نحول الوجهة صوب مقاطعة سيدي مومن، حيث توجد مقبرة تعرف بنفس اسم المقاطعة، امتلأت منذ مدة و لم يعد يصرح بالدفن فيها، في هذا التل العالي تظهر بعض أجزاء ميناء الدارالبيضاء من بعيد، قبل سنوات قليلة كان الميناء أكثر وضوحا عندما كانت المنطقة كلها مساكن لا يزيد عدد طوابق أعلاها عن الواحد، أما الآن فالعمارات ذات الطوابق الأربعة تحجب الرؤية. في هذا المكان، وككل يوم 27 من رمضان، ينظم سوق يتخذ باب المقبرة مركزا له، سوق يشبه الأسواق الأسبوعية المنتشرة في البوادي المغربية، سوق لم يغير موعده منذ سنوات عديدة، لا أحد يعلم متى انطلق فعليا، فهو قديم قدم المنطقة نفسها. سوق يحافظ على عبق التاريخ كما الأرض التي يقام عليها والتي كانت مسرحا لواحدة من أولى معارك المقاومة الوطنية ضد المستعمر الفرنسي، معركة 3 شتنبر 1907، في إطار ما يعرف بانتفاضة الشاوية.لا احد من السكان الحاليين وجدناه يعلم بأمرها، ولا يوجد بالمنطقة ما يذكر الأجيال بها. هي معركة سجلت كأولى الاصطدامات بين الفرنسيين الباحثين عن موطئ قدم بالشاوية وأهالي المنطقة، وكل ما تركه المستعمر بعد رحيله ضيعات فلاحية تم هدم بعضها لتتحول لعمارات سكنية ، في حين تحولت مجموعة منها لدور صفيح لا يزال بعضها قائما إلى الآن. كما ترك حفرة كبيرة تجاور المقبرة هي في الأصل مقلع حجري استغلت مواده في بناء ميناء الدارالبيضاء بعد أن كان مجرد مرفأ صغير، و هو الميناء الذي كان سببا رئيسا لتغير وجه المنطقة بأكملها، حيث شكل قاطرة اقتصادية، فتشكلت حوله مدينة عملاقة، تحولت في ما بعد لعاصمة اقتصادية للمملكة. تجارة بين القبور.. خلال يوم الأحد الماضي، والذي صادف اليوم السابع و العشرين من رمضان، تحول الشارع المار بالقرب من المقبرة والمناطق المحيطة به لسوق، تجد به كل ما يخطر على البال، من الخضر إلى الأواني البلاستيكية و الخزفية والملابس، تجهيزات المطبخ و غيرها. لقد حافظ على زخمه المعتاد. زوار من مختلف المناطق، يقصدونه لاغتنام الفرص وللتبضع، وقلة منهم تقصد المنطقة لزيارة قبر قريب، وإن كانت الحركة داخل المقبرة أكبر بكثير من الأيام المعتادة. أغلب زوار المقابر من النساء وقليل من الرجال، يحرص أغلبهم على اقتناء قنينات ماء الورد والتين الجاف والخبز، وتراهم جالسين أمام قبر يتذكرون القريب المتوفى، يسقون قبره بماء الورد وينظفونه من الأعشاب وهم يبكونه بأسى لفقدانه ويأسفون لوضع المقبرة التي لا تكرم موتاها. يطوف عليهم متسولون أغلبهم من الأطفال الصغار، والذين يقفزون فوق القبور، همهم جمع دريهمات، يتحلقون حول المرء لا يفارقونه حتى ينالوا مبتغاهم. وككل المقابر نجد بائعي المياه و«فقهاء» تجدهم ينتقلون من قبر لآخر بسرعة يستظهرون نفس الآيات القرآنية تقريبا، وأدعية يطلبون فيها الرحمة للميت والأجر والتواب للزائر، خاتمين عملهم بطلب صدقة هي أساس وجودهم، مشددين أن كل ما يمنح لهم هو صدقة جارية، قيمتها بقيمة محبة الفقيد، في محاولة لنيل أكبر مبلغ من المال. يلفت الأنظار شباب كل واحد منهم يحمل سطلا من حديد مملوءة بالجير الأبيض يقدمون للزوار خدمة صباغة القبر ومعهم صباغة حمراء لإعادة كتابة اسم المتوفى على الشاهد. عمل يتطلب بعض التركيز ، فأنظار الأقارب تتبع الحروف و كل خطأ يكلف الشاب سماع صراخ من الجميع، أجر العمل 5 دراهم لصباغة القبر و مثله لإعادة الكتابة. سألنا إحدى الزائرات التي كانت رفقة اثنين من أبنائها عن الهدف من هذا العمل في حين أن البعض الآخر يرفض أن تتم صباغة القبر، فأجابت: «إنه أقل شيء أقدمه لوالدي، دفناه هنا منذ 2003، و في كل زيارة احرص على صباغة القبر حتى أتمكن من العثور عليه بسرعة..». حال المقبرة لا يسر أحدا من الزوار، تسمع بعضهم يتذمر من انتشار القبور بشكل عشوائي، لا وجود هنا لطريق أو ممر، ما يجعل الجميع يقفز بين القبور. سوق عشوائي و رواج تجاري.. الخروج من المقبرة أصعب بكثير من دخولها، مجموعة من النساء يفترشن الأرض رفقة أطفال صغار، لا يكفون عن طلب الصدقات من الجميع. بعض الزائرين يصرون على الوقوف أمامهم ليمنحوهم بعض التمر والخبز، إحداهن تتوسل من الزوار أن يمنحوها مالا:»لا نريد تمرا، لدينا منه الكثير، أعطونا دراهم.. جزاكم لله خيرا». هذا التجمع لا يترك سوى ممر ضيق، فيصطدم الداخلون مع الخارجين، و يغدو الأمر صعبا ، خاصة على كبار السن. أمام الباب سيارتان واحدة للأمن الوطني والثانية للقوات المساعدة، حضورهما يمنح الزوار إحساسا بالأمن. أمام المقبرة مباشرة يوجد شريان طرقي مهم للربط بين أحياء مولاي رشيد، التشارك وسيدي مومن.. تمر منه يوميا مئات السيارات ،خاصة سيارات الأجرة الكبيرة القادمة من حي الفلاح إلى البرنوصي، اليوم لا حركة للسير أمامه فقد أغلقت الطريق أمام حركة السير من الجانبين، وافترش البائعون الإسفلت. بائعو قناني ماء الزهر والتمر والخبز يأخذون مكانهم بالقرب من باب المقبرة. حتى سنوات قريبة كان السوق يتمدد على الأرض المقابلة والتي كانت عبارة عن خلاء، غير أن إنشاء إقامات سكنية عليها حصر البائعين في الشارع. من بعيد يشاهد «الترام» يعبر شارع محمد الزفزاف، والذي يقع مركز إصلاحه خلف المقبرة مباشرة. «الترام» رمز المدينة الحديثة، لكن ما إن تدير نظرك في الاتجاه المعاكس حتى تجد سوقا يشكل رمز القرية. إنها الدارالبيضاء.. أكبر «مدينة قرية» في البلاد. على طول الشارع المتحول لسوق تجاري، ينتشر البائعون، نساء ورجال، ومجموعة من الشباب، أغلبهم من الباعة المؤقتين، يستغلون الموعد لبيع كل ما يمكن أن يباع للمتسوقين: ملابس قديمة وأخرى جديدة، لوازم بحر وألعاب أطفال، خضر وفواكه جافة وطرية، أنواع من الأواني المنزلية، أوان من الفخار من مختلف الأشكال، أعشاب لعلاج الأمراض... الكل تحت شمس حارقة... وفي نهاية الشارع من جهة سيدي مومن ينتصب أصحاب ألعاب، بدرهم واحد يتمتع أطفال بعيد لا يعرفون له اسما ، لكن على محياهم علامات فرحة لا تخطئها العين. وبالقرب منهم سيارات الأجرة الكبيرة. لقد أصبح المكان محطة مؤقتة، يرفع السائقون أصواتهم: «الحي المحمدي.. البرنوصي».. إنها الوجهات المقترحة. غير بعيد في الجهة المقابلة مجموعة من الشباب يظهر أنهم يسكنون بالجوار استغلوا الإقبال الكبير ليتحولوا لحراس سيارات... إنه رواج تجاري و إن كان مؤقتا، غير أنه يحول وجه المنطقة، الهادئة طيلة السنة إلا من السيارات العابرة، إلى فضاء تجاري يضاهي ما يوجد في مناطق معروفة كدرب السلطان و الحي المحمدي. هدوء بعد يوم طويل في نهاية اليوم.. ما إن يقترب وقت الإفطار، حتى تبدأ الحركة في الهدوء، يجمع البائعون سلعهم أو ما تبقى لهم منها، تاركين وراءهم آثار سوق كان يعج بالزوار طيلة النهار.. في الغد تعود للمكان سكينته ،و للشارع سياراته، و للمقبرة فراغها.. في انتظار حلول عاشوراء كموعد آخر لعودة السوق ومعه الزوار. *صحفي متدرب