كثيرا ما تتناول الدراسات والأبحاث الحركات الدينية والإسلامية، من حيث مجالات اشتغالها وطرق تفكيرها وأدوات تأثيرها وسبل رقيها، لكن قليلا ما يتم التركيز على البحث في العوامل السوسيولوجية التي أدت إلى بروزها أو التي تعتمل داخلها، أو الصيرورة الاجتماعية التي تتحكم في دواليب هذه الحركات، وتصيغ منها فاعلا متأثرًا ومؤثرًا في ذات الوقت في المشهد الديني والسياسي بصفة عامة. "" ومن أجل استجلاء بعض هذه المحاور التي تهتم بتنافس الهويات والحركات الإسلامية بالمغرب وأنماط التدين في الحالة المغربية، كان لنا هذا الحوار مع الدكتور محمد الغيلاني المتخصص في الحركات الاجتماعية والدينية وتنافس الهويات والمجتمع المدني، والباحث في قضايا الإسلام والفكر الديني. لا يخفي الغيلاني في هذا الحوار أن الدراسات السوسيولوجية حول ظاهرة التدين في المغرب ما زالت في بداياتها وهي قليلة ومحدودة، ولا يفصل الباحث المغربي بين الشروط التاريخية والشروط الاجتماعية الكامنة وراء نشأة التيار الإسلامي في المغرب، مؤكدا أن النشأة لم تكن تعبيرا عن حالة اجتماعية، بل استجابة لملابسات سياسية ساهمت وما تزال في إرباك مسار التجربة، وفي تعميق سلبيات أبعادها التنظيمية على حساب البعد السوسيولوجي. وتحدث الغيلاني أيضا عن التدين الشعبي بالمغرب وعن التيارات السلفية، كما عرج بنا الحوار للحديث عن التشيع في المغرب الذي اعتبره حالة فردية و"سيكولوجية" أكثر من كونه ظاهرة سوسيولوجية. حالة اجتماعية أم ظرف تاريخي؟ *ابتداء، هل برأيك الحركة الإسلامية بالمغرب حالة اجتماعية (طبيعية) أم هي استجابة لظروف تاريخية يمكن أن تنتهي بانتهاء ظروف نشأتها؟ -ينتمي التيار الإسلامي المغربي في عمومه إلى جملة معطيات لها ارتباط وثيق بالحيثيات السياسية والإستراتيجية والثقافية والدينية، ليست هناك أسباب محددة، ولكن هناك عوامل سوسيولوجية ساهمت في بروز هذا التيار بهذه الملامح التي أصبحت تساعد على تعريف الظاهرة بكونها جزءا من الحركة الإسلامية، صحيح أنه ليس من السهل تعريف هذا التيار بكونه حركة بالمعنى الدقيق والعلمي للمفهوم، بحكم أن سؤال الانتماء الاجتماعي ما زال يطرح نفسه بإلحاح، ومن ثم ما زال العمق الاجتماعي والقدرة الفعلية والالتحام الشعبي محط نقاش بين المهتمين بالظاهرة، بل بين الإسلاميين أنفسهم. برأيي إن أمام الإسلاميين الكثير من العمل لكي يكون بمقدورهم أن يمثلوا تيارا اجتماعيا يحيل على وحدة في المرجعيات ووحدة في التصورات، غير أنه يبدو من الواضح ألا بديل لهم من الاعتراف أن وجودهم تتجاذبه أنماط تفكير متنوعة ومتعددة، بل متناقضة، وهذه من ضرورات التطور والنمو الطبيعي للظاهرة الاجتماعية، ليس السؤال ما إن كانت الحالة الإسلامية قابلة للاستمرار، فذاك مما لا جدال فيه، وهو من شروط الحتميات الاجتماعية وصيرورتها، ولكن السؤال حول طبيعة وملامح هذا التيار في ضوء التحولات المعقدة والعنيفة التي يخضع لها المجتمع المغربي تحت وطأة الاحتكاك الحضاري؟ بمعنى آخر إن هناك أكثر من صيرورة تعتمل في قلب النسيج الاجتماعي إلى جانب صيرورة التيار الإسلامي إن بصيغة تنافسية أو تحريضية أو استئصالية، هذه العوامل تحدد بشكل عميق مسار وتجربة وملامح هذا التيار في المدى المتوسط والبعيد، أضف إلى ذلك جملة العوامل الذاتية أي تلك القدرة النظرية على تفعيل النقد الذاتي والمراجعات الجذرية والجريئة التي تمكن هذا التيار من التعاطي مع المجتمع بوعي المطالب والتطلعات الفردية والجماعية، وعيا ينسجم مع الظروف الجديدة التي نتجت عنها قيم وتصورات واتجاهات ليست بالضرورة متطابقة مع وجهة نظر التيار الإسلامي. الزاوية والتدين الشعبي *يرى البعض أن الحركة الإسلامية حالة طارئة تحمل في أعطافها تدينا جديدا، في حين تمثل الزاوية أهم مكونات التدين الشعبي.. برأيك هل إعادة إنعاش التوجه الصوفي هو قفزة عن هذا المعطى؟ -لم تتوقف الزاوية في المغرب عن الحضور الدائم والمستمر، ولا يمكن تجاهل دورها، غير أن هذا لا يكفي لتفسير الواقع السوسيو- ديني في المغرب، ولا يمكن أن نربط بين ما يسمى التدين الشعبي والزوايا على أساس أنها تمثل ذلك التدين، كما قلت سابقا هي جزء منه أو مظهر من مظاهره لكنها ليست التعبير الوحيد عنه، ما يميز الزوايا هي كونها تجمعات تحيط نفسها بطقوس تنتمي إلى خليط من المعتقدات وتبني قوتها على الغموض والعلاقات الوثيقة والتاريخية مع أركان السلطة.. وتستفيد جراء ذلك من ضمان استمراريتها وانتشار مريديها، وهي تدعي الابتعاد عن الممارسة السياسية، بينما يمثل ذلك الادعاء قوتها السياسية، لم تتخل الدولة عن الزوايا؛ لأنها تدرك مصدر تلك القوة الكامنة فيها والانجذاب الرمزي والشعبي التلقائي للممارسات الطقوسية السائدة في أوساطها، لكن هذه العلاقة تتسم كذلك بنوع من الحيطة والريبة، لذلك فهي علاقة تمارس الدولة من خلالها نوعا من الرقابة والتوجيه. والحديث عن إنعاش التوجه الصوفي يربطه الملاحظون في الغالب بتعيين وزير الأوقاف الذي يقال إن له انتماء ما في هذا الاتجاه، لكنني أعتقد أن هذا التحليل سطحي وغير صحيح؛ لأن علاقة الدولة بالزوايا تتجاوز هذا الأمر بكثير، وهي علاقة لها أبعاد بوظيفة إمارة المؤمنين والمشروعية وبالنسب المشترك وبروابط التاريخ، وبالبعد الإستراتيجي الذي تمثله الزوايا في سياسة الدولة للحفاظ على احتياطي شعبي يدعم إستراتيجيات الدولة في المسألة الدينية كما في السياسة ودعم الحكم، بهذا المعنى قد يجوز الحديث عن أن الاهتمام والرعاية والعطف الذي تحظى به الزوايا كنوع من محاولة إحداث التوازن ليس فقط في وجه التيار الإسلامي، ولكن أيضا إزاء النسيج السياسي عامة؛ لذلك أعتقد أن الرهان على الزوايا له أبعاد متعددة، ليس فقط من الناحية الدينية، ولكن أيضا من الناحية السياسية. الدولة نفسها لا تسعى إلى إنكار وجود ما يسمى الحركة الإسلامية، بل إنها تسعى إلى إظهارها كقوة شرعية لها وجود وامتداد، غير أنها لا تقبل أن تكون تلك القوة وذاك الامتداد خارجين عن السيطرة، لو لم يكن هناك تيار إسلامي لسعت الدولة إلى إيجاده بشتى الوسائل؛ لأنه يمثل ضرورة سياسية وإستراتيجية في المنظور السياسي للدولة للمعادلات السياسية الداخلية وكذا الخارجية؛ لأن الدولة تفضل تيارا إسلاميا تحت المراقبة على وجوده بعيدا عن أعينها، وهي تنظر إليه كخصم لا مفر منه، والأفضل أن يوجد وهو تحت رحمتها من أن يوجد وهي تحت رحمته؛ ولذلك اعتبر أن حاجة الدولة للزوايا لا تقل عن حاجتها للتيار الإسلامي. والمعطيات المتوفرة تثبت أنه ليس بمقدور تلك الزوايا أو ذلك التيار أن يتواجدا دون رضا الدولة وعطفها، لكن هذه المعطيات لا تكفي لفهم مجريات وسيرورات التدين في المجتمع المغربي؛ لأنها لا تعكس إلا تمظهرات خادعة لحقيق الوجود الديني وأنماطه الاجتماعية، وقد أثارني تصريح لوزير الأوقاف والشئون الدينية عندما قال في حوار نشر حديثا: (أما إذا كان هناك من يرغب في ممارسات دينية أو أخلاقية في بيته بعيدة عن المشترك الديني وعن الثوابت الأساسية، فإنه حر)، يثير هذا الكلام كثيرا من الاستغراب، وأيضا الشكوك؛ لأن المغاربة ليسوا حقا على نمط واحد من التدين من الناحية السوسيولوجية، وإن أغلب المغاربة يبحثون عن أجوبتهم الدينية في بيوتهم أمام الفضائيات ولا يعولون كثيرا على فتاوى مشيخة الوزير. أما من جهة التيار الإسلامي فإنه بدوره تحت طائلة الفوضى في المرجعيات الدينية؛ لأن مساره لم تواكبه اجتهادات فقهية وشرعية وبقي مرهونا لاستهلاك الإنتاج الوافد، ويعكس ذلك أيضا ضعف النخبة الممثلة له وعدم قدرتها على إنتاج معرفة دينية تغطي الخصاص الحاصل بين صفوف التيار الإسلامي. أنماط التدين في المغرب * للتدين بالمغرب أنماط كثيرة، فما هي أنماط التدين بالمغرب؟ -قبل ذلك لدي ملاحظتان منهجيتان أود توضيحهما؛ إذ من الضروري أن نميز بين مفهوم الدين ومفهوم التدين، هذا التمييز يساعدنا معرفيا على التعاطي مع الظاهرة بنوع من الموضوعية؛ لأن الكثير من الدراسات تخلط خلطا بين المستويين بطريقة تسقط من خلالها مفاهيم دينية لتحل محل طقوس اجتماعية، ذلك الخلط له نتائج سيئة على طبيعة ونمط التدين في المجتمع المغربي، بل نتائج سيئة على الدراسة نفسها، لا يجوز أن ننطلق من ممارسات اجتماعية لإصدار أحكام على الدين تصريحا أو تلميحا، ثم الادعاء بأن تلك كانت من نتائج تطبيق مناهج العلوم الإنسانية، وإذا كان هناك إجماع على أن الدين يخضع باستمرار للتأويل فإن ذلك لا يعطي الحق لأي كان أن يغير قواعد الإجماع ليرضي لاوعيه المشبع بأفكار سلبية مسبقة. *وما هي الملاحظة الثانية؟ - الملاحظة الثانية هي أن الدراسات السوسيولوجية حول ظاهرة التدين في المغرب ما زالت في بداياتها وهي قليلة ومحدودة، وهذا يعكس من جهة أخرى وجها من أوجه الضعف الذي يعاني منه التيار الإسلامي؛ إذ برغم مرور حوالي أربعين سنة على نشأته لم يفلح في تأسيس مراكز البحث والدراسات والتوثيق أو ما شابه، أضف إلى كل ذلك الوضع البئيس للبحث العلمي والسوسيولوجي خاصة. غير أن فهم أنماط التدين يمر بالضرورة عبر تعريف الدين وتفسير دوره في حياة الفرد والمجتمع وأهميته في صوغ تمثلات المفاهيم الدينية في الوعي الفردي والجمعي، كما تكمن أهميته في تأسيس هوية دينية وروابط وديناميات تجعل من الدين ذاته أداة لفهم المجتمع وتفسير التحولات والتجاذبات القائمة فيه، وهذا المستوى يتطلب تخصصا علميا قائما بذاته يعتني بالوحي ويدرس مبانيه وخطابه انطلاقا من بنية الوحي نفسه وبنية الدين وأهدافه الخاصة. أما على مستوى التدين فلا بد أن نتحدث هنا عن أنماط وتمثلات التدين في المغرب وفق فهم المجتمع وتأويلاته، ليس للدين وحده بل أيضا للموروث الذي اختلط خطابه بالخطاب الديني، وكذلك النظر للتدين وتمثلاته بوصفها مداخل أساسية تساعدنا على تحليل الظاهرة الدينية في نسختها الاجتماعية، غير أن هناك إشكالا آخر يقف عائقا أمام تحليل الظاهرة وتفسيرها، فالدولة تخضع الحقل الديني للرقابة، حيث يتحكم الهاجس السياسي والأمني في سلوكها إزاء الدين. الدولة فاعل أساسي في المسألة الدينية في المغرب، فهي التي تنتج الخطاب الديني من خلال المؤسسات التي تشرف عليها ومن خلال الأجهزة والرموز )إمارة المؤمنين أو وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية)، بطبيعة الحال فهذه الرقابة تساعد على إنتاج رموز دينية بالقدر نفسه الذي تعيق من خلالها نموا طبيعيا لحقول وأنماط تدين في مستويات اجتماعية متفاوتة، وفي مقابل كل ذلك هناك أنماط من التدين تتبلور على هامش المؤسسات الرسمية أو ما يسمى "التدين الشعبي" وهو لا ينضبط بالضرورة إلى معايير التدين الرسمي، وله عدة مصادر ومرجعيات من بينها توجيهات الدولة ومؤسساتها ورموزها، وله أيضا مرجعيات أخرى منها الإعلام المكتوب والسمعي البصري والأشرطة والمنشورات والكتب والتأويل. التدين الشعبي مرتبط في كثير من مظاهره بالتحولات التي تحدث في المجتمع وبالرغبة الاجتماعية في الاحتماء من دواهي الشروط الاجتماعية القاسية، ووجود خطاب ديني رسمي لا يعني بالضرورة أن المجتمع يحمل نفس الخطاب والتصورات، إنما هناك سيرورة على هامش المؤسسات الدينية للدولة أو ما أسميه ب "السيرورة الاجتماعية للتدين"، وهو وصف سوسيولوجي لحقل تدين يصعب رصده، بمعنى آخر إن المجتمع المغربي تتجاذبه على الأقل أربعة حقول، أولها حقل ديني رسمي مؤسساتي له خطاب أحادي محدد، والثاني حقل ديني اجتماعي يقتات على أنماط تدين ذات مرجعيات مختلفة الخلفيات والقيم والتمثلات، وثالث يعرف ب"الإسلام السياسي"، غير أن هذا الوصف هجين وتجد السوسويولوجيا عناء في قبوله، وأما الحقل الرابع فهو خليط من الخطابات الدينية التي يمارسها الإعلام المرئي على صعيد الفضائيات والذي أصبح له جمهوره وأتباعه، الذين يعدون كتلة منقطعة تماما عن التدين المحلي وغير مهتمة به، إذ يتحقق لها إشباع بل فائض ديني. الحقل الأول مراقب وموجه يخضع للتقنين، وهو بالمحصلة دين "إمارة المؤمنين"، مرجعيته واضحة وأهدافه أقل وضوحا، أما الحقل الثاني "السيرورة الاجتماعية للتدين"، أو التدين الشعبي فهو منفلت تعددي المرجعية متناقض وغير قابل للرقابة وأهدافه خاضعة للتحولات الاجتماعية التي تعتمل مفاعيلها في صلب الروابط والعلاقات ليمتد تأثيرها إلى سلم القيم أي تلك التحولات التي تحدث انقلابا في منظومة القيم، لكن الأكيد أن السوسيولوجيا لم تستفد بعد من المعطيات البحثية الميدانية حتى تتكون لدينا رؤية علمية دقيقة قادرة على تفسير وتحليل أنماط التدين ومآلاتها في مجتمعنا، وهذه مناسبة لدعوة الباحثين إلى ضرورة وأهمية تأسيس مراكز البحث والدراسات التي تعتني بالتدين من خلال توظيف معطيات العلوم الإنسانية عامة والسوسيولوجية خاصة. يبقى أن نشير إلى أن هذا تحديد نظري لحقول التدين في المغرب قد يزيد أو ينقص يتسع، أو يضيق يتداخل ويتقاطع في بعض ملامحه كما بتميز ويمارس القطيعة بين حقوله بحسب الشروط والسياقات الاجتماعية. *هناك من يتحدث عن التدين الشعبي كونه أكثر أنماط التدين حركية وهيمنة، كما أنه يزخر بالتناقضات أيضا.. ما رأيكم؟ -لا يستقيم هذا القول ما دام لا يعتمد على إحصاءات ودراسات علمية، التدين الشعبي مفهوم غامض، فهل المقصود به تدين مريدي الزوايا؟ أم مريدي المساجد؟ أم مريدي الفضائيات الدينية؟ أم التدين الصامت؟ أم المقصود به كل هذا؟ لا يمكن بأي حال أن نتحدث عن التدين بصيغة المفرد.. وأجد من المنطقي الحديث عن أنماط تدين منها الشعبي والنخبوي الرسمي والخرافي الطرقي والمذهبي الحركي والحزبي... إلخ. وعلينا أن نسأل المغاربة عن دينهم، إنهم متروكون لاجتهاداتهم الخاصة بل أحيانا للصدفة، المغربي لا يتعلم دينه، إنه يتلقاه أو يصادفه نحن نتعلم كل شيء تقريبا إلا التدين نرثه أو نكتشفه من خلال الآخر، ولكنه ليس في كل الأحوال نتيجة بحث أو دراسة أو علم، حتى داخل الجامعات المغربية ليس هناك مجال للتدين بطريقة أكاديمية، بل تلقين لتعاليم دينية حولها الكثير من الجدل، ينتمي تديننا للتاريخ أكثر من انتمائه للوحي. فالكثير من الفتيات مثلا تحجبن؛ لأنهن تأثرن بحكاية عن عمر بن الخطاب؛ وليس لأنهن درسن مفهوم الحجاب في الخطاب القرآني، إن صلة المجتمع بالدين ليست مباشرة وليست واضحة وقد ينتمي الشخص في الوقت نفسه لأكثر من نمط تدين دون أن يمثل له ذلك أي إحراج أو انفصام.. وفي هذا السياق تبدو محاولات الدولة الهيمنة على حقل التدين دون جدوى؛ لأن خطابها يحمل الكثير من الغموض إلى الحد الذي تبدو فيه دولة لا دينية، ولكنها ليست ضد الدين؛ ولذلك نجد أن الحياد الديني الذي تمارسه الدولة حياد غير مصرح به، فعندما تقول لنا الدولة إنها تدافع عن التدين المغربي فإننا لا نفهم بالتحديد عن أي تدين تتحدث؟ السلفية والطائفية *يقول أحد الباحثين في مجال سوسيولوجيا الحركات الإسلامية بالمغرب، إن الحركات السلفية في المغرب حركات ذات طابع طائفي، أي تحاول ضمان الاستقلالية تجاه العلاقات الاجتماعية السائدة.. هل تتفقون مع هذا الطرح ولماذا؟ -مرة أخرى أجد نفسي أمام مفهوم غامض، الحديث عن الحركات السلفية ينطوي على كثير من المبالغة والإفراط في استخدام مفاهيم لوصف ظواهر لا وجود لها، إن هناك سيرورتين لا علاقة بينهما في هذا الخصوص، أولا سيرورة التدين الاجتماعي كثيرا ما نلاحظ في الشارع العمومي مثلا مشهدا يحمل الكثير من المفارقات، فإلى جانب الفتاة التي ترتدي لباسا يوصف عادة بأنه سلفي توجد أخرى بلباس الجينز أو التنورة أو ما شابه، وهما معا يتبضعان أو يدرسان أو شيء من هذا القبيل.. إذن من الناحية المظهرية لا مجال للحديث عن طائفية أو عن أي نوع من الاستقلالية، بل هناك نوع من الاندماج والتواصل، حتى داخل الأسرة الواحدة يمكن الوقوف على أمثلة مشابهة. ثانيا هناك سيرورة خارج المجتمع مفتعلة ومحدودة واستثنائية تحاول أن تجد منفذا في الحياة الاجتماعية، وأن تخترق النسيج الاجتماعي، لكنها في العمق من دون أصول اجتماعية وليست لها القدرة على الاستقطاب، لذلك تعبر عن نفسها بطرق غير اجتماعية أو مناهضة للمجتمع، لكن في جميع الأحوال، فإن مصيرها مرهون بتحولات سياسية وليس اجتماعية وفور انتفاء تلك الشروط السياسية سوف ينتفي وجودها، وعليه لا يمكن الحديث عن طابع طائفي؛ لأن وجودها ليس اجتماعيا أو دينيا، بل هي حالة مفتعلة كما قلت سابقا. التشيع ليس ظاهرة مغربية * لنتحدث الآن إن وافقت حول ما يمكن تسميته بالتشيع في المغرب.. قال لي ذات مرة المفكر الشيعي المغربي إدريس هاني في حوار صحفي: إن "التشيع" يسكن اللاوعي الثقافي المغربي مستدلا بأن المغاربة هم أكثر فهما وتفهما وتأثرا بالطقس العاشورائي.. برأيك هل التشيع مرتبط ببنية اجتماعية مغربية ذات خصوصيات ما؟ -إذا سمحنا لأنفسنا بالحديث عن اللاوعي الثقافي بهذه الطريقة، فلن يكون من حقنا أن نمنع آخرين من الحديث هم أيضا عن لاوعيهم الثقافي.. بهذا المنهج نفتح باب التأويل الذي قد يضر ليس فقط بالتاريخ والمجتمع ولكن أيضا بالدين نفسه. لا بد من القول إنه من الناحية السوسيولوجية لا يمكن اعتبار التشيع ظاهرة اجتماعية، لكن يمكن اعتبار التشيع "حالة" اجتماعية تندرج ضمن سياق السيرورة الاجتماعية للتدين، غير أن هذا التدين بخلاف التدين الاجتماعي هو تدين مرتبط بنمط جديد من التمثلات الثقافية.. وأود هنا أن أؤكد حقيقة، وهي أنه من الصعب الحديث عن تحول السني إلى شيعي أو الشيعي إلى سني على الأقل في الحالة المغربية، سواء من الناحية الاجتماعية أو من الناحية العقائدية، فالتشيع (برغم التحفظ على المفهوم) ما زال فرديا وليس جماعيا، حالات معزولة تعبيرية عاطفية وانفعالية منشدة للوجدان ومأخوذة بالإعجاب، وهو تشيع نظري أكثر من كونه عقائديا يستلهم بعض الطقوس، ويحاول مغربة بعض جوانبها، حالة سيكولوجية أكثر من كونها ظاهرة سوسيولوجية. عندما نتحدث عن التحول إلى دين آخر أو مذهب ديني معين فإن ذلك يفترض مسبقا أن المتحول كان يعي انتماءه لدين ما أو مذهب ما وأنا شخصيا أشك في ذلك.. السني الذي تحول إلى شيعي أو الشيعي الذي تحول إلى سني في كلتا الحالتين تحول من شيء غير موجود إلى شيء لا وجود له، التحول وهمي تعويضي تهيمن عليه الأساطير والألغاز.. لذلك نجد بعض هذه النماذج تغرق في الوقائع التاريخية أكثر مما تعيد صياغة منظومة انتمائها الجديد.. أكثر مما تجيب عن أسئلة الحاضر.. في رأيي أنه من الناحية الوجودية لا يتم التحول داخليا أو عقائديا، إنما هناك في الغالب انشداد إلى ثقافة معينة وتجارب تبدو للمعني بالأمر أنها تمثل نموذجا، في ظل الأوضاع التي تعيشها المجتمعات التي لا تتحكم بمصيرها. لكن موضوع التشيع يثير إضافة إلى كل ما أشرنا إليه جملة من الإشكاليات، صحيح أنه من الناحية الحقوقية لا يمكن منع الناس من تبني مذهب في الدين فهذا يدخل في حرية الاعتقاد، وهذا حق تضمنه العهود والمواثيق الدولية، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فعندما نتحدث عن الدولة المغربية؛ فإن ذلك لا يعني أنها مالكية برغم أن خطابها يصر على ذلك، فالدستور لا ينص على أي مذهبية، ولو أنه حدد المذهبية لكنا أمام إشكال دستوري وقانوني عند الحديث عن التشيع، إذن الأمر واضح في هذا الشأن؛ إذ لا يمكن أن ننظر إلى الظاهرة على أنها تمثل تهديدا للمجتمع، بل تدعونا إلى فتح نقاش حول المسألة الدينية في المغرب، وتدعو كذلك الباحثين إلى تعميق أبحاثهم حول الظاهرة الدينية ومحاولة تفسير أنماط التدين في المغرب، وطرح سؤال لماذا يسعى المغربي لأن يصبح شيعيا أو لماذا يتحول إلى مسيحي مثلا. وأي هوية دينية؟ * فعلا، تحول كثير من الشباب المغربي إلى المسيحية.. ما هي الدوافع الاجتماعية التي تراها وراء هذا التحول العقائدي؟ وكيف يمكن مقاربتها؟ -عذرا إنهم ليسوا كذلك، ليسوا نصارى إنهم يبحثون عن انتماء بديل يستعيدون به ومن خلاله كيانهم الحقوقي، يبحثون عن الاعتراف غير المنقوص وعن المواطنة الكاملة. إنها ليست مسألة تحول ديني إلا إذا اعتبرنا الدين يورث. السؤال: ما هويتهم قبل أن يختاروا ما اختاروه؟ هل كانت لهم هوية دينية؟ هل كانوا على اتصال بدين ما؟ كما لتغيير الدين طقوس، فإن للخروج من آخر طقوس، ليس هناك تحول عقائدي، لكن هناك دوافع اجتماعية وسياسية وحقوقية ومعرفية لفهم تلك الظاهرة وهي نفسها العوامل المساعدة لفهم ظاهرة انتحار الهويات، وإذا وجدت تفسيرا سوسيولوجيا للهجرة السرية مثلا فسيسهل عليك الجواب عن ما أسميته بالتحول العقائدي، لا أهتم كثيرا ببعض المعطيات الإحصائية التي تم تداولها مؤخرا حول أعداد الطائفة المسيحية بالمغرب؛ لأنها على كل حال تحصيل حاصل، فوحده الزواج المختلط يكفي لتبرير تلك الأرقام، لكن السؤال الحقيقي الذي يتجنبه الجميع يبقى ملحا: أي نمط مجتمعي نريد؟ أي هوية دينية؟ ما هو انتماؤنا؟ تلك من طبيعة الأسئلة التي تخلى عنها الجميع خصوصا النخب، لم يعد الإنتاج الفكري يعير لهذه القضايا اهتماما، ربما لأننا اكتفينا بأجوبة الآخرين عن أسئلتنا الوجودية. [email protected]