عهد الملك الحسن الثاني كان عهد ملكية سلطوية تتزاوج فيها صورة الحاكم مع صورة الإمام، إنه أمير المؤمنين الذي يترسخ في قلب الزمن كسلطة دينية في سياق تنتقد فيه الحركات الإسلامية الناشئة النظام وتدعو إلى قيام »خلافة ثانية«. أما الأحزاب السياسية العلمانية التي كانت في السابق ترفض هذا الجانب من السلطة، وترى فيه علامة على »استبداد قروسطي» بدأت تعترف به بل وتدافع عنه بقوة على أمل ضمان تمدين الحقل السياسي الحزبي. إن هيمنة الملك على الحقل الديني والذي يتوخى عزل القوى السياسية الإسلامية المعارضة يقود بالضرورة إلى تثبيت وتقوية وضع الملك كأمير للمؤمنين. ملك وأمير المؤمنين هما وجهان للملك كما أعاد بناءها الملك الحسن الثاني في مغرب ما بعد الاستعمار، وتتجسد إن رمزيا على مستوى اللباس من خلال ارتداء البزة العسكرية أو اللباس الأوربي من جهة، والجلباب والطربوش (الفاسي) من جهة ثانية، وهنا تكمن خصوصية الملكية المغربية. وهذا الكتاب يحاول تتبع نشأة هذه الملكية كما أعاد الملك الحسن الثاني ابتكارها... هذه الأرضية هي التي استغلها الشيوخ الوهابيون أمثال عبد الوهاب رفيقي أبو حفص ومحمد الفيزازي وعبد الكريم الشادلي وعمر حدوش ومحمد بوعلنت وحسن الكتاني وغيرهم،كما استغلت هذه الأرضية المجموعات التكفيرية المحلية مثل «جماعة التكفير والهجرة» و»جماعة الصراط المستقيم»، وجماعة «أهل السنة والجماعة» وغيرها من المجموعات التكفيرية. السلطات العمومية كانت تسمح بهذه الجماعات الوهابية لأنها كانت تعتبرها لا سياسية بإمكانها مواجهة المعارضة الإسلامية لجماعة «العدل والإحسان»، ومقبولة من طرف الطبقات الشعبية الضحية الأولى لانعدام الأمن والانحراف كعنصر تحقيق الأمن وترشيد أخلاقي، وقد انتشر وتقوى المد الوهابي في المجتمع المغربي لا سيما في المناطق الهامشية في المدن الكبرى وفي المدن العتيقة وفي أحياء الصفيح حيث تنظم جولات ليلية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاقبة المخالفين بقيادة شيوخ يحيط بهم شبان، من ضمنهم منحرفون تائبون، وتحولت هذه الأفعال التعزيرية إلى ممارسات يومية مألوفة. وكان العنف آنذاك في قمته بالجزائر، وكانت الطبقة السياسية المغربية تبرز وتفتخر بسلمية المجتمع المغربي والإسلام السياسي بالمغرب، وكان الملك الحاكم آنذاك يبرز الوجه الديني لشخص الملك ويقدم الملكية المغربية كملاذ ضد التطرف الإسلامي في المنطقة،لكن انتحاريي 16 ماي 2003 سيكذبون هذه الأطروحات وقدموا الدليل على أن الجهادية التكفيرية في صيغتها المغربية على شاكلة الجهادية الدولية، تتبنى نفس الأفكار ونفس الأساليب، بعشية 16 ماي 2003 نشرت صحيفة ... بلاغا وزع في مساجد الدارالبيضاء بقول «المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع كافر» والذين يقودونه «كفار» و«مرتدون» والمساجد أماكن للضياع في أيدي «متعاونين» مع «السلطان الكافر»، إن الجهاد ضروري لتغيير الوضع والعمل على أن يحل شرع الله محل قانون الكفر وبما أن الحاكمين من الكفار، فإن المواجهة ضرورية...ومن المشروع قتل كل من يحمي كافرا ولو كانوا مسلمين...يجب قتل العسكريين ورجال الشرطة إذا حاولوا حماية الحاكمين الكفار...لا حماية للنساء والأطفال لأن أبناء الكفار جزء منهم. لذلك فإن دهشة وحيرة الطبقة السياسية عقب الأحداث الإرهابية بالدارالبيضاء لا يمكن إلا أن تفاجئ المراقبين والمتتبعين لواقع التيارات الإسلامية بالمغرب. في الواقع، أحداث 16 ماي 2003 لم تكن مفاجأة إلا بالنسبة للسلطات العمومية والطبقة السياسية الذين اكتشفوا التطرف الديني بوجه لم يكونوا يتوقعون وجوده بالمغرب، إلى أن اختار العمل الإرهابي أما سكان «الهوامش» فقد كانوا متعودين على السلفية الجهادية منذ أكثر من عقد من الزمن، فقد كانت شبكة من الشيوخ الوهابيين البارزين تجوب أطراف المغرب في تلك الفترة وتلقى الدروس والمحاضرات أمام حضور أغلبه من الشباب، وفي كل مرة يكون العدد أكثر، كانت الصحف والمجلات من جانبها تنشر على امتداد صفحاتها أنشطة هؤلاء الدعاة الذين تحولوا إلى نجوم في وسائل الإعلام التي كانت تتهافت لانتزاع تصريحات ومقابلات عدد من هؤلاء الفقهاء ويقدمونهم كمنظرين للسلفية الجهادية بالمغرب حسن الكتاني سلا عبد الوهاب رفيقي أبو حفص، فاس محمد الفيزازي طنجة عبد الكريم الشادلي الرباط عمر حدوشي وجدة زكريا ميلودي الدارالبيضاء ،بل حتى النشطاء الجهاديون أمثال زكريا الميلودي أو يوسف فكري المعتقلين كانوا يجدون وسيلة للتعبير على صفحات هذه الجرائد، أفكار ومشاريع السلفيين الجهاديين كانت منشورة ومعروضة على الملأ سواء في مساجد الضواحي أو على صفحات الجرائد الوطنية، بل حتى على شاشات الفضائيات (مرور الفيزازي في قناة الجزيرة القطرية حيث وصف أسامة بن لادن بصاحب النبي في القرن 21») العديد من الأحداث كشفت الخطر الجهادي لاسيما تفكيك خلية نائمة تابعة للقاعدة، وتشكيل جماعات متطرفة مثل «النهي عن المنكر» في الأحياء المهمشة (فاس، الدارالبيضاء، سلا، مكناس، طنجة، الناظور.. إلخ). الاغتيالات التكفيرية التي نفذتها مجموعة يوسف فكري، جلد مواطن حتى الموت بسيدي مومن (فؤاد الكردودي) تنفيذا «لفتوى» أصدرها زكريا الميلودي وسرقة بنادق من ثكنة في كرسيف. 16 ماي 2003 سيغير جذريا مشهد الإسلام السياسي بالمغرب لأن السلطة ستجد نفسها أمام شبكة لا تتطابق مع أي شكل من أشكال التنظيم المعروفة، لا وجود لأي رابط عضوي بين الشيوخ الذين ينفثون فتاويهم على الشبكة العنكبوتية، ثم ينقلها أئمة في المساجد ولدى الشبان المحرومين وغير المتعلمين في الأحياء الفقيرة والمهمشة مستعدين لتفجير أنفسهم أمام أهداف لها رمزيتها. أحداث 16 ماي 2003 بالدارالبيضاء كانت مقدمة لتغير جذري في وضعية السلفية الوهابية بالمغرب، هذا التغير يهم موقف السلفيين الجهاديين تجاه الدولة المغربية من جهة، وموقف السلطات العمومية المغربية تجاه السلفية الوهابية من جهة أخرى. على المستوى الأول سجلت أحداث 16 ماي تغيرا جذريا في الاستراتيجية الإرهابية للسلفيين الجهاديين المغاربة، فبعد أن كانت المعركة تقتصر على الجهاد ضد «الكافر» في «أراضي الإسلام» في أفغانستان وفي البوسنة وفي الشيشان إلخ... في سنوات 80 و90 .يوسع الجهاديون المغاربة اليوم معركتهم إلى المغرب، وخلافا للحركة الجهادية المصرية التي كانت وطنية أولا قبل أن تصدر نفسها وتصبح عالمية، فإن الحركة الجهادية المغربية، كانت في الأصل دولية وتحولت «محلية» ثم أصبحت «وطنية» مع أحداث 16 ماي 2003، والدولة المغربية مثل باقي الدول الإسلامية الأخرى، راضية إن لم تكن شريكة مع الجهاد الدولي، فعندما يكون تجنيد «المقاتلين» في واضحة النهار وفوق أراضيه وعندما تمر أموال مساندة الجهاد عبر شبكة أبناكه، أصبح يجد نفسه ومن داخله، في مواجهة نفس هذا الجهاد الشامل، والأراضي التي تتسع أكثر فأكثر أمام الجهاد الدولي، تتطابق مع عولمة الإرهاب الذي لم يعد يفرق بين البلدان بما فيها الدول الإسلامية التي كانت تعتقد نفسها بعيدة عن مثل هذه الموجة. أحداث 16 ماي 2003 ستسجل كذلك تغيرا في موقف السلطات المغربية تجاه السلفية الوهابية، تُرجم عبر الحرب ضد «العقائد الأجنبية» وكذلك تشجيع وإبراز «الإسلام المغربي»، والعمل على تحييد ومحاصرة النشطاء الجهاديين وشيوخ السلفية الوهابية البارزين، وتنفيذ سياسة متعددة الأبعاد تقودها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لفائدة إسلام محلي أي كهُوية دينية وطنية.