يقيم العقيد الدليل بأنه لا يحب العالم، ولا يحب الثورات إلا إذا كان هو قائدها وكانت لفائدته. كما يقيم الدليل على أنه معزول تماما عن هذا العالم، الذي يعتقد أنه جاء لكي يكون مجده. أنا مجدكم، هكذا تكلم العقيد، وأنا مجد البشرية.. ولم يعد القذافي، وهو يمثل أمامنا فصلا من المسرح الفردي، حيث هو العبد والمعبود والمعبد، قادرا حتى على التفكير في الرحيل، من رآه يوم خطابه الهادر، رأى رجلا ينادي إلى شق نهر دموي عظيم. صاحب النهر الاصطناعي العظيم، لجأ إلى الوحشية الطبيعية جدا، لكي يقتل بشكل جماعي شعبه. هي مأساتنا اليوم الجماعية: لا أحد يعرف أين يقف جنون الحاكم العربي وأين تقف دمويته؟ ولا أحد يمكنه أن يتكهن بما يفجره فيه حبه للسلطة من شلالات دم. لقد نفض القذافي الغبار عن العديد من مصطلحات البدايات، في لحظة احتماء بوهج قديم يصل شاحبا إلى وجهه في التلفزيون. عاد إلى ذكر الإمبريالية والصهيونية والرجعية، التي يبدو أنه اكتشفها في ركن ما من أركان خيمته، مثل أشباح قديمة تأكل الضوء من حوله. وليس غريبا أنه لم يجد هذه المرة من يصدقه. لأن الذين صدقوه .. ماتوا. لقد قرر الزعيم أن يطلق آلة التقتيل كلها في الشعب لأنه لا يحب أن يرى شعبا بدونه، أو لأنه لا يحب أن يرى نفسه بدون شعب مطيع ويهتف باستمرار باسمه. ويمكن للعقيد أن يتهم بهروب كل أبناء شعبه وأبناء الشعوب التي تأتي إلى ليبيا طمعا في قليل من الثروة النفطية، أن تهاجر وترحل وتغادر، وترحل إلى المنافي، لا يهم سوى أن يبقى الحرس الأممي الثوري، الذي لم يقم بأية ثورة في العالم سوى أنه يقتل الليبيين اليوم. هناك ما لا يحتمل في هذا الانهيار الأخلاقي للزعيم الذي ظل يردد بأنه «هبة الله للأمة وللبشرية». كما لو كانت النظرية الثالثة عين ثالثة من الأسطورة بها يرى ما لا يرى. ماذا سيفعل القذافي الآن، إذا ما نجح في تصفية شعبه كما يريد. وكما تريد أسطورة الجنون الثوري ؟ هل سيطالب بشعب آخر في التشاد ليجرب فيه الثورة المجنونة؟ هل سيظل يحلم بتقليد كل مجانين العالم لكي يصل صوته إلى الموتى، وهو يلعنهم. القذافي الذي يسب شعبه اليوم ينعته بالجرذان وبالمقملين، هل كان يحكم في مأسورة المياه الراكدة، هو الذي يرفع ذراعه كلما ذكر أحد ما نهرا، حتى ولو كان نهر الدماء؟ ليس هناك ما يمكن أن ينقذ ليبيا سوى نهاية هذا الجنون. العالم اليوم ينظر إلى القتل، وإلى الإهانة التي تليه، ويسأل عن الطوباويات التي ظلت تحكم خطب الزعيم؟ أين تبخرت كل تلك الشعارات عن ليبيا الخالدة وعن الشعب العظيم؟ ما يجري أمام أنظار العالم يبين أن العائلات العربية التي تصل إلى السلطة بهذا القدر من التعصب، تصل بالبلاد إلى الدم، وإلى المجازر، ويكون ليل، ويكون قتل، ولا أحد يمكنه اليوم أن يراسل العقيد، لأنه ببساطة قطع كل وسائل الاتصال العالمية عن شعبه الثائر.. ولا أحد يمكن أن يصدق مقولات المؤامرات لأن الذين يقولون بذلك كان عليهم أن يثبتوا أنهم ليسوا أكبر مؤامرة ضد شعوبهم. المؤامرات؟لماذا تركتم الشعوب عرضة لها وهيأتم كل الظروف لكي يفضلوها على بلادهم؟ أية درجة من التسوس بلغتم حتى تطيش الشعوب إلى ما تعتبرونه مؤامرات من الخارج؟ هناك اليوم عودة إلى التاريخ ورغبة إنسانية بسيطة في أن يرى الليبيون وشعب من المنطقة الشمس كما هي، ويطلقون عليها اسمها بدون الحاجة إلى استعارة تجعلهم يرون الشمس، وجه الزعيم والقمر حكمة زوجته والمشاتل كناية عن العائلة والأبناء.. ليس هناك حاكم سوي في القرن الحالي يمكنه أن يستمر طوال هذه المدة وهو لا يرى في شعبه سوى عبيد طيعين، ويكتشف عندما يقررون أن يصبحوا شعبا ، أنهم خونة وحيوانات وقمل ولا شيء!! من ذا الذي يحول شعبا الى مرمى لقذائف البارجات البحرية؟ ويشتري عبيدا مرتزقة لكي يقتل شعبه لأنه يريد أن يجعله أكثر سعادة.. من كل شعوب العالم؟ من ذا الذي لا يتردد في إغلاق أبواب شعبه وسماء بلاده وحدودها البحرية وأجوائها ، فقط لكي يقتل في هدوء وينهي المأساة كما يشتهي حدسه الدموي؟ لم يعد هناك سوى رجل واحد ووحيد ، قادم من نيران روما أو من جبال الدم في رومانيا. قاتل يأتي بعد قرن من الزمن.