مساء الأربعاء 29 يونيو 2016، توصلت برسالة تلفونية من السيد علي بناني، يخبرني من خلالها بما كنت أتوجس منه لعدة شهور، وهو وفاة أخيه الزميل العزيز الأستاذ عثمان بناني. وكان توجسي أنا وقلة من الأصدقاء نابعا من معرفتنا بالمعاناة التي كان المرحوم يكابدها مع المرض، الذي باغته على غير استعداد، ونخر جسده الواهن قبل اكتشافه، فلم يعد ينفع معه علاج. من الأكيد أن وفاة مؤرخ بحجم الأستاذ عثمان بناني تعد خسارة لا تعوض، للبحث التاريخي، وخاصة البحث في تاريخ المغرب المعاصر والراهن، لكن الذين يعرفون الرجل عن قرب، وعاشروه لمدة تزيد عن ثلاثين سنة في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وفي نشاطات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، وغيرها من الأنشطة العلمية والسياسية والاجتماعية، وربطتهم به صداقة وطيدة، يحسون أكثر بحجم الخسارة، وبقيمة الرجل، الذي كان حلو المعشر، يعطي للصداقة حقها ويصونها ويشعرك بقربه منك وأنك أخص أصدقائه، من دون تكلف أو ادعاء.
هناك أجيال من الباحثين الشباب الذين لا يعرفون الشيء الكثير عن جيل الرواد من الباحثين الذين سبقوهم إلى البحث التاريخي، وخاضوا فيه وعانوا من مصاعبه، في وقت لم تكن فيه الأمور ميسرة ومتاحة للباحثين كما هو الشأن اليوم، لذلك أرى لزاما علي أن أحاول التعريف بالراحل عثمان بناني، من خلال الإشارة إلى بعض المحطات من مساره، وأرجو من الزملاء الذين ربطتهم به علاقات أوثق أن يبادروا إلى تجلية بعض الجوانب الظليلة من شخصيته الفريدة والمتميزة، التي تصلح أن تكون قدوة للباحثين الشباب. لم يكن المرحوم عثمان بناني من الذين يسهبون في الحديث عن أنفسهم، ولم يكن يفضي بتفاصيل حياته الشخصية إلا للقلة القليلة من أصدقائه المقربين، ولذلك ظل جزء مهم من مسار حياته أسير ذاكرته، بعيدا عن متناول العموم. ويتعلق الأمر بالفترة التي عاشها خارج الوطن، في مصر وفرنسا، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وهي الفترة التي تمكن فيها من التعرف على شخصيتين محوريتين في تاريخ المغرب المعاصر، ومصاحبتهما، وتقاطع مسار حياته مع مسار حياتهما. ويتعلق الأمر أولا بالأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي اتصل به المرحوم عثمان بناني في القاهرة، وأقام بجواره لمدة، وأعد عنه أطروحة جامعية لم يقيض لها النشر، والشخصية الثانية هي شخصية المناضل المهدي بنبركة، صهره الذي قاده النضال إلى خارج المغرب، والذي قاد حركة تحرر عالمية إفريقية وأسيوية، وعانى من الغربة والملاحقة، لسنوات قبل أن يتعرض للاختطاف/ اللغز الذي لم تفك طلاسمه إلى اليوم. فكان للرجلين تأثير واضح على شخصية الأستاذ عثمان بناني، لم ينحسر إلى آخر أيامه. بعد عودته إلى المغرب، التحق في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وعندما سعى بعض أساتذة هذه الكلية إلى إعادة الحيوية إلى الجمعية المغربية للبحث التاريخي، وأسسوا أول مكتب برئاسة الأستاذ محمد القبلي، في يناير 1986، كان ضمن أعضاء هذا المكتب، وهو لأجل ذلك يعتبر من الأعضاء المؤسسين للجمعية، وتجدد انتخابه في المكتب في فترة ثانية إلى غاية سنة 1991. ثلاثة عقود من التدريس في الكلية، مكنته من تأطير أجيال عديدة من الطلبة، ومن المساهمة في أنشطة الكلية الثقافية والعلمية والنقابية، ونفس المدة الزمنية قضاها عضوا نشيطا في الجمعية المغربية للبحث التاريخي سواء بصفته عضوا في مكتبها، أو عضوا متميزا من أعضائها، وكان دائما غيورا عليها، متتبعا لأخبارها، حريصا على حضور أنشطتها والمساهمة فيها، معتزا وفخورا بالانتماء إليها، يتقدم بالنصح أحيانا، وبالعتاب أحيانا أخرى، ويشيد بما يراه إيجابيا، وينبه إلى السلبيات بكل لباقة وذوق. عرفت الأستاذ عثمان لأول مرة بالرباط، ولعل ذلك كان سنة 1988 بمناسبة انعقاد ندوة نظمتها الجمعية في موضوع التاريخ وأدب المناقب، وتوطدت بيننا عرى الصداقة، وكان بلطفه المعهود يستقبلني دائما بجملة "أهلا بالسْمِيَّة العزيزة"، وأجيبه أهلا بأحلى العثمانين، فكلانا فقط يحمل نفس الاسم الشخصي، ضمن أعضاء الجمعية كلها. وقد أتيح لي، أنا ومجموعة من الأساتذة المشاركين في ندوة تكريم الأستاذ إدريس العمراني الحنشي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق الدارالبيضاء، سنة 2004، أن نتعرف على الجانب الآخر من شخصية الأستاذ عثمان بناني. كان مقررا أن يلقي عرضا عن المغرب في الفترة الحديثة، وحين وصلته الكلمة، تكلم بلباقته الأصيلة، وقال: "لقد أعددت عرضا لتقديمه، بمناسبة تكريم الزميل العمراني، ولكنني أظن أنني سأفيدكم أكثر بالحديث عن تجربة عشتها شخصيا، في قبرص". حدثنا عن حادثة وقعت في 18 فبراير 1978، بمناسبة انعقاد مؤتمر التضامن الأفرو أسيوي السادس، وهي اغتيال الأديب المصري يوسف السباعي بتدبير من مجموعة أبي نضال. كان عثمان بناني ضمن المشاركين، بل وضمن المحتجزين من لدن الخاطفين، وقد شد انتباهنا بعرضه الشيق، وأكثر بتواضعه، لأن غيره كان سيقيم الدنيا ولا يقعدها تبجحا وتباهيا بهذا الحدث. ولعل ذلك كان فلتة من فلتات السي عثمان، لأنه لم يسلمنا النص المكتوب من هذه الشهادة الثمينة، وظل يعدني ويمنيني بكتابتها يوما ما حين تتيسر الفرصة وتسعف الظروف. ويمكننا أن نأخذ صورة عن هذه الحادثة من بعض رواتها الذين كتبوا عنها، فقد قام شخصان باغتيال يوسف السباعي فور نزوله من غرفته بالفندق عندما كان يتأهب لشراء بعض المجلات، وأقتبسُ لإكمال الصورة نصا من رواية الأديب إدوارد الخياط لما عاينه أثناء هذه الحادثة: "... ظهر رجل في آخر القاعة يمسك مسدسا وقال لي: تعال يا أخي، والمسدس موجه لي، ووجدت السباعي ممددا على الأرض، ومغطى بالجرائد في نفس الممر، فمشيت طبعا كالمغيب إلى عنده، وأدخلني القاعة حيث وجدت فيها الكثير جدا من مندوبي وأعضاء المؤتمر معتقلين، ووجدت آخر يمسك قنبلة بيده ويهدد بتفجيرها عند أي طارئ يحدث، وبالتالي أصبحنا من الرهائن... وطلبوا منا أن كل واحد يربط يد زميله بالكرافتة، وخرجنا بهذا الشكل من قاعة الطعام تحت تهديد المسدس والقنبلة إلى أوتوبيس كانوا أحضروه لهم أو أعد من السلطات القبرصية... استجابت السلطات القبرصية لطلب القاتلين وتقرر إقلاعهما على طائرة DC8، وذلك من مطار لارنكا. أطلق القاتلان سراح معظم الرهائن، بينما واصلوا احتجاز 11 رهينة... " كان عثمان بناني ضمن الرهائن، ولا أدري هل ظل مع الرهائن الإحدى عشر، أم كان ضمن من أفرج عنهم. منذ ذلك الحين، أي سنة 2004، صرت ألاحق المرحوم وبإلحاح، ليكتب عن الجانب المخفي / المضيء من حياته، وأن يحرر ذاكرته من القيود التي أثقلتها، فهو يملك قلما سيالا، وأسلوبا سهلا ممتنعا، وشخصية ودودة وجذابة، وقدرة على السرد، بدون إهمال للتفاصيل. إلا أنه مقل في الكتابة، ويمنعه تواضعه من الحديث عن نفسه. ولعلي لم أكن الوحيد في هذا الإلحاح، وخاصة بعد أن تزايد الاهتمام بالتاريخ الراهن، وتناسلت الكتابات عن بعض شخصياته ومنها طبعا الأمير محمد بن عبد الكريم والمهدي بنبركة، ونشرت بعض المذكرات التي تتعلق بتاريخ المغرب ما بعد الاستقلال، وكان المرحوم دائما يعدنا بالتفرغ للكتابة، والابتداء أولا بإعداد أطروحته عن الخطابي للنشر، ثم كتابة مذكراته.
ومنذ حوالي ثلاث سنوات، بدأ السي عثمان بناني يتخلى عن تحفظه، ونشرنا له مقالا في أعمال ندوة جرمان عياش عن الخطابي، ثم قراءته لكتاب المساري عن الخطابي، وهي القراءة التي عرضها موقع الجمعية بالفيديو، وتفصح عن أسلوبه الشيق في الحديث والإلقاء وشد المستمعين. وكانت وفاة المرحوم محمد العربي المساري مناسبة لي لأضيق الخناق على السي عثمان، وألح عليه في أن يسجل على الأقل ذكرياته، لنعمل على رقنها فيما بعد. ولم يتأخر رده، فقد كلمني بالهاتف وكله حماس، وعبر عن اقتناعه بالاقتراح، واستدعاني للغذاء عنده، ونشرع بعد ذلك في التسجيل. وبموازاة مع ذلك، كان يحضر لندوة علمية كبرى بمناسبة مرور خمسين سنة على اختطاف بنبركة، وكنا في مركز محمد بن سعيد أيت يدر مستعدين لتنظيمها، تحت إشرافه. لم تجر الرياح بما تشتهي السفن أو ركاب السفن، وكلمني ثانية يعتذر عن الغذاء، وضرب لي موعدا بالمكتبة الوطنية في نفس اليوم الذي أقيم فيه تأبين المرحوم المساري، ليشرح لي عذره، وفعلا التقينا، فوجدته يحمل تحت ثيابه آلة لقياس ضربات القلب لمدة 24 ساعة، وأخبرني أنه شعر بالإعياء والتعب، وأنه ربما يعاني من مرض في القلب، وسيخلد للراحة قليلا بفرنسا عند ابنته حيث تحلو له الإقامة بعيدا عن ضجيج المدن، ويستأنس برفقة حفيدته. واتفقنا أيضا على أن نستأنف العمل بعد عودته، وأخبرني أيضا أنه قرر التخفيف على نفسه من أعباء العمل، ومنح جسده بعض الراحة. كان هذا آخر لقاء لي بالعزيز السي عثمان، وآخر مرة أسمع فيها صوته، لأنني اتصلت به بعد حوالي شهرين، فأجابتني السيدة زوجته، وأخبرتني أنه مريض ولا يستطيع الكلام، اعتقدت أن مرض القلب اشتد عليه، فأجابتني لو كان القلب لهان الأمر، إنه المرض اللعين... استشرى في الجسد، وتمكن منه، ولم تظهر له أعراض إلى أن استفحل. هكذا انتُزع منا عثمان بناني، وحال المرض بيننا وبينه، ثم سكن الجسد بعد طول معاناة، ومكابدة. أيها العزيز، لقد كنت عزيزا عندنا جميعا، كنت حسن المعشر، ودودا لطيفا، أنيقا في كلامك ولباسك وتعاملك، في مخبرك ومظهرك، لقد بلغت الغاية في الطيبوبة، وترفعت عن السفاسف، ونأيت بنفسك عن الأبهة والظهور. كانت جنازتك مناسبة لاجتماع الكثيرين ممن عرفوك وأحبوك، وأعجبوا بسيرتك، ولا حديث لهم إلا عن سجاياك وخصالك، ومواقفك، ونبلك، وشخصيتك المتميزة. واستشعر الجميع بأسى شديد ما يمكن أن تكون قد كابدت من الألم والمعاناة، وأنت مضطر إلى ملازمة البيت، ومصارعة المرض في صمت، مع أنك بطبعك ميال إلى المرح محب للحياة. ثق أيها العزيز أن مكانتك في القلب ثابتة، وذكراك باقية لا تمحى، ودعواتنا لك جميعا في هذه الأيام المباركة من رمضان بأن يغفر الله لك ذنوبك ويرحمك ويشملك بعفوه ورضاه، ويغدق عليك من خيراته وجناته، ويسكنك الفردوس، ويعوضك عن عناء الدنيا الفانية بنعيم الآخرة الباقية، ويلهمنا جميعا الصبر والسلوان، ويحفظ عائلتك الصغيرة، وينعم عليها بالصحة والعافية والنجاح والتوفيق والخير العميم. نم قرير العين، في أمان، ووداعا أيها الجنتلمان.