نشهد اليوم مرحلة فارقة في تاريخ العالم المعاصر، حيث برز الخطر الارهابي بشكل غير مسبوق، إذ شكل تنظيم "داعش" عنوانه الابرز من خلال تبني هذا التنظيم لتأسيس دولة في بلاد العراق والشام، بل إن هذا التنظيم أصبحت له خلايا في العديد من بقاع العالم. لكن المستهدف بشكل كبير هو المنطقة العربية، لما تعرفه من توترات ومخاضات عسيرة. ولعل السؤال المحرق الذي يطرح في هذا الصدد: ما هي الاسباب العميقة التي تفاعلت لميلاد هذا التنظيم؟ وما هي خصائص خطابه؟ وما هي الجديد الذي يتميز به عن تنظيم "القاعدة"؟ وما هي بعض المداخل التفسيرية التي يمكن من خلالها فهم جزء من الاسباب التي غذت الفكر الارهابي في المنطقة العربية؟ بداية، لا بد من الاشارة إلى أن هناك مواقف متضاربة بشأن هذا الموضوع، فالبعض يعتبر أن ميلاد "تنظيم الدولة الاسلامية في بلاد الرافدين والشام، هو مجدر "مؤامرة" يدبر خطوطها الكبرى المنتظم الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهذه الدعوى تعرف بنظرية المؤامرة، وهناك بعض الباحثين من تحدثوا عن "نظرية اللعب" والتي تعتبر من أقدم النظريات في العالم، والتي باشرتها إنجلترا سابقا والولاياتالمتحدةالأمريكية حاليا، حيث يكون "للتمثيل الهوليودي" و"للدراما السياسة" هندسة مخطط لها ولها فاعلون هو الخبراء وصناع السياسات، والذين يقومون بشرعنة بعض الظواهر وايهام العالم بأن الخطر الحقيقي الذي ككان يهدد البشرية بالأمس هو الفكر الشيوعي واليوم هو الفكر الديني المتطرف ممثلا في القاعدة سابقا وفي "داعش " حاليا. طبعا لكلا النظريتين أتباع ومدافعين بل ومتعصبين لهذه النظرية أو تلك. خصوصا عندما تعجز الآلية العلمية الموضوعية من قراءة الأوضاع والبنيات والمستويات الظاهرة والخفية والتي تؤدي إلى بروز هذه الظاهرة أو تلك. وهنا نفتح قوسا للحديث عن، هذين الاتجاهين ومن يدعو لهما، عندما وقعت أحداث "الربيع العربي"، فالبعض ذهب إلى حد الوقوع في وثوقية عمياء عندما بدأ يتحدث أن ما وقع ليس إلا مؤامرة أمريكية ضد إرادة الشعوب العربية؟ ولعل المطلع على خفايا الأمور يتبين له تهاوى هذا الطرح، وأنه ليس سوى رجع لمقولات دوغمائية لا تعوزها الأسانيد الموضوعية والعلمية والمقنعة. ونحن في مباشرتنا لهذا الموضوع، لا ندعي إطلاقا، اي تملك لناصيته ولتفاصيل تفاصيله، بل حسبنا أن نثير القراء إلى بعض العناصر التي تولدت لنا من خلال المتابعات اليومية ومن خلال الرصد السوسيولوجي لظاهرة "الردكلة" الجديدة في المنطقة العربية، والتي لا يستثنى منها المغرب. وبعيدا عن خطاب المؤامرة أو نظرية اللعب، كيف يمكن تلمس بعض الخطاطات الأولية في بروز أو تصاعد ما يسمى اليوم "بالحركات" (لا أفضل على المفهوم لأن له دلالات لا تنطبع على طبيعة هذه الحساسيات)، بل أحب أن أستعمل مفهوم "التيارات" فهو – في نظري الأقرب لتوصيف طبيعة هذه المكونات- ؟ أولا في الخلفيات والإواليات لبروز هذه التيارات المتطرفة يجب أن نقر بداية أن الموضوع جد مركب ويحتاج إلى دراسات وأعمال بحثية عبر منطقية للتأكد من مجموعة من الفرضيات الأولية التي نحاول في هذا المقال بسطها بحذر شديد، ونرجو أن يتم قراءتها في ضوء هذا الحذ المنهجي، في لا تعدو أن تكون عبارة عن خطاطات أولية، لقراءة مشهد جد ملغز في المنطقة العربية. السياق العولمي: يشهد العالم اليوم موجة من الحماس الديني منقطعة النظير، فبعد تراجع الإديولوجيات الكبرى، حصل "فراغ" فكري وإديولوجي كبيرين، أدى إلى الارتماء في أخضان المكون الديني بشكل جديد، وفيه نوع من البحث عن الذات والبحث عن اليقين في زمن اللايقين واللامعقول. وقد حصل هذا التحول الكبير هذا في نظرنا المتواضع، بالتزامن مع ما شهده العالم من موجات التحديث سواء في شكلها السلس والهادئ والمتوافق بشأنه أو في شكله العنيف والقاسي والمفاجئ مثل ما وقع في المجتمعات العربية الاسلامية، والمغرب واحد من هذه الشعوب. ومن بين النتائج الكبرى لهذا التحول ،تفكك البينات التقليدية وصعوبة بناء أشكال جديدة من المؤسسات والبنيات والهياكل، ورغم البروز التاريخي لحركات الاسلام السياسي، وما قامت به من "مجهودات" اجتماعية ونفسية ومؤسساتية في ترميم الذات العربية الاسلامية، إلا أن تجربتها طيلة السنوات الأخيرة، أبانت عن إخفاق مذوي خصوصا، في فشلها في بلورة نموذج مجتمعي مغري للشباب وللمجتمع بصفة عامة، يكون البديل عن صدمة الحداثة وما بعد الحداثة. ولهذا نفهم جيدا كيف تعالى اليوم الخطاب حول الهوية بشكل كبير في جل المجتمعات العربية والاسلامية. السياق المؤسساتي (المؤسسات الدينية نموذجا) لا يجب أن ننسى ونحن في معرض حديثنا عن بعض الخلفيات التي ستفرز بروز ما سمي بالتيارات الجهادية، فقدان الثقة في المؤسسات الدينية الرسمية،مما ولد حالة من الطلاق الكاثوليكي بين المجتمع هذه المؤسسات، وهذه النتيجة جاء بسبب التحكم التسلطي لهذا الحقل من طرف العديد من التجارب الدولتية في العالم العربي والاسلامي. مما جعل الباحث العربي التونسي يتحدث عن مقولة "لا مجتمع يربي الدولة ولا دولة تربي المجتمع". فرغم أن الدين هو ملك للجميع وهو الحامل الأكبر والأقوى والأخطر في العمليات التنموية والحضارية، فإن احتكاره من طرف الأنظمة وتدجينه وتدجين علمائه ومؤسساته و هياكه، أفقده تلك القوة التحررية التي يختزنها هذا الدين. ولعل الأمثلة على هذا المعطى أكثر من أن تحصى، ويمكن التوقف عند نموذج واحد هو طريقة تدبير الحقل الديني بالمملكة المغربية، حيث كل المبادرات والاستراتييجيات والخطط والسياسات العمومية، يتم إشراك هيئات المجتمع السياسي أو المدني أو المجتمعي بصفة عامة في بلورة الرؤى والاستراتيجيات، إلا هذا الحقل الذي حكم عليه بالتدبير التحكمي؟ السياق التنموي وعطفا على المعطى السابق والمرتبط بضعف الثقة بين المجتمع والدولة، والذي يفسر جزء من أسباب هذه اللاثقة، فإن أغلب التجارب التنموية العربية، أبانت عن فشلها الذريع في تحقيق الدمقرطة والعدالة الاجتماعية والانصاف، ودولة المواطن بما تعنيه هذه الكلمة من تحقق قيم حقوق الانسان وتعزيز اختياراته احترام كينونته البشرية. مما ولد حالة من العجز والتفكك والتشرذم سواء عند الأفراد أو المجتمعا، كما حصل في العراق سابقا وليبيا واليمن اليوم (وجود توترات سياسية بالمنطقة العربية (بدء من حرب الخليج وبروز ما سمي بالقاعدة، ثم بعد ذلك بداعش»). كل ذلك أدى إلى إخفاء في بناء المواطنة الحقيقية والجديرة بالانتماء للوطن. وقد يعترض علينا البعض بكوننا نعاين ثمار "النمو" (وبالفعل هي ثمار النمو وليس التنمية والفرق شاسع بين المفهومين) في مجموعة من التجارب العربية، ومنها المغرب؟ وجوابي على هؤلاء: فلماذا لا زالت مظاهر الهشاشة والتفاوت الاجتماعي تستفحل يوما عن يوم؟ ولماذا لم تستطع هذه الدول من الماء إلى الماء، أن تقلل من مظاهر هذا اللاتفاوت؟ ولماذا يستمر الفقر والافقار في هذه المجتمعات؟ ولماذا لا زلنا نشهد كيف يتم إعادة إنتاج المجتمع لتمايزاته بشكل جد مفارق؟ هذه الاجوبة الاولية يمكن الاطلاع على بعض التقارير التنموية التي تصدر بين الفينة والأخرى، لتين لنا حقيقة الوضع. وهناك ملاحظة لا تخطئها عين المواطن وهو أن الأمور لا تتغير، فحظوظ الفقير والشاب والمهمش والمقصي في الترقي الاجتماعي أصبحت جد مستحيلة في المجتمعات العربية اليوم. مما يولد حالة من الحنق والتذمر واللانتماء تؤدي حتما إلى انحلال كل الروابط الاجتماعية التي تلحم المجتمع والدولة في بوثقة واحدة. السياق الديني عولمة الدين عبر الاعلام بالموازاة مع تلك الاسباب الموضوعية السابقة، تولد ت في المشهد الديني، حالة من الانهيار الكامل للسلطات التقليدية والرسمية، ببروز فاعلين جدد في الحقل الديني، والذين استفادوا من الثورات الاعلامية التي داهمت مجتمعاتنا العربية (الاعلام الديني نموذجا). هذا الأمر أدى إلى انعكاسات جد خطيرة على تمثل الدين والتدين، فقد أصبحنا في ما يشبه "السوق الدينية" والتي بدا يتحدم فيها منطق السوق بكل ما تعنيه الكلمة من مفاضلة واختيار في «السلع والمنتجات» بالشكل الذي يلائم الفرد ويتماشى مع رؤيته في الكون ومع منظومة قيمه واختياراته. ولا ننسى أنه –لأسباب سوسيوسياسية- فقد تمكن الفاعل السلفي من اقتحام هذه السوق، عبر مجموعة من الوسائط التلفزية أولا ثم الالكترونية لتقدمه نموذجه في التدين، حتى أصبحنا نتحدث عن "نجوم الدعوة السلفية". ولا شك أن هذا الامر كانت له تداعيات عدة على الخريطة التدينية، حيث وقع تنوع في المرجعيات والمضامين الدينية المروجة، أبرزت أنماطا جديدة من العلاقة مع المرجعية والهوية -الفردانية والعقلانية والتوفيقية والتلفيقية وحتى الانتهازية الاستراتيجية كما يحب أن يسمه بعض السوسيولوجيين المغاربة في توصيفهم لحالة التدين بالمجتمع المغربي وبالمجتمعات العربية بشكل عام. إن السؤال الذي يطرح في هذا الصدد: هل بالإمكان القول إن هذه الخلفيات الموضوعية، كانت السبب المباشر في ميلاد هذا التيار المتطرف، الذي تجازو مرحلة الاسلاموية؟ حقيقة لا ندعي المجازفة بالجواب عن هذا السؤال، لكن الذي يهمنا في هذا السياق، هو ملامسة واستقراء بعض الوقائع علها تساعدنا في تلمس بعض من الاجابات –ولو الأولية والمؤقتة- ، إلا أن يجمل بنا رفعا لكل لبس، أن نقدم بعض التوضيحات فيما يخص مفهوم السلفية الجهادية، والذي لا يحيل دوما على نفس المعنى الذي يطلقه البعض، خصوصا بعض الباحثين الغربين الذين ليس لهم اطلاع كاف بخصوصية التجربة الدينية بالوطن العربي. ثانيا: وقفة مع المفهوم لا بد من الاقرار بأن من أعقد المهمات التي تعترض الباحثين في موضوع السلفية، هو تحديد المفهوم، (والذي قد يظهر للبعض أنه بسيط ولا يحتاج إلى أي جهد فكري ما) ، « فالسلفية عموما عصية عن التعريف، لأنها غامضة ومتشظية، فهي ليس حركة متجانسة، ولكنها لها اتجاهات مختلفة بل متناقضة"، وهي ذات طابع هلامي". و هذا على عكس الدارس للحركات الاسلامية التي تتميز بوضوح في الخطاب وفي الممارسات وفي البنيات المؤطرة لها. لكن بالرغم من كل هذه المحاذير، يمكن التمييز ثلاثة اتجاهات كبرى –فيما نعتقد- تميز الحالة العربية الاسلامية على سائر الخريطة الجغرافية، وهي : 1-السلفية المحافظة، الدعوة والعلم والتربية، ولا يتهم بالعمل السياسي والتغييري. ويمكن تقديم نموذجا في المملكة المغربية، بتيار (المغراوي)، في مراكش والذي كان يتقطب الكثير من الشباب والمتحمسين الدينيين والمراهقين في صفوفه، خصوصا وأنه استثمر في أخطر رأسمال رمزي يملكه المسلمون وهو تحفيظ القرآن الكريم. 2-السلفية الحركية، والتي تتميز بنقدها للاحزاب الاسلامية وللاحزاب المعارضة للدولة، وتنحاز للحكومات الرسمية، وقد ظهر ذلك في ثورات الربيع العربي، حيث أفتوا "بحرمة" التظاهر والخروج على الحاكم وعلى ما يدعونه "بولي الأمر". ويمكن أن نجازف بالقول إن هذا التيار موجود في كل الدول العربية، والمغرب، بدا يبرز مع الرمز الشهير "الفيزازي"، الذي نافح عن الملكية وعن مؤسسة "إمارة المؤمنين" بشكل منقطع النظير، ويثير التساؤلات، خصوصا وأنه قدم نفسه كخصم لحركة 20 فبراير، بعدما سفه ممطالبها، والتي –يعتقد الفيزازي- أنها لا تعدو أن تكون مطالب غير واقعية ولا تستند للمشروعية. 3- السلفية الجهادية: وهي التي تعنينا في هذا المقال، والتي تتميز بتكفير الحكومات، وتبني التغيير الراديكالي والمسلح في أوقات معينة (القاعدة، ثم داعش حاليا). لكن كيف تحولت هذه السلفية إلى جهادية وما هي مقومات خطابها؟ ثالثا: الخصائص والمقومات استطاع التيار الجهادي السلفي، أن يمكن لنفسه انطلاقا من تملكه لخطاب يقوم على مجموعة من الخصائص، وهي التي جعلت منه نموذجا في المنطقة العربية. وهذا بطبيعة الحال، جاء نتيجة تراجع دور حركات الاسلام السياسي، وأيضا ترهل خطاب وممارسة التيارات السلفية التقليدية والحركية، ومن بين هذه المقومات يمكن أن نذكر ما يلي: 1-النقاء الديني «مفهوم الطهرانية»، فهذا التيار يقدم نفسه على أنه الممتلك للحقيقة الصافية وللتأويل الحرفي للنصوص المقدسة، ولا شك أن تبني هذا الخطاب بهذا "الوضوح"، إنما كان كرد فعل على الخطابات والمواقف التي عبر عنها تيار الاسلام السياسي، من حيث "التذ بذب " في القراءة الدينية للنصوص المقدسة أو من خلال إعمال لغة "المقاصد" وتنزيل النصوص وفقه الواقع وما إلى ذلك من الحيثيات التي لا يتع المقام لذكرها في هذا السياق. وعليه فهذا التيار، يستمسك بالمقولة التالية: «إن الحل الصحيح يكمن في تقوية ايمانك والعودة إلى الله تعالى». 2-الرجوع إلى النصوص «الخطاب النصي»، ولعله الأبرز في هذه الخصائص، حيث أن التيار السلفي الجهادي، عمل على إنتاج مجموعة من الكتب والخطب والمواعظ والتوجيهات وكذا المواقف التصورية والعملية، لتقديم قراءة نصية حرفية للمقدس (القرآن والسنة). وقد لعبت شخصية "ناصر الدين الألباني" (1914-1999) الدور الكبير في تحقيق مشروعية لخطابه ولخطاب تياره، خصوصا في الهجموم الذي مارسه على تيار السلفية الوهابية في قراءة بعض النصوص المشكلة "ومن لم يحكم بما أنزل الله فؤلاء هم الكافرون" وتأويل هذه القراءة في مواجهة الأنظمة السياسية التي تتعامل مع الغرب (أمريكا) أو تدخل في تشريعاتها أحكاما "وضعية" والتغاضي أو في أحسن الأحول الترميق بين القاعدة الشرعية والحكم الوضعي. ولابأس أن نشير إلى بعض الاحداث التي شكلت مناسبة لتفجير النقاش حول مدى تطبيق النصوص "الشرعية" من طرف الحكام وولاة الأمور، ونعني بذلك، الموقف من غزو أمريكا للعراق بمباركة الدول العربية، أو التعامل مع أمريكا لمواجهة بعض التحديات التي تعرفها المنطقة العربية. 3-ردكلة مفهوم الولاء والبراء: وهذا المبدأ يعتبر من أخطر الخصائص التي يستعملها هذا التيار لتبرير هجومه العنيف على الدول (سواء الغربية أو العربية) ، والتي لا تطبق –حسب ما يعتقدونه- "شرع الله. لهذا يمكن أن نشير إلى دور "أبو محمد المقدسي"، في ردكلة المفاهيم «تكفير الدولة السعودية لأنها تتعامل مع أمريكا». إن هذا المبدأ، يقيم نقطة فاصلة بين من معنا ومع "الحق" وبين من هو مع "حزب الشيطان" و"الكفر" وبالتالي فالعالم مقسم إلى معسكرين لا ثالث لهما: مجتمع "المؤمنين" الصاديقين، ومجتمع "الفاسدين" وبالتالي وجب موالاة الأول والتبرؤ من الثاني. ولهذا أقول إذا كنا نرى آثار العنف المادي في الواقع، فإن "العنف يبدأ في الأذهان قبل أن يصل إلى الأبدان" . 4-إدانة التشيع بوصفه بدعة: لا يجب أن نتغافل عن السياقات التي ساوقت ظهور هذا التيار الراديكالي، فأرض العراق، بعد احتلالها من طرف الحلفاء، صارت مسرحا لتوترات جد خطيرة، استعلمت فيها شتى الأوراق، بما فيها الورقة المذهبية، بين الشيعة والسنة، ولهذا لا نستغرب إذا كنا نعاين الحروب التي خاضتها "القاعدة" سابقا في العراق، مع التيار الشيعي ، وبعده "داعش الآن. فق صار هذا الموقف من الشيعة سلاحا أيديولوجيا في يدي الجهادي السلفي، وخصوصا مع «أبي مصعب الزرقاوي» في العراق. 5-التماهي مع الأمة الخطاب العولمي: وقد كان السبب في ذلك، فيما –نعتقد- الثورة الاعلامية التي تحدثنا عنها سابقا، والتي حولت الخطابات الدينية من خطابات مغرقة في الخصوصانية إلى خطابات تتعالى عما هو سياقي وسوسيوثقافي لتقدم نفسها على أنها تتحدث باسم "الأمة" وعن أي أمة يتحدثون "إنها الأمة الوهيمة" التي ليست لها وجود إلا في أذهان هؤلاء المعتوهين الذين استغلوا مجموعة من الشروط للتمكين لأنفسهم ولدعواتهم الراديكالية، سواء في المغرب أو فرنسا أو كندا أو السعودية أو تونس أو غيرها من الدول. "إن السلفي الجهادي المغربي أو الفرنسي أو التونسي أو الأمريكي، الشاب اليوم المنقلع من جذوره، هو فرد معولم لم يبق مهتما بعد الآن بجذوره الخاصة وبأرض والديه، ويفضل بدلا من ذلك الجهاد في أرض الشام أرض الانبياء والرسل والصالحين، أو في العراق أو في اليمن أو في ليبيا". ولهذا نفهم لماذا ظهر هذا التيار في أشد البلاد "علمنة" وهي فرنسا، وكيف خرج منها من ذهب "للجهاد" في سوريا وليببا واليمن والقائمة طويلة ولا ندري كيف يمكن مواجهة هذا الخطر الداهم؟ يقول أوليفي روا: «فنتيجة لصفتها الشاملة وإزالة الصفة الإقليمية عنها، وطبيعتها التي أزيلت الصفة الثقافية عنها، فقد صارت نموذجا مفعما بالقوة لغاية إثبات الهوية وهي مناسبة بشكل بارز لخلق مجتمعات جديدة حقيقية» 6-مهاجمة الأشكال الثقافية والمحلية إن هذه الخصيصة تذكرنا بالقطائع التي كان يقوم بها هذا التيار أو غيره في التنكر لكل الموروثات الثقافية التي تميز التجارب الدينية في الوطن العربي والاسلامي أو في غيره من التجارب، والتي تؤكد أن التدين المجتمعي أو الفرديي غالبا ما ينطبق بمثاقفة بين النصوص وتنزيلها على الواقع. فمثلا إذا كان التبرك بالأولياء عند المغاربة يشكل عبر التاريخ جزء من هويتهم الدينية والحضارية، فإن هذا التيار الجهادي الراديكالي، ما فتئ يقدم الدفوعات تلو الدفوعات، بأنها منافية ل"صحيح" النص الديني. هناك معطى آخر يمكن الاشارة إليه في هذا السياق، وهو أن هذا التيار يرفض كل مظاهر الثقافات الشعبية والمحلية سواء فيي صيغتها الكلاسيكية أو الترميقية (بمعنى إعادة إحياء طقوس ثقافية بشكل جديد، مثلا بابا عيشور" أو طقس تغنجا 'الاستسقاء ) أو غيرها من المظاهر. وهذا ما يسلمنا لخلاصة –نعتقد أنها مهمة- وهي أن هذا التيار لا يؤمن بوجود ثقافات متعددة متنوعة ومتعايشة (كتعايش ثقافات المغرب، من اليهودية والمسيحية والاسلامية وما قبل الاسلامية). ولهذا فنحن نعتقد أن الايمان بهذا المبدأ قد لا ينحصر في هذا التيار بل قد يتعداه إلى تيارات أخرى (كالحركات الاسلامية، التي عبرت عن مواقف رافضة للتعددية الثقافية باسم التمسك بهوية المغاربة، وكأن الهوية هشة ومسكينة وتحتاج لمن يدافع عنها، والحاصل أن الهوية أكبر وأقوى من كل هذه التيارات "فالهوية تملكنا بوعي وبدون وعي منا". 7-فاعلة نشيطة: يمكن القول أن أهم ما يميز حركات الاسلام السياسي وحتى التيار السلفي الجهادي هو النفس الحركي الذي يعتمدونه في الممارسة اليومية، وقد تفوق هذا التيار الراديكالي في إثبات أنه قادر على تنفيذ أصعب المهمات وأخطرها بل أشدها انقلابا في تاريخ الحركات التغييرية. فإذا كانت أغلب الحركات التغييرية في العالم، تنطلق من العمل الجمعوي والقاعدي إلى الوصول إلى السلطة، فإن هذا التيار قلب القاعدة، وجعلنا أمام مشهد جديد في نظريات العلوم السياسية وهو أن تيارا أو تنظيما معنيا، يصبح "دولة" بين عشية وضحاها. وحتى لا يتهمنا البعض بأننا نفهم من الدولة المفهوم المتداول في حقل العلوم السياسية، فإننا نسارع للقول إن تنظيم الدولة في بلاد الشام والعراق، وإن لم يكن يتوفر على مقومات الدولة بالمعنى المتداول، لكنه يقدم نفسه من خلال طريقة تنظيم نفسه وخطاباته وتحركاته ومواقفه كدولة تتوفر على تنظيم بيروقراطي إداري محكم. وإلا كيف يمكن فهم تلك التقنيات العالية التي يصور بها تدخلاته في مختلف المناطق في العالم؟ من يدبر أمر نقل "المجاهدين" والاتباع" من شتى بقاع الأرض إلى أشد المناطق توترا؟ ومن يقوم بعمليات البيع والشراء للنفط؟ إن الفكرة الثاوية، ههنا، وهي أن هذا التيار يمتلك آلية تنفيذية –ربما نجازف بالقول- تضاهى أحسن الآليات في أكبر الشركات العالمية من حيث تنفيذ التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقويم. ويمكن متابعة الحروب الالكترونية التي يخوضها هذا التنظيم مع المخابرات الأمريكية ليعرف مدى فاعلية ونشاط هذا التيار. بعدما بينا بعض الخصائص التي تميز هذا التيار، نتساءل ما هي المقتربات التفسيرية التي يمكن من خلالها فهم خلفيات بروز هذا التيار؟ وعليه يمكن تلمس ذلك، من خلال المقتربات الاربع التالية: رابعا: مقتربات تفسيرية لفهم السلفية الجهادية 1-المقترب الهوياتي: لا يمكن فهم جزء ممما يعتمل في الساحة الدينية اليوم، إلا بالرجوع إلى ما وقع في تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية في كل المجتمعات، والتي عرفت مسارات مختلفة من التحديث والحداثة وما بعد الحداثة، وبالتالي، فقد كان لذلك انعكاسات على المعطى الهوياتي، لأنه في كل التحولات المجتمعية، تتصدع المرجعيات، ويبدأ الانسان الفرد او المجتمع، بطرح السؤال –بشكل واع أو غير واع- ما هي المرجعيات الأصلح لي؟ وأين أجدها؟ وكيف أجدها؟ وهل صالحة لي؟ إلخ من الاسئلة الوجودية المقلقة. ولهذا فنحن نجازف بأن نطلق على عصرنا الحالي: عصر القلق، أو عصر اللايقين؟ من خلال ذلك، فقد كان طبيعيا أن يجد الشباب في العالم، نفسه في حرقة هذه الاسئلة. ولهذا يتم التعبير عن ذلك من خلال مجموعة من المظاهر والعلامات والتعبيرات، سواء في الموسيقى أو الرياضة أو اللباس أو حتى في الحالات الأكثر عنفا على الذات، كالانتحار مثلا.اعتبارا لكل ما سبق، فقد وجد التيار السلفي الراديكالي، مسلحا بأجوبة نهائية وذات وثوقية عالية، لكي يقدمها للعالم وللشباب بشكل خاص. حيث تم بعد هوياتي واضح للأتباع: «ووجد القائمون بالدعاية من أهل السنة أرضا خضبة في جيل تحرر من وهم الماضي ويحمل أعباء اللايقين بشأن المستقبل» ولهذا لا نستغرب إذا ما وجدنا أن فئة الشباب المهمش والمنكسر وبلغتنا نحن المغاربة 'محكور" -توفر لهم الأدوات التي يهاجمون بها التقاليد المحلية، مزايدين في ذلك على الجيل الأكبر سنا، الذي كان جيلا متهما بأنه فاسد وأنه متهاون». ولعل أبرزمظاهر هذه الاجابات تقدم بشكل جاهز، مما يثير الشفقة أحيانا، حول اللباس الذي ينبغي أن يلبسه "المسلم" الصحيح، وكيف يجب أن يترك اللحية تكبر إلى الحد التشبه بالنبي المفترى عليه. والتشديد على النقاب بالنسبة للفتيات، خصوصا في البلاد التي عرفت تنوعا وتسامحا وتعددا ثقافيا في مجتمعاتها. ولهذا فقد كان شعار هذا التيار: « قلي كيف تلبس أقول لك من أنت؟» إن سؤال الهوية من أعقد الاسئلة التي تواجه المجتمعات العالمية، وبشكل خاص، المجتمعات العربية والاسلامية، ولهذا في كل مرة يقع تحول كبير ما: يطرح السؤال من جديد حول الهوية. ولهذا فنحن بالرغم من كوننا نقدم بعض الخطاطات الأولية حول ظاهرة التيار السلفي الراديكالي، بقدر ما نريد أن نشرك القراء الكرام، في نقاش آخر محايث وضروري، وهو أن التعامل مع خطابات الهوية، وجب أن ينأى بنفسه عن التمسك بالمرجعية الدينية، لأن الدين للجميع، وبالتالي فهوم يؤطر المنظومات القيمية والمجتمعية، ولكن لا يجب تقزيم الهوية في هذا البعد، فهو لا يمثل كل الأبعاد. فنحن في المغرب مثلا: لا يمكن لأحد أن يدعي أن هويته دينية مائة بالمائة، بل هي خليط –غير متجانس- من الثقافات والحساسيات، وتجمع التاريخ والجغرافيا والدين والحضارة وكل شيء. 2 التوتر الحاصل في منطقة الخليج، الحرب على العراق «بداية بروز الفكر العنفي» -تسلط الحكومات العربية على الشعوب، إقامة سلطوية جديدة «حالة اليمن وسوريا والعربية السعودية، وليبيا» -تعثر المسار الديمقراطي في العديد من الدول، عودة العسكر للحكم حالة مصر -تفكيك البنى التقليدية وصعوبة بناء مؤسسات بديلة -تراجع ثقة المجتمع في النخب والدولة والسياسة «موت السياسة» -رغم حالة الربيع العربي لكن ذلك لم يؤد إلى اقتلاع الفكر الجهادي بل زكته بعض الممارسات والسلوكات من طرف النخبة السياسة. (حالة مصر نموذجا). 3-المقترب السوسيواقتصادي: -بحسب النظرية الاقتصادية التقليدية، يجد العرض والطلب توازنا في السوق، وهذا ينطبق على الدين -حيث ينظر إليه بوصفه منتجا، فبحث المسلم عن الاسلام الحقيقي يشكل سوقا (كما شرحنا سالفا) -السلفي يعتبر الدين استثمارا حقيقيا في السوق الدينية، وهو مشروع لا يضمن لهم الخلاص الأبدي، ولكنه مشروع تنعكس فعاليته في ثروة مادية في هذه الحياة, ويبدو أن قصص نجاح السلفيين في هذه السوق (نموذج السلفي الذي أصبح ثري، بعدما كان مفلسا، من مستأجر إلى بائع الهواتف الذكية والحواسيب إلى صاحب مطعم فخم بالامارات العربية) هذه المعطيات وغيرها تؤكد المقولة الفيبرية "بأنه يوجد ترابط بين الاسثتمار الديني وبين النجاح الاقتصادي» وهنا قد يتهمنا البعض بكننا نتبنى التفسير الماركسي في شرح وتفسير الظاهرة،، فأقول أنه من الخباء أن نتجاهل أهم مقولات التفسير التي حظيت بمباركة الجماعات العلمية الكبرى في العالم. حيث لا زال الباحثون يستلهمون بعض النظريات التفسيرية التي بلورها ماركس. وخصوصا وأن الدافع الاقتصادي يعد من أقوى الدوافع التي توجه سلوك الفرد أو المجتمع (انظر: إنكليهارت، بيبا نوريس، في آخر كتابيهما: الدين والعلمنة في العالم المعاصر،2011). 4- المقترب السيكولوجي: "شبقية الداعشيين" وأخيرا هناك مقترب تفسيري، وهو الجنس أو كما سماه الباحث " إدريس هاني" بالشبق الداعشي"، فالداعشي لا يقرر الدخول في عملية حرب أو مواجهة " إلا إذا تأكد له أنه سوف يفوز يإحدى الحسنيين: الشهادة أو غنيمة النساء والمال. وهذا الخطاب جد مؤثر في نفوس الشباب المهمش والمحكور. إذ لماذا يقرأ الانسان ويتعب ويشقى؟ إلا من أجل التزوج وتوفير البيت؟ هذه هي الأمنيات الكبرى لدى أي شاب. فإذا كان تنظيم الدولة يوفر لك هذه الأمنيات، فلماذا لا "تجاهد" معه ؟ ولماذا لا تقبل هذا العرض المغري؟ ولعل المثير في الأمر، هو الوصول إلى حد إغراء الفتيات، تحت مسميات عدة: "نكاح الجهاد"، "حوريات المجاهدين"، "وصيفات الحرب". وقد وجدت هذه الدعاوى موقعا لها في نفس العديد من الفتيات في مقتبل العمر ممن ذهبوا "للجهاد" في مناطق من سوريا وليبيا واليمن وغيرها من البلاد العربية والاسلامية. خامسا: آفاق للتحاور والاستشراف إن النقاش الذي ينبغي أن يطرح اليوم، ينبغي ألا ينصب حول تفادي التعاطي مع الظاهرة "الداعشية" بنوع من المصادرة أو حتى السقوط في فخ مقولات المؤامرة أو نظرية اللعب، بقدرما وجب في –اعتقادنا- أن ينصب في فهم الخلفيات والإواليات والمسببات الظاهرة والخفية للظاهرة. وذلك أقدر على مواجهة هذا الفكر الراديكالي اللاتاريخي واللاثقافي. ثانيا: نعتقد أن التعامل مع الدين، لا يجب أن يتم بتقديم جواب حول إلغائه إو إبقائه، وإنما ينبغي أن يركز النقاش على الطريقة التي يمكن استثمار هذا المكون وتطويعه ليكون أكثرا رشدا وخادما لمشروع التنمية الانسانية في أبعادها المادية والروحية، فالظاهر أن المسار الذي يأخذه الدين يتجه أكثر لاعطاء فرص للانسان في الاختيار، إلا أن محدودية الاختيار قد تجعله فاقدا للبوصلة في عالم يصبح بدون حدود وغير قابل للتحكم. و لهذا فمواجهة هذا التيار أو ذاك لن يكون في نهاية المطاف حلا للاشكال، بقدرما الانسان يؤزم الوضع أكثر ويسقط في نوع من المواجهة المفتوحة. ولهذا ينبغي مساعدة الناس وخصوصا في الشباب على الوعي بذاته، وبقيمته بين العالم المادي والروحي، دون تغذية عناصر التوتر في ذهنه بين التقليد والحداثة، بل إن الدين في حد ذاته حداثيا متى تم التعامل مع بنفس حداثي ومتنور. في هذا السياق، ينبغي التفكير جيدا في تجاوز مجموعة من المعضلات التي تولدت عن الاعلام الديني: الأولى: يلاحظ انتشار عمليات إنتاج و ترويج خطاب ديني متشدد بعيد عن الروح المتسامحة والمعتدلة للأديان، ولهذا وجب التفكير في بلورة خطابات أكثر إنسانية وكونية. ثانيا: مقابل خطاب آخر يروج لقيم مادية استهلاكية متطرفة تحاول استغلال السياسية والجنس أو حلم الشهرة والربح السريع. وتفشي الخلط في البث الإعلامي بين الإنفتاح كل الإنفتاح الذي يصل درجة الإنفلات، والإنغلاق كل الإنغلاق الذي يعادي العصر والعالم» ضرورة تجاوز هذا المسلك، والتفكير في رؤى نقدية للنصوص الدينية والممارسات والاتجاهات. ثالثا: التفكير في مواجهة الفكر المتطرف والراديكالي بتوطين قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والكرامة والعدالة الاجتماعية والاحتضان الحقيقي للثروات البشرية التي يزخر بها الوطن العربي. (الكتلة الحرجة). رابعا: إعادة تموضع ي المؤسسات الدينية في الوطن العربي بما يستجيب للتحديات الكبرى المطروحة في الساحة العربية وعلى رأسها الأمن الروحي والديني. خامسا: تجاوز الاحتكار الديني من طرف المؤسسات الرسمية وإطلاق مبادرات مجتمعية تضم كل الحساسيات والفعاليات من أجل بناء وطن عربي جديد بقيم تنويرية تحديثية مؤنسنة للانسان للحياة والمجتمع. سادسا: إطلاق حركية بحثية للكشف عن الجوانب الخفية، والمعتمة في هذه الظواهر. (للاشارة نص المداخلة التي تقدمها بها في جامعة الأخوين في إطار المنتدى الثاني للعلوم الاجتماعية، إفران، يومي: 23-24 ماي 2015).