وقد علل شيخ الإسلام بعض الأحداث السياسية في ذلك العصر بثقل المواريث السياسية الجاهلية وكثافة معاييرها الاجتماعية العرفية، ومن ذلك: أولا، اعتراض بعض من سادة بني عبد مناف مثل أبي سفيان وخالد بن سعيد على بيعة الصديق، كما رأينا،لأن الصديق من بني تيم، وليس من بني عبد مناف، بيت السيادة والقيادة في قريش أيام الجاهلية، قال ابن تيمية،( ولا يستريب عاقل أن العرب، قريش وغير قريش كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وبني عدي، ولهذا جاء أبو سفيان إلى علي فقال» أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم؟ فقال، يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية»، أو كما قال، ثم يعلل شيخ الإسلام ذلك بقوله،(وأبو سفيان كان فيه بقايا من جاهلية العرب، يكره أن يتولى في بني عبد مناف، وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا، فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي، وقال» أرضيتهم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف» )،ويشير ابن تيمية هنا إلى قصتي أبي سفيان وخالد بن سعيد الواردتين أعلاه. ثانيا، ما بدر من بعض القوم من حرص على جعل الخلافة في البيت النبوي، قال ابن تيمية،(.. وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية. إن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أحق بالولاية، لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس كانوا يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا، كما نقل عن أبي سفيان، وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي، بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، وإن قدر أنه رجح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية وحكم الإسلام، فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر). ثالثا، ما بدر من بعض الأكابر أحيانا من عصبية لأبناء العشيرة، على حساب أخوة الإيمان، مثل ما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه أيام الإفك من تحيز لعبد الله بن أبي، رأس المنافقين، رغم إساءة ابن أبي إلى بيت النبوة، قال ابن تيمية، قد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله، ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا، كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لسعد بن معاذ»والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله» ثم عمم شيخ الإسلام تعليله بتأثير الموروث الجاهلي، ليشمل كل المعترضين على بيعة الصديق من قريش ومن الأنصار، فقال(ففي الجملة جميع من نقل عنه من الأنصار وبني عبد مناف أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أحق وأفضل من أبي بكر، وإنما نشأ كلامه عن حب لقومه وقبيلته، وإرادة منه أن تكون الإمامة في قبيلته، ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلة الشرعية و الطرق الدينية، ولا هو مما أمر الله ورسوله المؤمنين باتباعه، بل هو شعبة جاهلية، ونوع عصبية للأنساب والقبائل، وهذا مما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهجره وإبطاله). لقد كان للأعراف الاجتماعية والتاريخية تأثير بالغ في إشعال الفتن السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم، وليس مما يستغرب أن يكون معاوية هو أول من حول الخلافة إلى مُلك، فقد أمضى شطر عمره في بيت سادة قريش، وشطره الثاني على حدود دولة الروم. صحابي يقتل صحابيا بسبب الخلاف بين علي ومعاوية ابن الغادية صحابي، بالمعنى الاصطلاحي المتوسع الذي يأخذ به أهل الحديث، وقد ترجم الحافظ الذهبي لأبي الغادية في سير أعلام النبلاء تحت عنوان: أبو الغادية الصحابي، وقال البخاري له صحبة وقال مسلم له صحبة، ومع ذلك، قال الحافظ بن حجر في ترجمة أبي الغادية (أبو الغادية الجهني، اسمه يسار بن سبع، سكن الشام ونزل واسط، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قوله»لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» روى عنه كلثوم بن جبر وغيره، وكان محبا لعثمان، وهو الذي قتل عمار بن ياسر، وكان إذا استأذن على معاوية وغيره يقول:قاتل عمار بالباب، يتبجح بذلك، وانظر إلى العجب، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل ثم يقتل مثل عمار). وقد روى الإمام أحمد عن أبي الغادية حديث»إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» قال ابن حجر،( فكانوا يتعجبون منه أنه سمع أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ثم يقتل عمارا، وقد قال كلثوم بن جبر عن أبي الغادية، وهو الذي روى عنه تبجحه بقتل عمار ،«لم أر رجلا أبين ضلالة منه»). فهل يصلح وضع عمار بن ياسر وأبي الغادية في سياق واحد بحجة الصحبة؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم:» من يعاد عمارا يعاد الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله»، فما بالك بمن سفك دم عمار باغيا عليه؟ إن جيل الصحابة لم يكن غير مجتمع بشري فيه الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله، وليست غلبة الخير على أهل ذلك الجيل مسوغا كافيا للتعميم والإطلاق، و إضفاء صفات القدسية على كل فرد فيه، مما يناقض الحقائق.