كانت جريدة الاتحاد الاشتراكي ومنذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي زائرتي في ظهيرة كل يوم، ولم يكن أبي يقتنيها بدافع الواجب النضالي، بقدر ما كان عاشقا للصحافة الاتحادية، متلذذا ومتفاعلا مع ما يكتبه صحفيوها من مقالات، ومستمتعا بما ينشره الكتاب والمبدعون في ملاحقها المتعددة، وبقدر ما كان يرغب في غرس فعل القراءة اليومية وتنشئتنا وفق مبادئ تقدمية حداثية تنتصر للفكر وللعقل. وهكذا، وقبل أن تتشكّل لدي صورة عن حياة ومسار الشهيد المهدي، ولجت إلى ذاكرتي البصرية صورته، فقلّما يصدر عدد دون نشر مقال يطالب بكشف حقيقة اختفائه، أو روبورتاج عن مسيرته، سواء في بعدها الوطني ( نبوغه الدراسي، توقيعه على وثيقة المطالبة بالاستقلال، بناء طريق الوحدة، تأسيس حزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ..) أو في بعدها العالمي كمساندته لحركات التحرر في العالم ولقضايا التنمية في بلدان العالم الثالث. وكانت هذه الروبورتاجات دليلا واضحا على استثنائية الرجل، وهي استثنائية اقتنعت بها وتشبّعت بها روحي بتأثير ما سبق، وبتأثير الذبذبات الصوتية التي كان يحكي لي بها أبي (أستاذ الرياضيات) تفاصيل حياة الرجل، وخاصة تفاصيل وسيناريوهات إخفاء جثته وتذويبها وعن الأطراف المشاركة فيه، والتي تؤشر على أن الشهيد لم يكن همّ مناصرته للحق والعدل يزعج ويخيف طرفا واحدا وإنما أطرافا متعددة أجمعت على التخلص منه؛ وهي تفاصيل لم يكن يمل من تذكرها كلما دعت المناسبة ذلك، وكم كثرت المناسبات، إذ أن الزمن كان زمن الوفاء للشهداء.