وعبادة الفضائيات. ولعل هذا بالذات ما يجعلها تنسى أهم ثروة يمتلكها الإنسان بما هو إنسان هي الفكر «فإذا كان من الصواب أن نقول إن الفكر هو الذي يميز الإنسان عن الحيوانات الدنيا، فسوف يصبح كل ما نصفه بأنه إنساني يرجع إلى عملية التفكير، ولكن الفلسفة ضرب خاص من التفكير، ضرب يتحول فيه التفكير إلى معرفة»، فما العمل إذا كانت أمة لم تفكر بعد، من خلال محاربتها للفلسفة؟، وكيف يمكن لهذه الأمة ان تشيد المعرفة؟، بل كيف يمكنها بجهلها أن تحرر النساء من العبودية؟، وهل بإمكان الوعي بالذات أن يكسر قيود العبودية عن النساء المقهورات؟.