مقدمة شخصية جدا في رمضان من كل سنة، يتمطط الوقت وراء الوقت حتى ليصير عبئا ثقيلا على هذا الكائن الصائم بالرغم عنه، المتشنج، السريع الغضب، القابل للانفجار في أي وقت، بل إن هذا الوقت الفائض عن الحاجة، غير المرغوب فيه إلا عند الضرورة (وعند شي وحدين) سيصير أوقاتا كثيرة و مختلفة، مشتتة في الزمان والمكان حتى لنحار أين سنصرفها وكيف؟ ذلك لأن كل وقت إنما يفضي إلى وقت آخر ولا نهاية للنهار المشمس، المصهد، إلا في بداية إطلالة الليل بخيوطه المسدلة. نعم، هو زمن ديني مخشع بامتياز لا علاقة له بالزمن الاخر العادي الذي نعيشه طيلة السنة و نحن مفتونون بالبحث عن أنفسنا اللوامة بالسوء، الباحثة هي الأخرى عن نفسها المفقودة والمقذوفة في زحمة الأيام، فمند الصباح إلى المساء و نحن جد مثقلين بالزمن بالساعات والدقائق والثواني. وبما أنه زمن ثقيل، فإننا حتما سنتساءل: كيف علينا أن نفتته حتى نتخلص منه؟ ثمة في هذا اليوم القائظ، كائن ما يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كائن مسخسخ، مترهل، مرتخ، لا يؤمن بالزمن ولا علاقة له به، غير قادر على الإمساك بوعيه المنفلت، الهارب إلى اللاشيء، لا هم له إلا النوم في انتظار خيوط المساء أن تنسدل من السماء! في رمضان كل الأوقات تصلح لقتلها: في النوم الثقيل الممتد إلى ما بعد الزوال في التجوال في الجوطيات في الذهاب إلى البحر والنوم هناك في البحث عن صائمات ليليات، فماذا يهمك أنت، أيها الكاتب المفترض من كل هذا؟ من الصائمين بزز؟ فدع عنك شأنهم وقم إلى مكتبك وخذ منها الكتب الرائعة التي تليق بهذا الشهر، ستجد نفسك أنك غرقت في ثقافة الحداثة الطاغية الآن بخطابها المكرر، وأن ماضيك العربي الموغل في القدم يناديك أن تعال، فهات ما عندك ودق أبواب قلب القارئ الغارق في سهاده. إن هذا الشهر الديني، الاستثنائي في منظومة الزمن، لجدير بكتب قيمة تضيئ الظلام السائد في حياتنا الرتيبة الغارقة في الوهم والاتكال على الغيب. الكتاب ديوان الزنادقة! كيف؟ سوف ترى أيها القارئ المتكئ على الأوهام. ثمة كتب جديرة بالقراءة ذات موضوعات فكرية شيقة تهتم بالتاريخ وبالسياسة الدينية في الإسلام والظواهر المجتمعية التي كانت سائدة في أرجائه، لننظر مثلا إلى الكتب التالية: الحركات السرية في الإسلام »لمحمود إسماعيل« الحشاشون في تاريخ الإسلام »لبرنار لويس» و(هم فرقة ثورية) المهمشون في التاريخ الإسلامي لمحمود اسماعيل أيضا – «الخمر في التاريخ والاديان» لفايز سلهب . لقد كانت هذه الكتب منسية بين الرفوف، إلى أن حل رمضان فأحياها من موتها! طبعا، لم تكن قراءتها تزجية للوقت، بالعكس، فبما أن الوقت فائض فإن قراءة كتب التراث لمتعة نفسية لا حد لها، دعونا من الكلام الديني المكرر كل سنة بشكل ببغاوي، ذلك أن كل من هب ودب ينصب نفسه «عالما» و«فقيها»، هكذا كثر «الدعاة» الأميون. في حياتنا اليومية، تعودت آذاننا على سماع كلمة «زنديق» من أفواه الناس العقلاء وهم يطلقونها على كل شخص يأتي بأفعال سيئة بالأخلاق وبالآداب العامة، من الممكن أن تكون هذه الكلمة مرادفة للكفر وللعهارة، ولكنهم لا يعرفون مصدرها اللغوي. إن الزنديق، في المفهوم الشعبي، هو الشخص الذي لا يخجل من قول الكلام الفاحش في واضحة النهار، بل انه شخص وقح، عدواني، مثير للشغب ولا يهمه ما يقال عنه، فهو سكير وعربيد، وبهذا المعنى فالزنادقة لايشكلون ظاهرة بارزة في المجتمع، بل هم أقلية هامشية هنا وهناك، لا يكتبون الشعر مثل زنادقة قريش. ففي هذا الكتاب الرائع الذي كتبه الباحث العراقي المعروف، جمال جمعة، ما يغني عن أي تساؤل حول أصل هذه الكلمة، إذ يورد قول ابن منظور عن الزنديق بأنه «القائل ببقاء الشر ، وهو بالفارسية: زَنْدِ كْرَديْ، والزندقة: الضيق، وقيل: الزنديق هذه لأنه ضيق على نفسه و«الزنديق معروف، وزندقته أنه لا يومن بالآخرة ووحدانية الخالق، وليس في كلام العرب زنديق، و إنما تقول العرب زندق وزندقي إذا كان شديد البخل»، أما كارل بروكلمان صاحب كتاب «تاريخ الشعوب الإسلامية»، فيقول «إن كلمة زنديق كانت شائعة في عهد الساسانيين وتطلق على من يتجرأ على تفسير كتاب «الزرادشتيةالمقدس» في حين يرى الباحث العراقي الاخر، جواد علي بأن «الزندقة التي اخذت من الفارسية قد أريد بها في الاصل الخارجون عن القانون والمنشقون عن دينهم، فهي تعني إذن «الهرطقة» التي صار لها مدلول خاص في العهدين الاموي والعباسي) حيث قصد بها «الموالي الحمر»، أي الذين تجمعوا في الكوفة وكانوا يظهرون الاسلام ويبطنون تعاليم المجوسية والإلحاد. الإسلام يقال في العرف اللغوي السائد الى الان، إنها «الجاهلية» دلالة على عصر ما قبل مجيء دين جديد هو «الاسلام»، أتى به الرسول (ص) ليهدي به قومه من الجهالة والكفر والإلحاد. والواقع أن الجزيرة العربية، قبل الاسلام، كانت بيئة مدنية متعددة ومتعايشة المذاهب والأديان». فبالاضافة الى الوثنية، هناك اليهودية والنصرانية والمجوسية والصائبية، إضافة الى الملاحدة قريش، هكذا جوبه النبي (ص) أثناء دعوته الدينية، بشراسة، من طرف هؤلاء الملاحدة الذي ضيقوا عليه الخناق في مكة حيث هجاه شعراؤها وقالوا فيه كلاما سيئا، لكنه كان يتحمل كل هذه الضربات، بصبر لا مثيل له، فقبل الاسلام «كان النبي وأصحابه مستضعفين أمام جبروت أهل قريش، وقلة أمام جمع القبائل العريقة المذاهب والاديان و«كان» يكاد يكون بعبء دعوته وحده بإزاء الكثرة المطلقة من قومه» ولذلك فعندما انتقل الى المدينة، أصبح جهاده «دينيا وسياسيا واقتصاديا» يقول المؤلف، في مقدمته المستفيضة، كانت رسالة محمد امتدادا لرسائل الانبياء السابقين، إذ لم يفلح في السنين الأربع الاولى، من عمر دعوته، في كسب أكثر من أربعين شخصا.جلهم من المستضعفين والاقرباء والمتعاطفين معه، لكن في الجانب الآخر من هذا المشهد الحزين، كانت القبائل العربية، تأتي من أطراف جزيرتها لممارسة طقوسها الدينية وعبادة الاصنام، كانت مكة «نموذجا» للتنوع داخل الوحدة. إن خصوم الرسول الأوائل هم الملحدون، فقد أنكروا وجود الخالق والبعث والنشور. الزنادقة من هم؟ هم ثمانية كما جاء في هذا الكتاب: على لسان ابن حبيب وقتها: أبو سفيان ابن حرب (وقد أسلم ) - عقبة بن ابي معيط (ضربت عنقه صبرا)، ابي بن خلف الجمحي (قتله الرسول بيده يوم أحد) النضر بن الحارث بن كلدة اخو بني عبد الدار (ضرب الرسول (ص) عنقه صبرا - ونُبَيّه وبنيته (ابنا الحجاج السهمان) - العاص بن وائل السهمي - الوليد بن المغيرة المخزومي، ان هؤلاء قد تعلموا الزندقة من نصارى البحيرة. وبالنسبة لخصوم الرسول الفكريين، يقول المؤلف، فإن «أخطرهم هو النضر بن الحارث، قفد كان من «شياطين قريش» على حد تعبير ابن هشام،رغم أنه يمت بصلة عائلية الى الرسول، فأمه كانت خالته (أي الرسول) وأبوه طبيب من أشهر أطباء العرب في الجاهلية، إذ لم يكن النضر منافسا للرسول فحسب، بل كان ممثلا للطبقة الارستقراطية المثقفة والمتمدنة، وهكذا فقد استعصى على الرسول إقناعها بقبول ما جاء به من دين، لذلك لم يدخر جهدا في تصفيته، حيث دفعه الى علي بن ابي طالب، يوم غزوة بدر، بضرب عنقه رغم كونه أسيرا،» وقد رثته أخته قُتَيِْله بقصيدة مرة قال عنها: النبي «لو بلغني هذا قبل قتله لما قتلته». في هذا المناخ الشرس، بين الرسول وأنصاره من جهة، وبين المشركين الملاحدة القريشيين من جهة أخرى، لم يهدأ تيار الزندقة حتى في صدر الاسلام. لقد تعزز هذا التيار بدخول الاجناس الاخرى ذات الخلفيات الثقافية المختلفة في الاسلام التي رأت في التزندق الثقافي خير وسيلة لإعلان تمردها على أسيادها العرب، «وسيتبلور هذا التيار في العهد العباسي لدحض النبوة وتسفيه الشرائع ونقد القرآن حتى اضطر الخليفة المهدي، ثالث الخلفاء العباسيين، بعد استفحال أمرهم، الى إنشاء ديوان أسماه ديوان الزنادقة، فهل انتهت الزندقة فعلا؟ لم يهدأ تيارها، بل كان يعبر عن نفسه بين آونة وأخرى على ألسنة الشعراء. فالحنين الى شرب الخمر، والتغني بها، التبرم من الفروض الدينية، والتوق الى الايام الخوالي في الجاهلية، كان يتردد صداها في ثنايا القصائد التي كتبت في صدر الاسلام. يتبين لنا مما سبق أن الزندقة، كسلوك أخلاقي ومنحى فكري واجتماعي، قبل الاسلام وأثناءه وحتى بعد وفاة الرسول (ص) لم تنته، فخارج الاطار الديني الذي جابهت به الدعوة الرسولية، بسخرية وهزء، فقد تمثلت في نصها الشعري - الادبي الذي لا مناص من نكرانه، ألم يلتفت الراحل طه حسين الى هذا الادب فكتب كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي»؟ ان الدين هنا شيء والشعر شيء آخر، لقد كان زهير بن ابي سلمى شاعر الرسول، وهذا يعني أن الشعر كان صوت المجتمع القريشي الموزع بين الولاء والرفض التام للدعوة الاسلامية. يكتب المؤلف: توزعت نصوص الزنادقة الشعرية على كتب متناثرة لم يضمها كتاب بعينه، أما نصوصهم النثرية فقد أتلفت تماما، وأصابها ما أصاب أصحابها من الحرق والقتل والتشريد ككتب ابن الرواندي وغيره ولم يبق منها سوى شذور متناثرة في الكتب التي كتبت للرد عليها وتفنيدها، وكان أول من بذل جهدا لجمع تلك النصوص أو بقاياها هو المرحوم عبد الرحمان بدوي في كتابه الرائد «تاريخ الإلحاد في الإسلام». أما النصوص الشعرية فقد بقيت عرضة للحذف والبتر والتغييب مع كل طبعة جديدة تطبع بها كتب التراث، لقد اشتغل المؤلف على جمع هذه النصوص (المنشورة في الكتاب) ما يقرب خمس سنوات، راجع فيها مئات المصادر وقلب آلاف الصفحات لعله يعثر على بيت شعري أو بيتين، كذلك فهو لا يزعم بأنه قد جمعها كلها. والآن، من هو الزنديق في المجتمع المغربي؟ ثمة زنادقة كثر وها رمضان قد انتهى.