{ متى اقتنعتم بأن تغييرا مهما يجري في تونس؟ فوجئت مثل الكثيرين بتسارع الأحداث التي أدت الى فرار بن علي. فهمت بأنها كانت نهايته خلال تدخلاته في التلفزة، خاصة تدخله الثالث، كانت حركاته لا تتطابق مع ما كان يقرأه على الشاشة، كما لو أن شخصا متخفيا كان يملي عليه تصرفه. الرجل كان مرتبكا كما لو أنه يكتشف الواقع، وعندما كان يقول «لم أكن أعلم، لم يخبروني بالحقيقة«« هنا، على الأقل، كان صادقا، نظرته ذكرتني بنظرة تشاوشيسكو الذي اكتشف هو الآخر فجأة الواقع أمام جماهير معادية. { هل كانت فرنسا تعلم برحيله؟ لقد جرى السيناريو بسرعة مذهلة حتى أن السفارات الأوربية, وحتى سفارة الولاياتالمتحدة فوجئت. لا أ عتقد أنه كان هناك تدخل أمريكي مباشر أدى الى انهيار النظام. فواشنطن تتوفر على وسائل ضغط محدودة في تونس، خلافا لما هو موجود في مصر. { هل دفع الجيش بن علي الى الخروج؟ تعرفت على الجنرال رشيد عمار عندما كان ر ئيسا لهيأة أركان القوات البرية, وهو جيش اعتبره جمهوريا مكونا بشكل جيد, وكانت لنا معه علاقات تعاون, فهو الذي اتخذ قرار عدم اطلاق النار على المتظاهرين، ولم يفاجئني ذلك. ولكن هل يمكن أن نجزم بأنه تدخل مباشرة لتشجيع ر حيل بني علي؟ { كيف هو الجنرال رشيد عمار؟ مثقف، منفتح ,بشوش، كان يتحدث كثيرا عن حقبة بورقيبة, وهو ما كانت له دلالته, كنت التقيه باستمرار، كما كنت ألتقي وزير الدفاع دالي جازي أحد الشخصيات القليلة التي كانت ماتزال قادرة على الحديث بصراحة مع بن علي، ولو أن الأمر كان بصعوبة. وهذا الأخير قام بأشياء كثيرة من أجل تحديث الجيش. { رشيد عمار كان جنرالا يتكلم .... نعم، كان لبقا وكانت له نظرة واضحة بالنسبة للرهانات الإقليمية، للعلاقات مع دول الجوار كان منشغلا بالقضايا الأمنية على الحدود... لم يكن يبدو كأحد المتسلقين في النظام. { عمار هل كان استثناء , أم ممثلا للباقين؟ كان يبدو لي كوجه مميز، وكان إلى جانبه ضباط مميزون آخرون كنا نستقبلهم بسهولة بإقامة المرسى بمناسبة زيارات كبار المسؤولين في الجيش الفرنسي. { لماذا هذا الضغط تجاهكم من جانب مسؤولي التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الرئاسي؟ اعتقد أنهم كانوا ينتظرون تعليمات من القصر لم تصل أبدا, لا أعتقد بأن الأمر يتعلق بنبد, ولكن هذا يذكرني بغياب العلاقات التي تكون عادة بين الدبلوماسيين والاحزاب السياسية في الأنظمة الاستبدادية. { عندما كنت في المسؤولية من 2002 إلى 2005 راج الحديث عن إمكانية تمديد مهمتك. فعلا، ولكنني لم أكن أرغب في ذلك لأنني كنت أعتقد أن السنة الرابعة قد تسير بشكل سيء، في الوقت الذي سارت مهمتي حتى ذلك الوقت بشكل رائع, ولو أنها كانت تزداد صعوبة شيئا فشيئا, أعتقد أنه كان يجب ترك مكاني لشخص آخر. كنت تحت ضغط دائم وتحت المراقبة لمنعي من لقاء المعارضين وشخصيات مع المجتمع المدني، وكان ذلك نفس الأمر بالنسبة لباقي السفراء الاوربيين. بعضهم كان حساسا تجاه هذا الأمر. أسفت لأني لم استطع تشجيع موقف موحد للسفراء الاوربيين في تونس حول قضية حقوق الانسان. تدريجيا، كان النظام قد أصبح أكثر قمعا ولا يستطيع أن يقبل بأن تكون للدبلوماسيين الغربيين علاقات مع المعارضة, لست متأكدا بأن ذلك كان بأمر من بن علي شخصيا، بل أعتقد أن ذلك من فعل محيطه, كنت أثير معاهدة جنيف لأقول بأنني أعطي الأولوية للاتصالات المؤسساتية, لأن الدور الاول للسفير هو ضمان تمثيلية الدولة الفرنسية لدى السلطات المحلية, ولكن يتعين على الدبلوماسيين كذلك أن يقوموا بالملاحظة السياسية دون قصد بالتدخل وأن يكونوا على اتصال مع القوى الحية للبلد. { كيف كانت تنظم علاقاتكم مع التونسيين؟ عندما وصلت إلى تونس قدمت أوراق اعتمادي للرئيس, ثم زرت الوزير الأول وتقريبا قمت بزيارة لجميع أعضاء الحكومة وعلاقات التعاون بيننا كانت جد متنوعة وتغطي العديد من الميادين, التقيت فيما بعد الامين العام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي وممثلي أهم الجمعيات القريبة من النظام ,ثم التقيت رؤساء الاحزاب المرخص لها, سواء الممثلة في البرلمان أو غير الممثلة ,ثم بعد ذلك التقيت الجمعيات المستقلة مثل الرابطة التونسية لحقوق الانسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات إلخ..كان مساعدي الوزير المستشار جان بيير فيليو وجان هانوير المستشار السياسي، اللذين كانت مهمتهما الاساسية هي فتح حوار وثيق مع السلطات حول القضايا الاقليمية وعلاقات التعاون بيننا، كانا ايضا على اتصال مع جميع مكونات المجتمع وخاصة الجمعيات المستقلة. بطبيعة الحال كنا مراقبين بشكل لصيق. اصحاب المطاعم كانوا ملزمين باخبار المصالح الامنية عندما يتواجد بها سفير. وكان بالإمكان رصد الاشخاص الذين كانوا مكلفين بمراقبتنا. كنا نستدعى الى وزارة الخارجية, وكان يشغل المنصب وقتها الحبيب بن يحيى ثم بعده عبد الباقي هرماس, حيث كنا نعتبر أن اتصالاتنا موجهة بشكل كبير, كانت الملاحظات ايضا ترسل من طرف السفارة في تونس الى وزارة الخارجية الفرنسية. لم نكن الوحيدين الذين نتعرض لهذه الضغوط,بعض الزملاء الاوربيين كانوا حساسين تجاهها الى حد الابتعاد عن المعارضة. كانت هناك ايضا ضغوط تمارس لدى ممثل اللجنة الاوربية السفير مارك بييرنيي، وقد بذلت جهود لدى بروكسيل من أجل استدعائه, لكن دون نتيجة. الضغوط كانت تتزايد كلما ازداد النظام تشددا, بطبيعة الحال, كنا نخضع لعمليات التنصت التي كانت في بعض الاحيان مفيدة جدا, بما انني كنت اعلم انني كنت خاضعا للتنصت، كان ذ لك يسمح لي بتمرير رسائل، لا سيما عبر مكالماتي الهاتفية على الخطوط غير المحمية مع وزارة الخارجية. { كيف كان رد فعل الخارجية الفرنسية؟ كنت دائما أحظى بالدعم, سواء من طرف خلفي على رأس قسم شمال افريقيا والشرق الاوسط او الوزراء دومنيك دوفيلبان وميشيل بارنيي. بهذا الخصوص، فوجئت لتصريحات دومنيك دوفيلبان لإذاعة فرانس انتير يوم 3 فبراير عندما قال بالحرف» ليس من تقاليد الدبلوماسية الفرنسية فيما يخص الدول العربية، ان يلتقي السفير المعارضة»« كل لقاءاتي مع وجوه المعارضة كانت دائما موضوع تقرير عبر برقية. وكانت هذه هي الطريقة بالنسبة لمجموع منطقة شمال افريقيا. شمال إفريقيا والشرق الأوسط بالنظر إلى أن دبلوماسيينا ليست لهم علاقات إلا مع التنظيمات التي تعمل في إطار الشرعية. السفارة كانت ترسل مراسلات غنية جدا تتعلق أساسا بالعلاقة الثنائية، وتطور تعاوننا، والإجراءات حول القضايا الإقليمية وكانت تتضمن تقييمات حول الوضعية السياسية الداخلية وتطور النظام. في بعض الأحيان، نتأسف على غياب »ويكيليكس« على الطريقة الفرنسية - و هو أمر غير مستحب بطبيعة الحال- لأنه يمكن أن أقول بأن برقيات السفارة الأمريكية تتضمن في أغلب الأحيان نفس تحاليلنا، لاسيما وأن الأمريكيين، بحكم تواجدهم القليل في تونس، كانوا يطلبون منا تزويدهم بمعلوماتنا وتحاليلنا. أنتظر اللحظة التي يقوم فيها المؤرخون بدراسة مقارنة للمراسلات الدبلوماسية الفرنسية والأمريكية و بالأخص فيما يتعلق بمنطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط. { أي نوع من التحاليل؟ قمنا بعدة دراسات معمقة حول تطورات المجتمع التونسي, أذكر واحدة منها يعود تاريخها إلى سنة 2004 حول الشباب بعنوان «»أن يكون عمرك 20 سنة في تونس««, كنا نحس باحباط بسبب البطالة, ولكن أيضا بسبب غياب مجال سياسي أو ثقافي, العديد من الشباب من أصحاب الدبلومات كانوا يتطلعون لمغادرة البلاد في غياب أي أفق مستقبلي. هذا الشباب كان يبدو مقسما بين الانبهار بأوربا وبين الانبهار بالشرق العربي، كنا نلمس ذلك من خلال الاستماع للإذاعات والتلفزات العربية. { كيف كان يشتغل النظام التونسي؟ لا أعرف كيف يمكن وصف نظام بن علي. ربما وصفه بالدكتاتوري سيكون غير منصف, في العراق التي عملت بها كسفير في عهد صدام حسين، كان الأمر يتعلق بنظام دكتاتوري كلي دموي، بالنسبة لتونس كان يبدو لي رئيسها كمستبد، حريص أكثر فأكثر على إبراز شخصه مدعوم بنظام بوليسي. وهكذا كان كل السكان تحت المراقبة مع إكراه قوي لفرض شكل من الاجماع. وهو ما يفسر النسب غير المعقولة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. النظام كان يمارس التحرش ضد شخصيات المجتمع المدني في شكل اعتقالات وحجز جوازات السفر وقطع الخطوط الهاتفية. كنت في زيارة لتونس قبل أشهر، وأثارتني تلك الدعوة الغرائبية لترشح بن علي سنة 2014. كانت هناك حملة إعلانات منظمة تتضمن توقيعات مثقفين ورجال أْعمال لم يكونوا كلهم من الصف الأول. كان من الصعب أن يرفضوا وإلا تعرضوا لمراقبات ضرائبية والتعرض لضغوط أخرى. بالنسبة للإسلاميين يمكن القول أنهم عانوا كثيرا في أجسادهم. وبمجرد الإفراج عنهم، كانوا يظلون تحت المراقبة، كان يستحيل عليهم أن يجدوا عملا. كنا أمام نظام بوليسي وحقير. عندما قرر محمد شرفي وزير التربية الاستقالة والانخراط في معارضة الظام، انتقم هذا الأخير من زوجته فوزية شرفي استاذة الفيزياء, وكانت تقود المعهد الاعدادي للدراسات العلمية والتقنية وتمت احالتها على التقاعدا لمبكر، وهي اليوم في الحكومة. { هذا النظام كان فريدا... كان يتميز بالرقابة التي كانت تجتمع على جميع وسائل الاعلام, المسؤولون كانوا يشتكون من القنوات الفرنسية، و بالاخص من قناة الجزيرة التي كانت تستضيف معارضين أمثال راشد الغنوشي. كنت أقول لهم اذا كان مواطنوهم يتجهون نحو القنوات الفرنسية والفضائية العربية, فلأن هناك ربما، تقصير في الاعلام الوطني المراقب والمتحكم فيه كليا. مثلا لكي تحصل على اخبار الفيضانات الخطيرة لسنة 2003 التي خلفت عشرات الضحايا كان التونسيون يشاهدون الجزيرة. وجرت مساعي لدى السفارة للاحتجاج كلما اثير موضوع لا يروق النظام. لا سيما من جانب اذاعة فرانس انتير او قناة فرانس 2. كنت اقول للمسؤولين بانه ليس هناك بلد اخر يتصرف بهذا الشكل، وانني لا أرغب في ان اشبه النظام الاعلامي التونسي بنظام كوريا الشمالية. { كيف كان يشتغل النظام؟ الوزير الاول كان يمارس مهام التدبير والتنسيق داخل الفريق الحكومي, و بالنظر الى الحجم الكبير لبرامج التعاون بيننا والتزامات الوكالة الفرنسية للتنمية التي تجعل من تونس احد اكبر الدول التي تحصل على اكبر المساعدات بالنسبة للفرد, كنت على اتصال دائم مع الجهاز الحكومي الذي يبدو لي بكفاءة جيدة. العديد من الوزراء التقنوقراط تلقوا تكوينا عاليا في تونس وفي فرنسا. الوزراء كانوا موجودين وملمين جيدا بالقضايا التي نعالجها، وهو ما كان يسمح بالوصول الى نتائج جيدة. في العديد من دول المنطقة، يقال لك بأن الوزير وحده هو الذي بامكانه ان يقرر، هذا الأمر لم يكن في تونس، كنا نتعامل مع موظفين سامين وخاصة في وزارة الخارجية التي تتوفر على دبلوماسيين أكفاء. مع وزارة الداخلية، كان لنا تعاون محدود, ولكننا كنا نحس انه فيما يتعلق بنظام القمع، لم يكن الوزير بالضرورة طرفا، كل شيء كان يوجه من قصر قرطاج والمحيط المباشر للرئيس. { و ماذا عن التجمع الدستوري الديمقراطي؟ لقد كان شكلا من أشكال الحزب/ الدولة, يشارك بشكل وثيق في مراقبة السكان مع وظيفة اجتماعية, لم تكن لنا علاقات كثيرة معه. في الأقاليم لم يكن سهلا لقاء الولاة, ولكن كان يتم تنظيم لقاءات مع مسؤولي جمعيات رسمية وكان يحضرها مسؤول التجمع الدستوري الديمقراطي ودائما لا يتدخل. يمكن أن نتساءل عن الجدوى السياسية من منعه, البعض كان يعتبر أنه يجب تفادي ارتكاب نفس الخطأ الذي ارتكبه الامريكيون مع حزب البعث في العراق. هل يمكن إصلاح التجمع الدستوري الديمقراطي من الداخل؟ في كل الأحوال فهو امتداد للحزب الدستوري الجديد, حزب بورقيبة. { من هو بن علي؟ لم يكن من السهل على السفراء الوصول إليه, كنت التقي باستمرار مساعديه المقربين, لم ألتقه رأسا لرأس إلا نادرا, وغالبا على هامش المناسبات الرسمية, وهو ما كان يسمح لي بتمرير رسائل ..كنت أحضر عندما يستقبل الشخصيات الفرنسية التي تزور تونس. كان يبدو لي كقومي عربي متشبث جدا ببناء اتحاد المغرب العربي, لقد كان أحد مواضيعه المفضلة, لقد كان يأسف لكون النزاع الجزائري المغربي يمنع بناء هذا الاتحاد, لقد كان أيضا مشدودا نحو الشرق العربي, وسمعته مرة ,وبشكل غريب, يتحدث بافتخار عن وجود جهاديين تونسيين في العراق في أعقاب سقوط صدام حسين. { كيف كان يشتغل بن علي؟ لقد كان يشتغل كثيرا أمام حاسوبه, كان يتابع كل الملفات ويستدعي الوزراء لينبه إلى الأمور التي لا تسير بالشكل المرغوب. وفي الفترات الأخيرة، تساءلت إن كان يعاني من نوع من التراخي والكسل، فهذا حال من يظل في السلطة لعدة عقود، وهو ما حصل مع مبارك. تابع ص 11 } وماذا عن ليلى؟ مما لا شك فيه، أنها لعبت دورا أساسيا خلال السنوات الأخيرة بفرضها ضغوطا على الرئيس. لم تتح لي قط فرصة الالتقاء بها، ونفس الشيء بالنسبة لزوجتي التي رفضت الانضمام إلى ناديها «إيسا». لكن حضورها كان قويا، إذ كانت تظهر في التلفزيون، حيث كانت تعبر بشكل أفضل مما كان يفعل بن علي. الكثيرون كانوا يبالغون في الحديث عن دورها السياسي، وكانوا يقولون إنها قد تخلف بن علي، لكنني لم أثق في تلك الأحاديث أبدا. فالنظام الذي اعتمدته من أجل التحكم في القطاعات الاقتصادية كان يروم خدمة مصالح الطرابلسية، الذين لم أكن أتمنى أن تجمعني بهم أية علاقة. كنت أتساءل إن كان الهدف من ذلك يتجاوز مراكمة الثروة إلى العمل على ضمان المستقبل والتحكم في خلف بن علي، دون أن أفكر في أنها هي أو صهرها صخر المطري قد يتطلعان لخلافة بن علي. } هل كان ذلك التحكم يشمل حتى الشركات الفرنسية؟ لم يكن ذلك يحصل كثيرا، لكن عندما يحدث ذلك، فإنني كنت أتحرك. لقد كان النظام يسعى، بغض النظر عن الفساد، إلى السيطرة على كبريات المقاولات في كل القطاعات الواعدة تقريبا. وكانت شركات فرنسية قد تعرضت للتهديد في مناسبتين. وقمت بمبادرات لدى الوزارات المعنية، دون تحديد أن مصدر تلك التهديدات هو جماعة الطرابلسية. أشرت إلى أنه كانت ثمة محاولات مشبوهة، وطلبت من مخاطبي أن يوصل الأمر إلى «الجهات العليا»، لأتوصل في غضون أسبوع برد مطمئن. كان يكفي أن أجعلهم يعرفون أنني على اطلاع بما يجري ليتوقف الأمر. لكن هذا لا يمنع من القول إن نظام التحكم والفساد أسفر عن تراجع في الاستثمارات الداخلية والخارجية، إذ كان المستثمرون يتخوفون من فقدان قسم من استثماراتهم أو كلها. } ما هي الأوضاع بعد مرور شهر؟ في رأيي أنه لن تكون ثمة عودة إلى الوراء، لكن الانتقال إلى الديمقراطية لن يكون أمرا سهلا، لأن الأمر يفترض إعادة بناء المؤسسات. تنبغي مراجعة الدستور، كما يتعين على الأحزاب المتطلعة للمشاركة في الانتخابات المقبلة أن تفسح المجال للأجيال الشابة. وفي عهد حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، كنا نجد أن الشباب كانوا يريدون إصلاح الحزب من الداخل، لكن الموالين للقيادة هم الذين بقوا. أتساءل إن كنا سنرى تشكيلة جديدة تكون أكثر تمثيلية للمجتمع المدني وفي مستوى الثورة الديمقراطية. } هل يمكن القول إن حزب النهضة هو الحزب الوحيد الذي يشتغل في الوقت الراهن؟ لا أعتقد ذلك، لأنه تعرض لقمع كبير. لكن ما هي الحالة النفسية لآلاف النشطاء الذين تعرضوا للاعتقال في سجون بن علي مقارنة مع راشد الغنوشي الذي يبدو معتدلا في الوقت الراهن بقبوله عدم مراجعة قانون الأحوال الشخصية وكل المكتسبات التي تحققت في عهد بورقيبة والتي زكاها نظام بن علي؟ هذا أمر صعب. لا شك أن لحزب النهضة أنصاره لأن الحركة الإسلامية موجودة، لكن قد لا تكون بتلك الأهمية التي تحيط بها. } هل النهضة حركة تميل إلى العنف؟ كانت الحركة مسؤولة عن أعمال العنف التي وقعت سنوات التسعينات من القرن الماضي، لكن بعد الاستماع إلى الغنوشي، تكون لدي انطباع بأنه تطور، وتم في 2004-2005 التوقيع على أرضية مشتركة مع الأوساط التقدمية. ويرى بعض أطر الحزب أن نموذجهم في الوقت الراهن هو حزب العدالة والتنمية التركي. ويمكن تسجيل تأثير ثقافي وسياسي كبير من تركيا على البلدان العربية التي قد تعيد النظر في الدور المركزي لمصر. كما يمكن معاينة هذه التطورات من خلال البرامج التلفزيونية، حيث عرفت المسلسلات التركية المدبلجة نجاحات كبيرة. لقد أضحت تركيا فاعلا أساسيا في مجموع الدول العربية. وفي تونس، كما هو الحال في باقي البلدان، يظل الإسلاميون بعيدين عن أن يشكلوا أغلبية (30 بالمائة على أقصى تقدير). الكثيرون يعتقدون أنهم يشكلون تهديدا، لكنني لا أعتقد ذلك (ولا حتى في مصر) لأن هذا لا يتوافق مع تطور بنيات هاته المجتمعات التي تسير أكثر فأكثر نحو العلمانية. } وماذا عن ليبيا؟ للقذافي أيضا مشاكل على المستوى الداخلي. إنه يواجه مشكل الشرعية، والبلد يمكن أن يدخل مستقبلا في أزمة خلافة. إن ابنه سيف الاسلام يحيل إلى جمال مبارك (وإلى ابن صالح في اليمن). ومع نهاية حكم هذه السلالات، فإنه سيكون من الصعب عليه أن يخلف والده، الذي هو الآخر في نهاية مساره. } وماذا يمكن لفرنسا أن تفعل؟ مواكبة الحركات الديمقراطية بشكل ذكي وأيضا الإيمان بها. } في هذا الوقت، الذكاء ليس على ما يرام في «الكيدورسي» (وزارة الخارجية)... يجب التفريق ما بين الديبلوماسيين والسياسة. إن التحليلات الديبلوماسية بخصوص نظام بن علي كانت أكثر انتقادا منذ أمد طويل. وكان أوباما قد حيى شجاعة وكرامة التونسيين. يوجد لدى الأمريكيين مراقبون جيدون أوجدوا الكلمات المناسبة. أما فرنسا فلم تعثر على التعابير الجيدة حينما أعلن احد بلاغات الايليزي أن باريس «أخذت علما بالانتقال الديمقراطي». على العموم فإنه حينما يتم أخذ علم بوضع معين، فهذا يعني أنها وضعية لا ترضيك. وعندما أعلن الوزير الأول، لربما من أجل تصحيح التعبير غير المناسب لميشال أليو ماري، «نحن على استعداد أن نساعد تونس من أجل تنظيم الانتخابات»، هذا بالنسبة لمن هو أقل صوابا، وايضا اسلوب لتقديم الدروس الى تونس. إنها ليست كذلك، بلد أقل نماء وتطورا ليست له الامكانيات لتنظيم تقني للانتخابات. } يمكن القول إن فرنسا بدأت تبدي اهتماما أقل بتونس... لا. إن المثير في الأمر، هو تلك القفزة النوعية في التضامن في أوساط الرأي العام، كما تمت ترجمة هذا التضامن عبر وسائل الاعلام بشكل استثنائي. فلم يسبق لهيئات التحرير أن عاشت هذا النوع من الانتقال المجالي. فقد انتقلت «فرانس كيلتور»، «فرانس انتير»، «فرانس 2»، «إيريفي» الى عين المكان والتقت الفاعلين السياسيين الجدد، و الاوساط الثقافية... فبعد التعبيرات اللغوية المجانبة للصواب، لابد من أن تعمل فرنسا على استعادة الثقة. وفي رأيي، لن يكون هذا بأمر صعب، إنها ضرورة متبادلة تأخذ بعين الاعتبار العلاقات الانسانية، الثقافية، الاقتصادية التي تربط بين بلدينا. } بالمناسبة، ما رأيكم في السفير الفرنسي الجديد بوريس بوييون؟ لا يمكنني ان أصدر حكما حول هذا الاختيار. إن الذي أعرفه عن هذا الرجل، الذي تمكنت من التعرف عليه عندما كنت مديرا ل«إفريقيا الشمالية والشرق الاوسط»، أنه ديبلوماسي شاب موهوب ومتهور في الآن ذاته.وكما تعرفون، ثمة توظيف مزدوج في «الكيدورسي» (وزارة الخارجية)، من خلال المدرسة الوطنية للإدارة ومن خلال ما يسمى «بجهاز الشرق». لقد مررت من خلال هذا الجهاز، الذي يتم من خلاله تكوين متخصصين، الذين، لسوء الحظ، يتم استخدامهم بشكل قليل جدا. كما انه لم يكن لدينا أي معرب في السفارة الفرنسية بالجزائر العاصمة. لقد أخذ بوييون المسار الثاني، إنه متحدث جيد باللغة العربية، وعلى اطلاع بالمغرب العربي، لقد اشتغل بالجزائر، وكان مكلفا الى جانب رئيس الجمهورية، بمنطقة افريقيا الشمالية والشرق الأوسط. وبالنظر الى تجربته ومعرفته الميدانية يجب ان نثق به. يتعين على كل ديبلوماسي يشغل منصبا ما أن يتحلى بالثقة وأن يكون منصتا الى نبض السلطات التي اعتمد لديها وإلى كل مكونات المجتمع.