نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود يوم السبت 14 مايو ندوة قراءة في كتاب «إسلام السوق» لباتريك هايني، بصالون جدل الثقافي، الكائن بالمقر المركزي للمؤسسة بالرباط، شارك في هذه الندوة الأستاذان الباحثان في علم الاجتماع، عبد الهادي أعراب )جامعة المولى إسماعيل( ورشيد الجرموني)جامعة شعيب الدكالي). هكذا قدم الاستاذ عبد الهادي أعراب ورقة حول الكتاب سجل فيها أن تناول «هايني » لما أسماه «إسلام السوق » يأتي في سياق انشغاله بالديناميات الدينية والهوياتية التي عرفها العالم العربي والإسلامي، بدءا من منتصف تسعينيات القرن المنصرم. ولاهتمامه تحديدا بتحولات الإسلاموية ومنعطفاتها الراهنة، نبّه إلى مسارات جديدة من تعايش الأسلمة والعولمة، ضد الطروحات الاستشراقية التي اعتبرت المجتمعات الإسلامية محكومة بنمط تدين ثابت وضد الخطاب الإعلامي الأجنبي والسياسات الغربية المرددة لذات المنظور المختزل لتعددية هذه المجتمعات المختلفة. وعلى الرغم من أنه أكاديميا، عالم سياسة ومتأثر ب «أوليفييروا »، ويمثلان معا أطروحة فشل الإسلام السياسي وانحسار نموذج تدينه المنغلق؛ فقد وطّن مؤلفه ضمن سوسيولوجيا الدين عبر مقاربة زاوج فيها بين التحليل الاقتصادي والاجتماعي؛ متأثرا ب «ماكس فيبر » لمّا هو مزج بين الاقتصادي والديني لبلورة أخلاقيات اقتصادية، واستلهم من «بيير بورديو » نظريته في «الحقل » لتجسيد تقاطع «إسلام السوق » مع مؤسسات الحقل الاقتصادي وثقافة الشركات التي تغذي نماذج الخطاب الذي يستخدمه. ولتأطير هذا التدين الجديد، تبنّى منهجا وصفيا تحليليا عبر عدّة مفاهيمية تركيبية غنية، كما اعتمد لجمع بيانات بحثه، على استجوابات غير مباشرة، هي شهادات لنشطاء إسلاميين حول قضايا وإشكاليات دينية من خلال الموقع الإلكتروني «أون لاين ». وبملاحظته وتتبعه للممارسات الاجتماعية، متقمصا دور عالم الاجتماع، تنبّه للتحولات الاجتماعية الدقيقة التي مسّت العلامات والرموز والمفاهيم الدينية كالحشمة والعمل الخيري ونموذج الدعوة الجديدة وخطابها الإسلامي المنغمس في التجارة والمشاريع التنموية ونظريات المنجمنت. في اختراق المجتمع والثقافة المدروسين عبر وسطاء وأدلاّء أهليين ومحليين 1. فإلى أي حد وفّق في تسليط الضوء على التحولات الدقيقة للتدين الإسلامي؟ لكن قبلا لماذا اختار لمؤلفه عنوانا مثيرا رابطا بين الإسلام دينا والسوق بدلالته الاقتصادية؟ وما دلالة أن تكون الثورة محافظة؟ نفى «هايني » أن تكون إثارة الجدل وراء اختياره لعنوان اعتبره تحليليا ونقديا، ربط فيه «ما بين أنماط معينة من التدين الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق 2.» معرّفا «إسلام السوق » بأنه: «مزيج من النزعة الفردانية المتعولمة ونزع للقداسة عن الالتزام التنظيمي، بما يتضمنه ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي كانت تدعو إلى أن الإسلام هو الحل وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة 3» . يتعلق الأمر بتدين تطور وتدعّم عالميا لينافس النموذج الإسلاموي الذي ربط الهوية بالسياسة والدين، لذا مثّل «الثورة المحافظة الأخرى » وهو العنوان الفرعي للمؤلف في نسخته الفرنسية وعمق أطروحته ككل؛ ثورة محافظة تستعيد درس الثورة الأمريكية المحافظة وفكرة الدولة غير المتدخلة قياسا للنموذج اليعقوبي الفرنسي. هكذا يمنح العنوان بشقيه، انطباعا قويا بأننا أمام نموذج إسلام على الطريقة الأمريكية، ممّا زاده جاذبية لا تخلو من استفزاز، لأن الربط فيه واضح بين الدين والاقتصاد والفصل فيه أوضح ما بين الإسلام والسياسة؛ هو إذن عنوان دال يرسم منذ البداية خارطة المؤلف الكبرى من أن سيرورة التديّن بالعالم العربي الإسلامي لا تقوم على الصراع أو الاصطدام بالثقافة الغربية بعد تراجع جاذبية الإسلام السياسي ويوتوبياته، لصالح قيم الفردانية والنجاح الاقتصادي المستعارة من الغرب الذي طالما تمت شيطنته في النموذج الأول 4. تتأسس أطروحة «هايني » إذن، على تفاعل ممارسات التديّن الإسلامي إيجابا مع فلسفة للسوق بعد أن داخلتها ثقافة إسلامية جديدة أرست علاقة مغايرة وأكثر انفتاحا مع العالم 5. وبالضد من أطروحة صدام الحضارات وأطروحة الحركات السياسية التي تضع الهوية مقابلا للعولمة، يؤكد تقاطع ديناميات العولمة وديناميات الهوية 6، مواجها في مستوى آخر العلمانية التي تدعو لإسلام الشأن الشخصي والإسلاموية ذات الطابع الشمولي. وبملاحظته وتتبعه للممارسات الاجتماعية متقمصا دور عالم الاجتماع، تنبّه للتحولات الاجتماعية الدقيقة التي مسّت العلامات والرموز والمفاهيم الدينية كالحشمة والعمل الخيري ونموذج الدعوة، ببروز خطاب إسلامي منغمس في التجارة والمشاريع التنموية ونظريات المنجمنت 7. ولئن كان هذا الانفتاح في مراحل أولية موجّها لتطوير فاعلية أداء الهياكل الإسلامية، فإنه صار من الرسوخ والثبات بما يكفي لبناء ذوات إسلامية ولإعادة صياغة الإسلام نفسه وفق مفاهيم لخصها «هايني » في «لاهوت النجاح 1» . لقد رأى في إسلام السوق احتجاجا داخليا هادئا على النماذج الشمولية للإسلاموية 2، مثّله شباب مثقف نشأ وهو على ثخوم الإخوان، متأثرا بالعولمة وبمفاهيم الليبرالية والرأسمالية، فطوّر أمزجة دينية مغايرة لدى الفئات المتوسطة 3 بمسحة صوفية بعيدة عن السياسة 4، ليفقد الخطاب الإسلاموي بالتدريج وهجه بعد أن تضاعفت دعوات مراجعته من الداخل 5 والاعتراض على هرمية تنظيماته وجمودها. 6 وبالتخلي عن شعار «الإسلام قادر على احتواء كل شيء » وفك الارتباط مابين الهوية والسياسة لصالح مساحات كبرى للفرد وللذات المنطلقة المتحررة 7، لم يعد الهدف الأسمى هو استعادة الخلافة أو تطبيق الشريعة وإنما بناء مجتمعات مدنية مزدهرة. 8 هاهنا مثّل «إسلام السوق » صوت «اتجاه إسلاموي ناقم » على طريقة عمل تنظيماته دون مغادرتها، واجدا في النضال الإسلامي لحماية البيئة وتمكين المرأة أو «النسوية الإسلامية » والتنمية الذاتية وحوار الأديان بعض ملامح الالتزام الديني. 9 إنه تدين محبّب ومرن وغير مسيس (منزوع الدسم) يعبّر عن «برجزة » سيرورة الأسلمة وإعادة برمجة العرض الديني ليوافق العالمية، بعد تنامي الحراك الاجتماعي للبورجوازية المرتبطة بعالمية الأسواق والتجارة والرفاه وبروز متدينين من التجّار ورجال الأعمال المتمسكين بتجديد الدين. 10 أو قل هو إسلام البورجوازية المتدينة الجديدة 11 الخالي من أي تعبير ديني عن المحرومين والمهمشين 12 والأقرب إلى التدين العملي الرأسمالي الذي رصده «ماكس فيبر » لدى البروتستانت؛ وهو تحديدا «ليس حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم ولا تيارا إيديولوجيا كالسلفية أو سياسيا كالإسلام السياسي 13» ، بل روح أو توجّه جديد تمكّن من التوطّن والتأثير في حقائق الإسلام المعاصر والتجلّي في أنماط الحياة وأشكال الدعوة الجديدة، سرعان ما انتشر إعلاميا )امتداد الشلال la diffusion en cascades ( ليبتعد عن إطاره النخبوي ويصير ظاهرة مجتمعية لدى الطبقات الوسطى الحضرية. 1 يؤكد «هايني » أن الميل الليبرالي 2 لإسلام السوق كتحول مرصود، اتسم بالمرونة وبذهنية جديدة في التعامل مع المرويات الكبرى للإسلاموية، نزعت عن الجهاد حمولته العنيفة ليصير أكثر سلمية «جهاد النهضة » أو «الجهاد المدني» واستعاضت عنه بالعمل التطوعي والحركة الاجتماعية أو ب «جهاد إلكتروني » يدمر المواقع المعادية للإسلام ناقلا الجهاد العسكري إلى العالم الافتراضي. 3 إنه عمل تأويلي للمفاهيم تمتّع بقدر وافر من «السيولة »4 أفرغت الجهاد من مضامينه الفقهية القديمة وألبسته مفاهيما حداثية معلمنة. 5 إلا أنها عملية مكلّفة وتتضمن قدرا من الخطورة، لكونها «لعبة » اقتطاع مفاهيم إسلامية من سياقها اللغوي والحضاري وإذابتها في سياق معولم سائل 6يفقدها خصائصها الأساسية 7، لهذا اعتبرها «هايني » مجرد جهد ترقيعي وتوافقي 8بين الإسلام والغرب بشكل ضمني أحيانا وعلني أحيانا أخرى 9. تؤشر هذه التوجّهات الورعة الما بعد حداثية لممثلي التدين الجديد في النهاية، على تفكك المشهد الإسلاموي من الداخل لصالح التوافق مع الثقافة الأمريكية وقيمها الاستهلاكية، بظهور شركات: مكة كولا وزمزم كولا وقِبلة كولا وعرب كولا 10 وربط الحجاب بالموضة والعلامات التجارية وإعادة تعريف الزكاة في إطار إنسانوي غربي ومزج النشيد الإسلامي بإيقاعات عصرية جديدة. 11 كما أبانت موجة المدارس الإسلامية عن بعد تسويقي واسع، بمنح شهادات التعليم الأجنبي للأرستقراطية الجديدة وتوظيف معلّمات محجّبات خريجات الجامعات الغربية أو أجنبيات معتنقات للإسلام؛ وبدورها ساهمت الثقافة الجماهيرية في تغلغل المنتجات الدينية وتزايد مساحتها وترسيخ قيم التهادي والاستماع للموسيقى واستهلاك الفنون والإقبال على مواقع شبابية للدردشة الإسلامية. وعبر شركات الإعلام الكبرى، دخل «الديني » عالم الممنوعات الأخلاقية وتحول الدعاة إلى نجوم كما بات التأكيد على الهوية الدينية لا يتم إلا عبر وسائط علمانية. 1 وبالتدريج ازداد تشفير الهوية الدينية واستبدالها بخطاب أخلاقي حوّلها إلى محض علامة تجارية 2، وبصنع مخيال إسلامي يقوم على الفرجة والاستهلاك وإثارة الإعجاب، ستتوثق الصلة بين الأسلمة والعلمنة 3 لتبلغ أوجها بالتخفف من العناصر الدينية نفسها، فنكون أمام أسلمة جديدة للثقافة الغربية والأمريكية تحديدا. يتوجه إسلام السوق إلى إعادة بناء نموذج فرداني قوي اقتصاديا يعيد الفخر للمسلم الجديد. 4 ولئن رأى البعض في سيرورة هذا التحول قدرة الرأسمالية على نمذجة الأخلاقيات والجماليات الإسلامية في عالم الاستهلاك بما يهدد نمط الحياة الدينية، فإن فرسان الدعوة الجديدة يصفون هذه المرحلة المتقدمة من التحول ب «النضج واستيعاب مبادئ الاسترخاء والترفيه 5» ، فبعد الانتقال إلى عالم اللباس والعارضات المحجبات والأكل المعولم 6، لم تسلم أشكال الدعوة الدينية نفسها من الدعابة والمرح والتنافسية والارتباط بروح العصر 7. يبدو ذلك واضحا في نماذجها العصرية الكبرى كالوجه الدعوي الإعلامي «عمرو خالد » بمصر و «طارق السويدان » بالخليج. 8 ألسنا هاهنا أمام مرحلة تشهد على أن السوق صار «قناة التعبير عن التدين الأكثر تمتعا بالشرعية 9؟» تأسست قيم الدعوة الجديدة ضد ثقافة الكسل والعجز والفشل فيما يشبه إدانة أخلاقية للفقراء والعاطلين وانتصرت بالمقابل لعقيدة النجاح استجابة لمنطق الغنى والثروة 10 ، بتقريض إسلام المال والقوة ما دام الدين ليس حكرا على الفقراء والثروة ليست إثما أو معصية. 11 وخلافا لمن يتصورون الإسلام يضاد الغنى والأغنياء 12 ، استمدت هذه الدعوة شرعيتها الدينية والتاريخية من سيرة النبي وبعض صحابته ممن كانوا تجّارا ناجحين 1، وبهذا يحوز إسلام السوق منظومة تبريرية لتكريس حالة من البرجزة 2 تستلهم نموذج الثروة الفاضلة والخلاص عبر الأعمال الخيرية وتعوض النظال السياسي بالخطاب الديموقراطي والانعتاق من وصاية الدولة الراعية 3، مقابل تعزيز «المجتمع المدني الفاضل » والمزاوجة بينه وبين المسجد. 4 فقد استوعب دعاة التدين الجديد بذكاء براغماتي، أن رهانهم الرابح هو إدماج الاقتصاديات الحديثة داخل النظم الدينية التقليدية، ليكتسب خطابهم القوة والفعالية المطلوبتين، وبإعادة تفسير وإحياء الإسلام في ضوء العولمة، تمكنوا من الدخول إلى الحداثة لكن بعيدا عن بوابة عصر الأنوار 5، وهو ما يفسر كون تحديث الإسلام 6لم يتم تيولوجيا وإنما توقف سوسيولوجيا عند حدود التكيف والمواءمة دون طرح بديل صلب، بينما الحداثة الدينية الحقيقية تمر أساسا عبر نزع الطابع الإيديولوجي للديني، والحال أن الأمر اقتصر هاهنا على العواطف والمشاعر بعيدا عن مراجعة الأسس النظرية، لنكون بذلك «أمام مرحلة تحديث دون مشروع الحداثة 7» . إن إسلام السوق إذن، لا يقدم إلا النموذج المحلي لروح الرأسمالية، أي نسخة محلية مرمّقة لإحياء المضامين والمعاني القديمة، تجعل من الإسلام مجرد محرك أو أداة للعلمنة أو إطارا أكثر منه محتوى. تسمح لنا قراءة مؤلف «هايني »، وفي أعقاب ما سبق طرحه، أن نؤكد نقاط قوته الأساسية فيما يلي: -1 أنه لا زال يتمتع بقدر من الراهنية رغم مرور عشر سنوات على كتابته، ولعل الصدى الكبير 8 الذي حققه سواء فيما كتب بالعربية أو بالفرنسية يؤكد في مستوى آخر أصالته الفكرية، فهو جهد تحليلي لتحولات الظاهرة الإسلاموية ومتابعتها داخليا وخارجيا في عالم سائل ومتداخل الأحداث، تميز بدقة الوصف وثرائه ممّا يعكس قدرة صاحبه على ممارسة الملاحظة الدقيقة وبمتابعة الظواهر والقضايا والتقاط التفاصيل والجزئيات المدروسة والانتباه أيضا للعلامات السيميائية الجديدة التي انتزعت القاموس الإسلامي من بنائه التقليدي الفقهي وربطته بحقل معرفي ودلالي ينتمي للثقافة الغربية. -2 تميز المؤلف بمتابعته لتحول غاب عن الرصد من قبل الملاحظين الغربيين ممّن قصروا اهتمامهم على الإسلام الجهادي، دون أن يلتفتوا إلى محاولات الاندماج التي تشي بها الأنماط الجديدة للتدين. هنا نجد «هايني » كمن يوجه خطابه للغرب كاشفا عن صورة للمسلم غير التي استقرت في العقدين الأخيرين من أنه الإرهابي العنيف، بل صورة لمسلم ليبرالي؛ ومن ثمة يطرح الإمكانات الكبرى واقعيا لتعايش الإسلام وقيم الغرب الاستهلاكية رغم اختلافهما النظري؛ بل إنه يجد في إسلام السوق، الشريك المثالي لأمريكا ليس فقط في سياستها الشرق أوسطية، وإنما في صراع الحداثة التي تواجهها مع عصر الأنوار الأوربية ومنطق العلمانية. -3 توفق المؤلف سوسيولوجيا في تناوله للدين من حيث هو فعل اجتماعي لا ينفصل عن الفاعلين الاجتماعيين والفاعلين الدينيين، سواء بالنسبة للإسلاموية ورموزها أو لإسلام السوق وممثليه ودعاته. وبأسلوب جذّاب، كثّف بياناته مقدما أمثلة غنية عن تحولات الفضاء الديني، يتداخل فيها ما هو قابل للوصف كالأجساد والأفضية والألبسة والأشرطة والشركات والمدارس..، بما هو تحليلي استقرائي. وقد أسعفه تركيب المفاهيم في توضيح مسار الديناميات الدينية المدروسة، برسم التقابل بين الإسلام السياسي المتشدد وإسلام السوق المنفتح في شكل ثنائيات منها: )إسلام متشدد متجهم/ إسلام مرن مرح()حجاب الحشمة/ حجاب الموضة()قطب والمودودي والبنّا/عمرو خالد وطارق السويدان(_)المسلم المناظل/ المسلم الناجح( )المسلم المستهلك/ المسلم المنتج(...، مفردا للرموز مساحة مهمة في محاولة للإمساك بعمق الديناميات الجديدة وتفاصيلها راسما صورة متكاملة عن المتدين الجديد. لكننا مع ذلك نسجل مجموعة من الملاحظات النقدية حول المؤلف وصاحبه، نسوقها كالتالي: -1 ثمة انتقائية سافرة في جمع الأمثلة التي تناسب أطروحته وتثبت صحتها، منها أنه اقتصر على النموذج المصري والتركي نسبيا، بينما أغفل تحولات أخرى كالتي همت حركة «التوحيد والإصلاح » المغربية، كما اكتفى بأسماء محددة من الدعاة الجدد الممثلين لإسلام السوق، دون دراسة منهجية لمضمون خطاباتهم بشكل دقيق. وفي متابعته لحركة الإخوان، ركز على المدينة الحديثة كفضاء للرأسمالية ومظاهر التسليع، مغفلا ترييف هذه الحركة مدينية المولد والنشأة وتضاعف منخرطيها في الأرياف وتبنّي قيم الطاعة والخوف والمحافظة والتنميط؛ فقد غابت عنه مثل هذه السيرورة الاجتماعية المهمة داخل حركة الإخوان 1، 1 انتبه «حسام تمّام» لهذه السيرورة في دراسة تعد آخر أعماله بعنوان «ترييف الإخوان»، نشرت بالانجليزية ضمن أعداد سلسلة «مراصد» التي كان يشرف عليها، بوحدة الدراسات المستقبلية. وفيها طرح إشكالية التحديث المؤسسي والقيمي داخل الحركة الإسلامية مسجلا أن التغيرات الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين المصرية منذ تسعينيات القرن 20 ، تستحق التوقف والبحث لمّا بدت الجماعة عبر المظاهر القيمية والسلوكية أقرب إلى انتشار ثقافة ريفية داخلها، ممّا يشي ب «ترييف» قوي مس تراثها كجماعة دينية، بعد أن غدت أكثر امتدادا في المناطق التي ظلت خارج تأطير حركات التجديد الديني، خلافا لما كان في الستينيات والسبعينيات، لمّا كانت تتسم بخصوصية حضرية قوية واجدة في الطلبة والأساتذة والمدرسين والمتعلمين أو «الأفندية » خزانها الاجتماعي الكبير. وهو ما ألمحت إليه «هبة عزت رؤوف 1» إلى حد تساؤلها عن الخط المنهجي للمؤلف، هل يتموضع حقا في سوسيولوجيا الدين أم سوسوسيولوجيا التمدن الرأسمالي؟ 2- نلمس انتقائية المؤلف أيضا في كونه استند منهجيا إلى شهادات نشطاء ينتقدون فكر الإخوان وتنظيماتهم في قضايا البنوك والمدارس الإسلامية والبرمجيات الدينية، منتهيا إلى القول بتراجع الإسلام السياسي وشعاراته الكبرى، دون إعطاء أي فكرة عن حجم العينة ومواصفاتها ولاعن معايير انتقائها من خلال موقع «أون لاين »، كما أنه لم يجر مقابلات مباشرة مع المعنيين من الأطراف الأخرى، مغفلا تحليل طبيعة القيادات في الحركة الإسلامية وعلاقتها بالرؤية السائدة 2. فلماذا لم يتوقف كثيرا عند السلفية 3بوصفها نموذجا مغايرا في الانتماء إلى الإسلام؛ ألأنها فقط تجسد صنفا يتعارض مع أطروحته الجوهرية عن تحول الإسلاموية؟ ألم تلتحق أعداد كبيرة من الإسلامويين بالسلفية، بما يجعلها ملجأ للغاضبين والناقمين على الهياكل والتنظيمات الإخوانية 4؟ -3 أكد «هايني » في نقده لحركات الإسلام السياسي، عجزها عن المحافظة على مروياتها الكبرى أمام قوة السوق وقيمه، ومن ثمة استحالة بناء اقتصاد إسلامي خالص بعيدا عن النظام العالمي؛ لكن نتساءل إلى أي حد نجد الجيل الجديد للإخوان ناقما على مرجعيته الإسلاموية العميقة؟ أليس إسلام السوق بتطبيعه مع ثقافة المنجمنت، شكلا أو نفسا مغايرا فحسب للإسلاموية؟ ألسنا أمام استراتيجية جديدة للإسلاموية المعاصرة في تليين صورتها للوصول إلى جمهور أوسع؟ ثم هل التكيف مع الثقافة الغربية يجعل إسلام السوق خالصا من أي بعد ثوري وتيوقراطي؟ وهل ببقاء قوى سياسية وخطابات دينية تحرّض على الاستبداد وفساد الأنظمة، نكون فعلا أمام «ما بعد الإسلاموية »؟ وحتى إذا قبلنا بنجاح إسلام السوق، فما هي حدود مقاومته وصموده وبقائه؟ -4 أوضح «هايني » أن إسلام السوق نموذج انتشر في مجموع القارّات الأربع 5، ولم يعد مقصورا على صنف من الفاعلين الدينيين، بدليل حضوره لدى أطراف مختلفة مثل السلفية والإخوان المسلمين والصوفية، لكنه لم يقنع القارئ بما يكفي من الأدلة. والواضح أن منطلق الفكرة التي تحرك بحثه ككل ويحاول إقناعنا بها على نحو أكبر، هي أن التحولات المرصودة لا تمس العالم الإسلامي من حيث هو رقعة جغرافية، بل من حيث هو فهم ديني جديد له ممثلوه ودعاته ووسائطه ومفاهيمه الحيوية. قد يكون الأمر صحيحا متى تبنّينا منظورا ماكرويا وشموليا يختزل الواقع العربي والإسلامي بتعدديته، إلا أنه يفتقد للدقة السوسيولوجية والتمثيلية المطلوبة لخصوصية كل واقع اجتماعي من منظور ميكروي. 5- لا شك أن التحول الكبير الذي عرفه الفضاء الإسلامي مثير للملاحظة وجدير بالتأمل، غير أن الاستنتاجات التفسيرية السريعة التي قدمها المؤلف جعلتها أحيانا تبتعد عن الدقة في تمثيل الواقع العربيى والإسلامي، سيما بعد الحراك العربي بسيناريوهاته المختلفة. ونستطيع أن نؤكد أن الانقياد لأطروحة «هايني » والاستسلام لبنائها الذكي وشكلها اللامع، دون الحذر من منطلقاتها النظرية وبنائها المشدود إلى الخلاصة المراد إيصالها، يسقطنا في تصور تطوري ) Evolutionniste ( ينطلق من وجود وحدة في التاريخ العالمي مثلما لمس Haoues Seniguer1 . فهل إسلام السوق يعد فعلا بديلا للإسلام السياسي، فقط لتمتعه بالدينامية والإبداعية التي أكدها "هايني"؟ وما مدى صحة الربط بين فردانية التدين والعلمنة، فهل نعد كل تدين فردي علمانيا بالضرورة؟ ألا يتضمن التدين الشعبي في بعض مستوياته ملمحا فرديا قويا هو أيضا؟ يبدو جليا إذن، أن المؤلف وهب نفسه حق القول بتآكل حركات الإسلام السياسي وتجاوزها بناء على شهادات انتقائية، وهذا يدفعنا للتساؤل عن القيمة المضافة لخلاصات بنيت على شهادات بعض الإخوان وتقييمهم النقدي لتنظيماتهم الداخلية. ألا يشي هذا التسرع في بدفاع مسبق 2 للباحث عن أطروحة انحسار الإسلام السياسي قبل كتابة إسلام السوق؟ أليس التسرع ذاته هو ما دفعه إلى استعمال مفهوم الطبقة الاجتماعية الذي لا يناسب المجتمعات العربية والإسلامية، بل حتى في الغرب ذاته، صار استعماله غير دقيق أمام وجاهة مفاهيم مثل الفئة الاجتماعية أو نمط الحياة أو مفهوم الشبكة المجتمعية ) .)social networck ختاما لا يسعنا، إلا أن نؤكد أن فهم الديناميات الدينية الجارية في العالم العربي والإسلامي، تحتاج إلى أعمال ودراسات عديدة لتأطيرها علميا، ويحسب لمؤلف «هايني » أنه فتح مسارات دقيقة لمواكبة تعددية النماذج والحالات والتجارب الإسلامية التي تميز هذه المجتمعات. عن التقرير التركيبي لمنظمة مؤمنون بلاحدود