قد يبدو العنوان غريباً، إلا أنه تعبير متداول في الساحات الأكاديمية الغربية لما يحمله من دلالة تراجع خطاب الاستقالة من تدخل الدولة في الشأن الديني لمصلحة الفعل المباشر في حركيته، لتعلن بذلك عن اعتراف غير مباشر بوجود موقع للدين في الفضاء العام وأن عدم تدبير الدولة له لا يعني تراجعه للفضاء الخاص، بل هو بطبيعته يمتد ليتفاعل مع باقي مجالات الحياة العامة، وهو مُعطىً نجده في مختلف الأديان بما فيها التي تنزع للقول بأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لتكشف عن أزمة النموذج العلماني في تدبير العلاقة بين الفضاء العام والفضاء الخاص، وهي أزمة قدمت كتابات المفكر البريطاني جون كين تحليلا عميقا لها بالنسبة للحالة الغربية. في الحالة العربية، نجد الوضع مختلفا، حيث إن الدولة العربية الحديثة وجدت نفسها في مطلع هذه الألفية بين ثلاثة رهانات في تأطير تدخلها في الحياة الدينية، وهي الرهانات التي أنهت بنسبة كبيرة وهْم الحديث عن تراجع تدريجي للتقليد في مقابل تقدم التحديث، وأن تنامي التعليم وتسارع التصنيع ومعه التمدن سيؤدي تدريجيا لتقلص ضغط ودور التقليد بمختلف مرجعياته، وعلى رأسها الدين -بحسب هذا الخطاب- في تأطير أو على الأقل التأثير في حركية الحياة العامة، وتبدو مؤشرات ذلك كثيرة منها ما نستشفه من حديث في الحالة المغربية مثلاً أثناء نقاشات تحولات المجتمع في إطار مشروع مغرب 2030 الذي ترعاه المندوبية السامية للتخطيط، من أن تنامي الطلب الديني في المجتمع وتنوعه في مقابل عولمة العرض الديني للاستجابة لهذا الطلب تصطدم بأزمة المؤسسات الدينية، مما يفتح المستقبل الديني للمجتمع المغربي على احتمالات متعددة منها ما يمكن توصيفه بسيناريو تفكك الخصوصية الدينية المغربية لمصلحة النماذج الخارجية. قد تبدو اللغة الآنفة مستفزة وجافة وباردة لكنها تعبر عن نوعية التفكير الذي نشأ في هذه العشرية وهيّأ شروط تشجيع وليس فقط القبول بدور متنام ومتزايد للدولة في تدبير حركية التدين في المجتمع، والذي يمكن القول إنه مؤطّر -كما سبقت الإشارة- بثلاثة رهانات، الأول رهان خارجي وأطرته سياسات الإدارة الأميركية السابقة ويعمل على إعادة النظر في سياسات الشأن الديني بما يساعد على كسب الواجهة الدينية والفكرية من الحرب على الإرهاب، وبرزت أثناء ذلك خطابات تدعو للتصوف كما في تقرير شهير لمؤسسة راند ذات العلاقة بمشاريع البحث الدفاعية للبنتاغون ونشط تقرير الخارجية الأميركية الخاص بالحريات الدينية في تقديم المؤشرات ذات العلاقة بجزء من هذه التوجهات الجديدة والتي سبق أن أعلن عنها مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق وولفويتز في خطاب له في ربيع ,2002 وهذا الرهان لم يستثن المغرب، بيد أن حضوره يبقى محدودا، ثم هناك الرهان الدولتي والقائم على ضرورة استعادة المبادرة وملء الفراغ بعد بروز آثار الغياب أو الانسحاب على البناء المذهبي والاجتماعي والأمني للمغرب، وهو رهان ظهرت إرهاصاته قبل حوالي عشر سنوات مع صدور المذكرات الأربع الشهيرة لكنه اتخذ مسارا جديدا منذ خطاب الملك محمد السادس في أبريل ,2004 والذي جاء بعد حوالي سنة من تفجيرات الدارالبيضاء الإرهابية، لكن مع بروز تحديات أخرى كالتشيع والتنصير واستهداف السيادة الوطنية عبر أدوات الشذوذ الجنسي وغيره بدأ الوعي ينمو بضرورة التوفر على سياسة مندمجة لكن بلورتها ما تزال متعثرة. أما الرهان الثالث فهو الرهان المجتمعي والقائم على إعادة الاعتبار للدين في الحياة الفردية والجماعية ضمن منظور منفتح وسطي يتم فيه التقاء الجهود المؤسساتية بالجهود المدنية، وهو الرهان الذي تكشف طبيعته الدراسات السوسيولوجية والتي نجد أنها مثلاً وضعت المسجد كمصدر أول ومتقدم للمعلومات، أو تحديد المغربي لهويته كمسلم أولا أو في تعبيره عن عدم التعارض بين الإسلام والديمقراطية ورغبته في دور أكثر فاعلية للإسلام في الحياة العامة، وهي كلها توجهات مجتمعية تجعل من السعي لإعادة هيكلة المجال الديني ضرورة ملحة للاستجابة لتوجهات وحاجيات المجتمع، وهنا يمكن الإشارة إلى أن المغرب كان مسرحا ومنذ حوالي ست سنوات لسلسلة من الدراسات السوسيولوجية الميدانية أبرزها محليا دراستا البحث الوطني حول القيم ل 2004 والإسلام اليومي ل ,2007 ودولياً أربع دراسات أميركية منها ثلاث لمؤسسة بيو ضمن مشروع التوجهات العالمية وصدرت في 2007-2005-2003 ورابعة لمؤسسة غالوب في سنة ,2008 والمثير أن نتائج هذه الدراسات كانت متقاربة في كشف التحول القائم في المجتمع المغربي عموما والشباب خصوصا لمصلحة التدين وبشكل مختلف عن عدد من الدول العربية والإسلامية. ما سبق يكشف جزءا من خلفيات عدد من السياسات التي شهدها المغرب في السنوات الأخيرة في مجال ما سمي في الخطاب الرسمي بتأهيل الحقل الديني، غير أن المأزق القائم هو في مدى انسجامها مع باقي السياسات العمومية المتخذة.