من يصدق أن الرجل المبتسم دوما، رحل بهذه السرعة، ومن يصدق أن الأنيق واللبق والدافئ في علاقاته العامة غادرنا دون وداع. في هول الصدمة تحاول أن تعيد رسم صورة عثمان بناني، كما حكاها هو بنفسه في جلسات متعددة، و أيضا تفاصيل حكي من اقتسم معه أزمنة متعددة، حكي لا يمكن لمن يهتم بالتاريخ الراهن أن يمر عليه مرور الكرام. هذا الشعور انتابني حين هتف لي السي الطاهر الجميعي باكرا، ينعي رفيقا له منذ أكثر من ست عقود، بالكاد خرجت الكلمات من حنجرته، عثمان الله يرحمه. تعود علاقاتي بعثمان إلى بداية الثمانينات بعد عودته من المنفى والتحاقه بكلية الآداب بالرباط، شعبة التاريخ، وزادت روابط القربى بيننا بعد كتاباتي لمقالات عن المهدي بن بركة، خصوصا في منعطفات تقاطع فيها طفو قضية بن بركة مع رغبة في قتل الذاكرة من أجل تغيير ملامح صورة بن بركة لدى الرأي العام الوطني بالخصوص. يحكي عثمان عن علاقاته مع المهدي بن بركة من منطلق القضاء والقدر، بن بركة تزوج أخت عثمان، والصهر طلب منه الرحيل إلى القاهرة أواخر الخمسينات، وهو الذي كان من أبطال المغرب في السباحة والغطس، وكيف وجد نفسه، وهو شاب يافع، في ملعب الكبار في سكرتارية منظمة تضامن، والالتقاء بحركات التحرير افريقية وغير الإفريقية. في 1959 انتهت تجربة المجلس الوطني الاستشاري الذي كان يرأسه بن بركة واشتد الصراع بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و " النظام " خلال حكومة عبد الله إبراهيم، التي أقيلت في ماي 1960، ففهم بن بركة أن زمنا جديدا بدأ في المغرب، ومع بداية حلقة من العنف والاغتيالات، انسحب بن بركة إلى خارج المغرب حيث ركز اهتماماته على قضايا العالم الثالث وتضامن الشعوب الإفريقية والأسيوية. حول هذه المرحلة كان عثمان خير معين في فهم سياقات عديدة حول المرحلة المعقدة والتي تركت بصماتها في زمن الاستقلال. عثمان الشاب التقى في القاهرة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويسهب الرجل كثيرا في تفاصيل تغير موقف بن عبد الكريم تجاه المهدي بن بركة، وكيف تطورت الأمور إلى علاقات صداقة بين الرجلين، أفضت إلى تنظيم الاتحاد الوطني لتجمعات تأبين في عدد من المدن المغربية إثر وفاة زعيم معركة أنوال في فبراير 1963. تقاطعت تفاصيل حكي عثمان بناني عن هذه المرحلة مع ما سمعته ودونته من الرجل الذي كان يراسل بن عبد الكريم من المغرب حول " جرائم حزب الاستقلال"، وكان من المقاومين ومن مناضلي حزب الشورى والاستقلال، قبل أن يختار طريقا أخر في فجر الاستقلال، وهذه قصة أخرى. من شيم عثمان بناني أنه حمل ثقل المسؤولية وقضايا العائلة منذ أن كان غضا، وكما جاء في البيان الحزين لعائلة بن بركة تأبينا للخال الذي عوض الأب، أنها وجدت بعد رحيلها إلى القاهرة سنة 1964، راعيا قريبا، وحكى لي عثمان تفاصيل هذه المهام الجديدة إضافة إلى مهامه في الأمانة الدائمة لمنظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية. اعتبر عثمان إرساله إلى القاهرة وصية من المهدي بن بركة للاهتمام بالعائلة، فكان ما كان بعد اختطاف واغتيال بن بركة في أكتوبر 1965، ولم يكن عثمان فقط الأب في البيت الكبير الذي منحه جمال عبد الناصر إلى عائلة المهدي في القاهرة فقط، بل تعداه إلى منح الأبوة إلى أبناء آخرين من العائلة، اغتيال يوسف السباعي لم يرتبط اسم عثمان بناني بقضايا المغرب فقط، بل كان حاضرا في مراكز عدة مهتمة بالشأن العربي والإفريقي، ومن الأشياء التي أثرت في ذاكرة عثمان مقتل يوسف السباعي أمين عام منظمة التضامن الأفرو أسيوية، وهي منظمة تأسست في العام 1957 انبثقت عن مؤتمر باندونغ المنعقد في 1955. اسر يوسف السباعي لعثمان، عندما تقرر عقد المؤتمر في قبرص، أنه هذا يعني قرار إعدامه. يحكي عثمان عن عملية الاغتيال، من لدن جماعة أبي نضال، يوم 18 فبراير 1978، وكيف تحول عثمان ضمن 31 مؤتمرا إلى رهينة في أيدي من اغتالوا السباعي الذين طلبوا طائرة، حملوا فيها الرهائن إلى مطارات متعددة رفضت منحا حق النزول. كان عثمان بناني من بين المختطفين، بين التهديد بالقتل، ورفض مطارات المنطقة استقبالهم، نزلت الطائرة أخيرا وعنوة، وفق رواية عثمان، في مطار جيبوتي. في كل مراحل الاختطاف، كان عثمان يقول هذه هي النهاية إذن. وفي الندوة التي أقيمت لتكريم زميلنا إدريس العمراني، بكلية الآداب عين الشق، في يناير 2004، فضل عثمان حكي تفاصيل هذه القضية. كان هناك فصل ثان من عودة الطائرة إلى قبرص واصطدام بين قوات كوماندو مصرية والحرس القبرصي انتهت بقتلى، في حين تمكنت مجموعة أبي نضال من الاختفاء وقطعت العلاقات بين مصر وقبرص. بعد عودة الفقيه البصري في العام 1996، وما تلا ذلك من اندلاع حروب الذاكرة، ظل عثمان على مسافة واحدة من الجميع، رغم أنه كان قريبا جدا من الأحداث التي واكبت مرحلة المؤتمر الخامس للاتحاد الاشتراكي ( 1989)، وبروز الثنائية النقابية السياسية من جديد في قيادة الاتحاد، والاتصالات مع الفقيه البصري. عثمان والتاريخ الراهن في 2002 ، وقبل نشري كتاب حول تاريخ الاتحاد 1959-1983 ، سلمت عثمان نسخة لإبداء رأيه وتصحيح ما يبدو له مجانبا للصواب، لكن المفاجأة أنه لم يرسم كلمة في ثنايا النسخة المسلمة له، في لقاء بالنادي الذي كان موجودا بضفة أبي رقراق أسفل حصن الأوداية، اكتفى بجرد ملاحظاته شفهيا، وفهمت أن الرجل يريد أن يبقى على مسافة من الجميع. في العام 2003، هاتفني ملحا على لقائي في نفس النادي، ليسلمني مذكرات هامة، عرفني في ذلك اللقاء على الدكتور سمير البليدي، الطبيب الجراح في العظام والمفاصل، لكنه رجل شغوف بالتاريخ الراهن، والده المقاوم البليدي، كان ضمن خلية الرباط مع عدد من المقاومين ، منهم سباطة والمكي برتيلة. في ذلك اللقاء تسلمت من عثمان والبليدي نسخة من مذكرات المكي برتيلة بخط يده، وقال لي عثمان اقرأها جيدا ونكمل حديثنا في ما بعد. فوجئت بمضمون هذه المذكرات التي تحكي ولادة خلية المقاومة في « المدينة» وتشكلها من شباب بعضهم لم يتجاوز عمره 16 سنة. لأول مرة اقرأ مذكرات صريحة ومتميزة، ليس فقط لمسار صاحبها، الذي حكم عليه بالإعدام، وأجل تنفيذه لارتباطه بقضايا أخرى، إلى أن حل الاستقلال. لأول وآخر مرة أقرأ مقاوما تفاصيل دقيقة عن التصفيات الجسدية التي تمت في الرباط إبان الحماية، وفشلت العملية في تصفية فلان وفلان، مع تفصيل في عمليات الاغتيال التي نفذت في الرباط، التقيت عثمان مرة أخرى ، قلت له إنها مذكرات استثنائية، قال : مذكرات حارقة، وشرح لي السبب، ولذلك كان من الصعوبة نشرها لأسباب لم تنتف بعد، وهي نفس المذكرات التي نشرتها مندوبية المقاومة بحذف الأسماء والتفاصيل إضافة إلى مرحلة ما بعد الاستقلال. في النقاش الذي واكب عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، تابع عثمان كل ما كتبته من قضايا التاريخ الراهن، خاصة ما ارتبط بالمهدي بن بركة، ونبهني إلى كثير من التفاصيل التي نشرتها العام 2003 في دراسة «قضية المهدي بن بركة بين البعدين الجنائي والسياسي». وكثرت لقاءاتنا في الندوات المنظمة من لدن بعض الكليات أو في إطار أيام الجمعية المغربية للبحث في تاريخ المغرب ، ومنذ 2007 في إطار الندوات التي نظمها المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، والتي تمحورت حول التاريخ الراهن، إن من حيث المقاربات المنهجية، أو القضايا التي احتلت الواجهة الإعلامية، كما الحال بالنسبة لقضايا الاغتيال السياسي، و في مقدمتها اغتيال عباس المسعدي. وغصنا غير ما مرة في أعماق قضايا التاريخ الراهن، خاصة ما ارتبط بالاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي والتنظيم السري. كان عثمان بالنسبة لي مرجعا لفهم سياقات عديدة ولتكملة ما استطعت الحصول عليه من لدن مصادر من زمني الحماية والاستقلال. كان عثمان متأكدا من أحداث بصمت تاريخ المغرب الراهن، وكنت أقول له: أنت مؤرخ، وأنت تعرف أن الحقيقة التاريخية وهم، ويصعب إثبات هذا الأمر بالكلام والرواية الشفوية، فيجيبني دائما: يجب أن تلتقي بالطاهر الجميعي. أسأله من يكون الطاهر الجميعي؟ وحكى لي الموجز من سيرة الطاهر وارتباطاته بالفقيه ومحمد بنونة وعبد الرحمان اليوسفي. في العام 2010 التقيت عثمان في المعرض الدولي للكتاب صحبة رجل، فقدمه لي : ها هو الطاهر التي حدثك عنه. الطاهر الجميعي من صنف متميز من الفاعلين في التاريخ الراهن، بادرني، ودون مقدمات، لست متفقا معك في ما جاء في مداخلتك حول كتاب سباطة ( يحيل هنا إلى قراءة نظمت في الرباط حول مذكرات سباطة : « كان الأمل حاضرا» الذي رتبه محمد برادة ونشر في العام 2008 ). كان الطاهر حاضرا في حفل القراءة، لكنه لم يقل شيئا حينها. سألته لماذا لا تكتب مذكراتك؟ وأردفت نحن نشتغل على المذكرات وما أتيح من وثائق، حينها وعدني عثمان بنسخة من كتاب عبد الله رشد، وتباطأ عثمان في تنفيذ وعده، والتقيت بعد ذلك الطاهر وقلت له إن عثمان لم يسلم لي نسخة من كتاب رشد، فوعدني بذلك، والطاهر رجل إذا وعد وفى. في لقائنا كان الطاهر غير راض عما نشر عن مرحلة التنظيم السري وليبيا وبنونة وإذاعة صوت التحرير، خاصة من لدن رجل اعتبره عدد من الفاعلين في هذه المرحلة أنه أعطى لنفسه مقاسا كبيرا داخل « الثورة» حين أن مهمته كانت محدودة. حاولت أن أردد ما نقوله جميعا حول علاقات الذاكرة بالتاريخ، وأن الحاكي يعطي لنفسه الدور المركزي، عدا إن كانت لديك وثائق مكتوبة، التي بدورها يجب أن تخضع لدراسة ونقد قبل توظيف معلوماتها، فأجابني : عندي وثائق كثيرة. اتصل بي الطاهر الجميعي هاتفيا، وعبر لي عن رغبته في كتابة مذكراته، ونسجت مع الرجل مرحلة جديدة، لم يسلمني فقط ذاكرته الممتلئة بتفاصيل قضايا كثيرة، بل وضع، أمامي محفظة كبيرة من الوثائق والمخطوطات ورسائل بخط محمد بنونة والفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي وقادة فلسطينيين وعرب. وفي أول لقاء تسجيل للمذكرات بالصوت، أدركت لماذا كان عثمان بناني يلح علي في ضرورة الالتقاء بالطاهر الجميعي. منذ العام 2011 أنجزت مع الطاهر الجميعي 11 نسخة من مذكراته، المستندة إلى مئات من الوثائق، المخطوطة بالخصوص، لكن مذكرات لم يكتب لها النشر !!! في مرحلة ربط العلاقة بين الفقيه البصري والليبيين، يحكي عثمان بناني عن علاقاته بالقوميين العرب، الذين كانوا يؤمون القاهرة، ودور سكرتارية التضامن الأفرو أسيوي، وكان من الطبيعي أن تكون القاهرة هي همزة وصل بين الفقيه والليبيين، حكى عثمان عن تلك الزيارات الأولى، وهي معلومات أكدها الطاهر الجميعي في مذكراته. كان عثمان بناني يعرف مشروع الكتاب مع الطاهر الجميعي، لكننا لم نتناقش أبدا هذا الأمر، لأني وعدت الطاهر بالصمت، لكن بدا لي عثمان سعيدا بالمشروع، ليس فقط لمكانة الطاهر الجميعي، الذي كان قياديا مقيما في دمشق، ولم يكن معروفا في محاضر الشرطة القضائية ومحاكمتي مراكش والقنيطرة سوى باسم صالح، وليس فقط للوثائق والمخطوطات المهمة التي احتفظ بها الطاهر، وهي كنز كبير لمن يريد كتابة قضايا من تاريخ المغرب الراهن، كان عثمان سعيدا لأن الطاهر كان أقرب الناس إلى محمود بنونة واقتسما نفس المسار منذ خروجهما معا من الرباط، حيث كانا صديقين، إلى الدراسة بألمانيا الديمقراطية وتخرجهما مهندسي دولة، لكن قدرهما تقاطع مع زمن بدأت التعبئة فيه لخوض حرب مسلحة لإسقاط النظام، فشاركا في معسكر الوطى بالجزائر في صيف 1967، فتحولت وجهتا الشابين، واحتفظ الطاهر بكتابات ورسائل بنونة، وعثمان بناني كان يعرف أن الطاهر هو الأقرب إلى بنونة، وعاينت عن قرب من خلال الرسائل والصور وشائج العلاقة التي ربطت الطاهر الجميعي بمحمود. * كلمة أخيرة كنت ألح على عثمان لماذا لا تكتب مذكراتك، فيبتسم، وعندما « نقهره « بأسئلتنا، ينسل من أسئلتنا بالقول بأن هناك مشروعا لكتابة مذكراته، ووضع عثمان لم يكن وحيدا، نفس التردد نجده عند كل من أراده القدر أن يجمع بين صفتي المؤرخ والفاعل، إنه مرة أخرى صراع الذاكرة والتاريخ. منذ عام و نصف، التقينا في ناد بالرباط، وأخبرني أنه سيحمل لي وثائق عن إفريقيا، فسلمني عدد من الكتب التي حملها معه من القاهرة، شكرته كثيرا، كان أملي أن استسلم من عثمان وثائق منظمة تضامن، وهي هامة بالنسبة لعمق المغرب في إفريقيا عبر منظمات وأحزاب إفريقية، و امتداد لمؤتمر الدارالبيضاء الذي انعقد في يناير 1961، فوعدني خيرا، لكن قضاء الله كان أكبر. عثمان بناني كنت من صنف الرجال الذين لا تتعب من مجالستهم، مفيد في حديثك، لبق في علاقاتك، مبتسم دوما، حاضر في كل الجلسات بشخصيتك الجاذبة، كيف نتعايش إذن بين هذه الصورة وتلك التي رأيناك فيها متشحا بالبياض، منكفئا نحو مشرق الشمس ، ونحن نواريك الثرى، انسلت دموع من مقل الأقارب والأصدقاء، لتقول لك : وداعا أيها المبتسم.