تقرير رسمي يرصد تطور أسعار الاستهلاك في مدن شمال المغرب خلال أكتوبر 2024    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    تقرير إخباري: العدالة الدولية تلاحق "أصدقاء الغرب" وتكسر حصانة الكيان الصهيوني    أشرف حكيمي يجدد عقده مع باريس سان جرمان حتى 2029    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    انطلاق عملية "رعاية 2024-2025" لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد    بتعليمات سامية من جلالة الملك ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    بعد الإكوادور، بنما تدق مسمارا آخر في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا اللاتينية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    أسباب الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف الحرب!    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والحداثة والتدين الجديد 03 : قراءة في كتاب: «إسلام السوق» لباتريك هايني

نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود يوم السبت 14 مايو ندوة قراءة في كتاب «إسلام السوق» لباتريك هايني، بصالون جدل الثقافي، الكائن بالمقر المركزي للمؤسسة بالرباط، شارك في هذه الندوة الأستاذان الباحثان في علم الاجتماع، عبد الهادي أعراب )جامعة المولى إسماعيل( ورشيد الجرموني)جامعة شعيب الدكالي).
هكذا قدم الاستاذ عبد الهادي أعراب ورقة حول الكتاب سجل فيها أن تناول «هايني » لما أسماه «إسلام السوق » يأتي في سياق انشغاله بالديناميات الدينية والهوياتية التي عرفها العالم العربي والإسلامي، بدءا من منتصف تسعينيات القرن المنصرم. ولاهتمامه تحديدا بتحولات الإسلاموية ومنعطفاتها الراهنة، نبّه إلى مسارات جديدة من تعايش الأسلمة والعولمة، ضد الطروحات الاستشراقية التي اعتبرت المجتمعات الإسلامية محكومة بنمط تدين ثابت وضد الخطاب الإعلامي الأجنبي والسياسات الغربية المرددة لذات المنظور المختزل لتعددية هذه المجتمعات المختلفة.
وعلى الرغم من أنه أكاديميا، عالم سياسة ومتأثر ب «أوليفييروا »، ويمثلان معا أطروحة فشل الإسلام السياسي وانحسار نموذج تدينه المنغلق؛ فقد وطّن مؤلفه ضمن سوسيولوجيا الدين عبر مقاربة زاوج فيها بين التحليل الاقتصادي والاجتماعي؛ متأثرا ب «ماكس فيبر » لمّا هو مزج بين الاقتصادي والديني لبلورة أخلاقيات اقتصادية، واستلهم من «بيير بورديو » نظريته في «الحقل » لتجسيد تقاطع «إسلام السوق » مع مؤسسات الحقل الاقتصادي وثقافة الشركات التي تغذي نماذج الخطاب الذي يستخدمه. ولتأطير هذا التدين الجديد، تبنّى منهجا وصفيا تحليليا عبر عدّة مفاهيمية تركيبية غنية، كما اعتمد لجمع بيانات بحثه، على استجوابات غير مباشرة، هي شهادات لنشطاء إسلاميين حول قضايا وإشكاليات دينية من خلال الموقع الإلكتروني «أون لاين ». وبملاحظته وتتبعه للممارسات الاجتماعية، متقمصا دور عالم الاجتماع، تنبّه للتحولات الاجتماعية الدقيقة التي مسّت العلامات والرموز والمفاهيم الدينية كالحشمة والعمل الخيري ونموذج الدعوة الجديدة وخطابها الإسلامي المنغمس في التجارة والمشاريع التنموية ونظريات المنجمنت.
أولا: السياق والخلفيات والدواعي والمنهج
يشكل كتاب «إسلام السوق » واحدا من الكتب المثيرة للجدل، لا من حيث المسمى ولا من حيث المعنى والمضمون الثاوي في الأطروحة / الكتاب. إذ أننا نعتبر أن هذا المؤلف، أرضية لفتح النقاش والحوار والجدل مع تيار عريض من حركات الاسلام السياسي ومن منتسبي ما يسمى في بعض الأدبيات «بالصحوة الاسلامية ». ذلك أن الكتاب يقدم رؤية نقدية مبنية على خلفية نظرية، وعلى عمل ميداني سوسيولوجي من خلال تتبعه لمختلف التحولات التي طرأت في رؤية حركات الاسلام السياسي، وللمنتسبين لها أو
المتعاطفين معها. سواء في البلاد العربية أو في البلاد الأوربية خصوصا فرنسا.
ويمكن اعتبار مجمل التحولات التي توقف عندها الباحث (هاني) معبرة بشكل او بآخر، عن صدمة الحداثة وما بعد الحداثة لهذه الحركات وللمشروع «الاسلامي » الذي تحمله، والذي كانت تدعي -هذه الحركات - انها أتت لكي «-تجنب » - مجتمعات العالمين العربي والاسلامي - مزالق التحديث والحداثة. فإذا بها تجد نفسها واقعة في شرك النيوليبرالية، وهذا ما يمكن تلمسه في وقوع شبه غياب للمرجعية 2 النظرية المؤطرة لميلاد حركات الاسلام السياسي، أو على الأقل وقوع تصدع في هذه المرجعية أو عدم الاجماع
حولها من طرف الأجيال الجديدة (أو كما يسميها الباحث هاني، بالاجيال الناقمة داخل حركات الاسلام السياسي).
1 وجبت الإشارة إلى أننا اعتمدنا في قراءتنا لهذا المؤلف، على الترجمة العربية، التي صدرت عن مركز نماء للبحوث والدراسات، (ترجمة، عمورية سلطاني، سلسة، ترجمات، العدد، 2، سنة، 2015، الرياض/ المملكة العربية السعودية، لبنان، بيروت).
2 إيريك هوبزباوم، «عصر التطرفات، القرن العشرون الوجيز، 1914 - 1991»، ترجمة فايز الصياغ، مؤسسة ترجمان، المنظمة العربية للترجمة، (بيروت)، 2011
يقدم الكتاب جملة من الأفكار النظرية والتفسيرية معززة بالعديد من الأمثلة التي تبين، إلى أي حد وقع انزياح في أسلوب التدين عند حركات الاسلام السياسي وعند العديد من الأجيال الشابة التي تقتنع بالاسلام كفكرة وبالقبول بمنتجات الحداثة بشكل أصبح نمط التدين يتماهى مع قيم السوق، وهو ما سنعرض له في هذه القراءة. يأتي كتاب «إسلام السوق »، في ظرفية سوسيوثقافية جد خاصة، حيث تبين أن مشروع الصحوة الاسلامية والحركات الاسلامية، قدفشل في تقديم نموذجها النقي للمجتمع وتحولها إلى مزيد من العلمنة وتقبل قيم السوق، كما يطرح ذلك كل من «أولف يروا » وجيل كبيل ». هذا على الرغم من أن ثورات الربيع العربي، أوصلت البعض منهم إلى السلطة، لكن ذلك لا يعني أنها نجحت في مشروعها الفكري والأيديولوجي والذي كانت ترفعه، تحت مسميات «أسلمة الدولة والمجتمع .» ما يميز هذا العمل، هو أنه جاء نتيجة متابعات مكثفة للمعيش اليومي لأنماط التدين والتصرف والسلوك، سواء للأفراد او الجماعات المنضوية في حركات الاسلام السياسي. وأيضا تحليل الخطاب المروج في
القنوات الفضائية، عبر ما يسمى في الأدبيات السوسيولوجية «بالدعاة الجدد ». وقد كان لا فتا للاهتمام، كيف فكك الباحث «هاني » بنية الخطاب الذي تتداوله الأدبيات الجديدة لأبناء حركات الاسلامي السياسي، من مفاهيم ورؤى وأفكار وتصورات، خصوصا ما تعلق منها بالانتقال من جدلية السياسي والديني إلى جدلية جديدة تجمع بين الدين والاقتصاد. أو من خلال التبني، - لأبناء حركات الاسلام السياسي-، الساذج لأدبيات التنمية البشرية و «المانجمينت » والقيم البروتستانتية، التي تمجد النجاح الفردي، وهي كلها قيم ومسلكيات سبق أن عرفتها المجتمعات الغربية خصوصا ذات التوجهات الدينية البروتستانتية. قبل أن نعرض لأهم ما جاء في هذا الكتاب الشيق والجدلي، يجمل بنا التوقف عند بعض المنطلقات النظرية التي أصبحت تؤطر وتشرط وضعنا الانساني عموما، حيث أن قيم الحداثة وما بعد الحداثة أصبحت توجه الجميع ولا تستثني أحدا، بل حتى الموروث الديني والتقليدي الذي لا زال مترسبا في الذهنية العربية والاسلامية، هو الآخر يتعرض للعديد من التحولات والتغيرات والانزياحات. فكيف يمكن أن نشرح ذلك؟ لا شك أن مجتمعاتنا اليوم تجد نفسها غارقة في النزعة الاستهلاكية، حيث الطقس الاستهلاكي المفرط لكل السلع والمنتوجات والقيم والرموز، أدى إلى بناء مجتمعات تنشد الخلاص الفردي وتبحث عن الربح بأي ثمن، وهو ما يضرب في العمق كل الايديولوجيات والفلسفات الكبرى التي كانت تؤطر المجتمع، وحلت محله قيم السوق بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد تولد عن هذه القيم الاستهلاكية، قيم جديدة تنحو نحو الفردنة والعزلة والغربة أحيانا، مما يقوض في العمق الروابط المجتمعية، الاسرة والقبيلة والحي وأشكال التجمع التي خلقتها حركات الاسلام السياسي، خصوصا في المدن التي يكثر فيها هذا النمط من العيش. وإذا أردنا ان نفهم جيدا طبيعة هذه القمي، فإن الباحث «لويك هولمان »، يشير، إلى «كون مجتمعات التحديث وما بعد التحديث لم تعد تستمد توجهاتها القيمية من الدين ومؤسساته، وإنما من الاستقلالية الفردية، فكل فرد أصبح هو المرشد الاخلاقي لنفسه، وبذلك تراجع التوجيه الاخلاقي الجماعي لصالح الاستقلال الفردي الذي أخذ يملي على الافراد اختياراتهم الخاصة واساليب حياتهم »1 . ولعل أهم ما ميز الثورة المعلوماتية الجديدة، هو الصعود القوي لمجتمع «الفرجة والتلذذ » وطلب النجومية، يقول «بودريار: «لقد وصلنا إلى النقطة التي يحيط فيها الاستهلاك بكل شيء، حيث تتسلل كل النشاطات طبقا لنمط تركيبي واحد، وحيث ترسم مسبقا لوحة الاشباعات ساعة فساعة، فالاستهلاك هو طقس »2 . ولهذا من خلال هذه الفكرة يمكن أن نفهم كيف وقع ذلك الصعود القوي للدعاة الجدد عبر الشاشات التلفزيونية وكيف بدأوا يشكلون «موضة » ديني في هذا الحقل الديني الشديد التعقيد والتركيب. وليس بخاف على أحد أن أهم ما يسم طبيعة المجتمع الشبكي، هو أن يصنع هويات جديدة، تعيش على وقع «مجتمع الانغماس في العوالم الافتراضية »، أو ما سماه أحد الباحثين الحياة الثانية ) .)seconde life في هذا الصدد يقول أحمد توفيق )وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية المغربي الحالي(: «يجد المدمن على الوعظ الالكتروني نفسه في حالة تشبه اليتم، تقوي الشعور بالغبن والعزلة وتدفع إلى تضخيم الأنا وإلى الاعلاء المتطرف للذات .»3 كل هذه الإفرازات التي برزت مع موجات الحداثة وما بعد الحداثة، كان لها بالغ التأثير على مجموع القيم والمسلكيات التي يتفاعل معها الانسان المعاصر، وهو ما تجلى بشكل كبير في الحقل الديني. لهذا فإن كتاب «إسلام السوق »، حاول أن يستدمج كل هذه المقولات، لقراءة واقع التحولات التي جرت في السنوات الاخيرة من القرن الفائت وبداية الألفية الثالثة. ثانيا: في الدلالات والخلفيات النظرية لمفهوم السوق الديني
-1 في الخلفيات النظرية لمفهوم السوق
لم يكن «باتريك هاني » هو الوحيد الذي استعمل مفهوم «السوق » في دراسته عن الاسلام، وعلى مجمل التحولات التي اعترت المشهد الديني الاسلامي، بل إن المفهوم يجد له تراثا نظريا يستمد أصوله من الحقل الاقتصادي ما هو معلوم، لكن تم توظيفه في إطار نظري أوسع، أو كنموذج تفسيري صالح للدراسة والتحليل. وهو ما نجده مثلا عند الباحث «اولف يروا » الذي رصد في كتابه «الجهل المقدس »1 ، الخلفيات النظرية التي تساعدنا على فهم مختلف التحولات التي عرفها الدين والتدين في عالمنا المعاصر، إذ يعتبر أن هناك نظريتان تؤطران الحديث عن هذا الموضوع وهما:
أ- نظرية التثاقف ) )Acculturation
ب- نظرية السوق
بالنسبة للنظرية الاولى، فهي ليست جديدة داخل التراث الانثروبولوجي، بل تقوم هذه النظرية على فكرة أن التأثير في التحولات الدينية أو غيرها، تقتضي أن هناك نموذجا مسيطرا هو يتم الاحتذاء به، وقد يكون سياسيا أو فكريا أو إديولوجيا، وهو - أي هذا النموذج -، يتم استبطانه من طرف المغلوب الذي يخضع لسيطرة الطرف القوي. أو كما كان يقول سابقا «ابن خلدون » أن المغلوب مولع بتقليد الغالب ». وهذه الفكرة تصدق على عمليات التثاقف التي تحصل في عالمنا المعولم، والتي لم تستثن أي حقل من الحقول، بما فيها أقدس الحقول وهو الدين. «ونظرية التثاقف تقتضي أن هناك ثقافة دينية مهيمنة تؤثر على الطرف المسيطر عليه ) dominé (، وهذا ما يؤدي إلى وجود حالة من التدين «الهجين » و «التلفيقي ». ولعل أطروحة الكتاب «إسلام السوق » تتبنى وتدافع عن هذا الطرح من خلال تتبع كيف وقع تحول هام في المشهد الديني عند المسلمين من اختراق ثقافة السوق للمقدس الديني وذلك عبر العديد من المجالات الحياتية. ورغم أن الباحث «روا » قلل من قيمة هذه النظرية، لأنها تتجاهل الديناميات الداخلية التي تتمتع بها، كل ثقافة ديني على حدة. وأيضا لاننا لا نجد أنفسنا أمام استيلاب كلي للمغلوب لثقافة الغالب. إذ بقدر ما نتحدث عن تمازج هجين بين الثقافات، فإننا نجد أن أغلب الشعوب، تعيش نوعا من التلون الاستراتجي »، الذي يعكس ذكاء هذا الشعب المغلوب، أو ذاك، في استيعاب ثقافة الغالب بطريقته الخاصة.
-2 نظرية السوق: استدمج مفهوم السوق من الحق الاقتصادي ليندلق للحقل الديني، عن طريق العولمة التي خلقت موجة من التدفقات الكثيرة في عالم الرموز والافكار والقيم والدين وجعلت كل ذلك في متناول الفرد » وهذه النظرية على خلاف النظرية الأولى، تستلهم بوعي أو بدونه الخلفية النيوماركسية خصوصا عندما تتحدث عن الاستلاب والاستغراب، والتي كان تنظر للدين باعتباره هيمنة وهيمنة مضادة. لكن نظرية السوق تستلهم بشكل آخر نظرية النيولبرالية ». ولهذا فالتساؤل المهم الذي طرحه «روا » يتجلى في كيفية اشتغال السوق الديني؟ ما هي الوسائل التي يتعمد عليها؟ وقبل ذلك وبعده، ما هي الخلفيات الفلسفية التي تعتمل في هذا السياق؟ للاجابة يقدم الباحث المتخصص في الحركات الاسلامية، الفصل بين السجل الديني والسجل الثقافي، وكذا سقوط الهيمنة الاجتماعية والمؤسساتية التي كانت من قبل. إنها نوع من العلمنة الصامتة التي تفعل فعلها في التأثير في إسلام السوق، حيث لا تعني العلمنة تهميش الدين كما هو سائد في الحس المشترك، ولكن عبر إزالة الحمولة الثقافية من الدين، وجعل منتجات هذا الاخير مستقلة بل محايدة وبدون هوية «ما سماه الباحث باتريك «بالسيولة .»
-2 حول المفهوم: ما ذا يعني إسلام السوق حسب «باتريك هاني ؟»
يقول «هاني » عن هذا المفهوم، «إنه مزيج من النزعة الفردانية المتعولمة ونزع للقداسة عن الالتزام التنظيمي بما يتضمنه ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي كانت تدعو إلى أن الاسلام هو الحل، وإعادة النظر في فكرة شمولية الاسلام لكل مناحي الحياة ». إذا كانت قيم ما بعد الحداثة تتحدث عن موت الحقائق الكبرى، ومن بينها موت السياسية، فإن «إسلام السوق »، سعني في بعض تجلياته البارزة، التخلي عن الربط بين السياسية والدين والهوية، إلى موجة جديدة من التدين تربط بشكل تفاعلي بين قيم السوق/ الاقتصاد والدين. ولهذا فما يميز «إسلام السوق » هو كونه ليس «حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم ولا تيارا أيديولوجيا كالسلفية، أو سياسيا كالإسلام السياسي، ولا يمثل مدرسة في الفكر الديني ». إسلام السوق حالة أو توجه قادر على التوطن والتأثير في كل حقائق الاسلام المعاصر. هذا التوجه يمكن أن يتجلى في بعض أنماط الحياة، وأشكال معينة من الدعوة، وحركية فكرية جديدة. ويمكن ان نلاحظ إسلام السوق لدى السلفيين والاخوان والصوفية. ويمكن أن نعتبر إسلام السوق في بعض المنتجات الهوياتيه )حجاب البحر، الاغنية الاسلامية، ...(. وهذا يعني أن إسلام السوق يؤشر على وقوع تصدعات في العقل الباطن لحركات الاسلام السياسي، ولمنتسبيه، حيث يبرز نوع من التدين، يبدو كحالة احتجاج داخلية هادئة على بعض النماذج الاساسية في الصحوة الاسلامية المعاصرة، بدء بفكرة الشمولية.
ثالثا: مورفولوجية الكتاب/ الأطروحة
إذا ما أردنا أن نلخص أهم الأفكار التي يناقشها الكتاب، فيمكن الإشارة إلى أربعة عناصر أساسية:
أولا: يدافع الكتاب عن تبلور حالة ملموسة من التدين الفردي، تتجاوز مرحلة الاسلاموية)الفصل الأول).
ثانيا: الانتقال من التفاعل بين ما هو ديني وسياسي، إلى ما هو ديني واقتصادي، أوما سماه الكاتب ب (لاهوت النجاح)، (الفصل الثاني).
ثالثا: التماهي مع قيم «المانجمينت » داخل تنظيمات حركات الاسلام السياسي الكلاسيكية، أو حتى المحدثة حديثا، حيث أصبحت هي العملة الرائجة في هذه الأوساط، مما دفع الكاتب إلى استخلاص علاقة تثاقف غير واعية بين القيم الأمريكية في الاقتصاد وأشكال التدين الحديثة في التنظيمات الاسلاموية المنتشرة هنا وهناك. (الفصل الثالث)
رابعا: من التشدد في إبراز الطابع السياسي الديني لحركات الاسلام السياسي، إلى تبني القيم المحافظة الأمريكية في التسويغ لفكرة الدولة غير المتدخلة في الشؤون الاجتماعية، مما يعطي الانطباع أننا أمام نموذج جديد من الدول لا يمت بصلة بينه وبين شكل الدولة في السابق. كل ذلك دفع الباحث «هاني » إلى استخلاص أهم فكرة في التحول الذي طرأ في نوعية الحراك الإسلاموي، من التخلي عن فكرة الدولة الحامية إلى الدولة المنسحبة. وهذا ما يزكي طبيعة التقارب الذي حصل ويحصل بين الاسلاميين والقياداتالأمريكية في الآونة الأخيرة. )الفصل الرابع والأخير).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.