يعتبر الدكتور أحمد بوشرب أحد أبرز المؤرخين المغاربة المعاصرين الذين تخصصوا في البحث في حيثيات الغزو الإيبيري الذي ضرب بلادنا منذ مطلع العصور الحديثة وأدى إلى حدوث انقلاب شامل في موازين القوى بين الضفتين الشمالية والجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط. وقد ظل حريصا منذ انخراطه في هذا المشروع العلمي الرائد على تطوير الدرس الجامعي المهتم بدراسة آثار الغزو البرتغالي على بلادنا خلال الفترة المذكورة، إلى جانب بلورة أعماله الأكاديمية في أطروحات ورسائل جامعية كانت أبرزها أطروحته حول الاحتلال البرتغالي لمنطقة دكالة وانعكاساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على مغاربة القرنين 15 و16 الميلاديين. وقد ساعده في ذلك امتلاكه لناصية الأدوات المنهجية الضرورية للبحث التاريخي الرصين، وإتقان جيد للغة البرتغالية، وتمحيص دقيق في أمهات المصادر العربية الإسلامية والأجنبية، ونبش عميق في الوثائق المدونة المحفوظة بالعديد من دور الأرشيفات التاريخية بدولة البرتغال. وإذا كان الدكتور بوشرب قد نشر العديد من الدراسات القطاعية ذات الصلة بالموضوع، إما بشكل مستقل في أعمال مرجعية منفردة أو في دراسات جماعية شارك من خلالها في ندوات ولقاءات علمية داخل المغرب وخارجه، فإن مسألة تعميم وثائق هذه الدراسات المنشورة قد ظلت مسألة ضرورية لتمكين الباحثين من مواد خامة لا شك وأنها تشكل حجر الزاوية في كل مشاريع كتابة تاريخ المغرب خلال العصور الحديثة. وتزداد أهمية هذه المسألة وضوحا إذا علمنا أن الباحث المذكور قد استطاع جمع كم هائل من الوثائق المعنية عقب تنقلاته المستمرة بدولة البرتغال، إذ أفنى الكثير من الوقت ومن الجهد في تجميع هذا الرصيد وفي تحقيقه وفي استغلاله. لذلك، أصبح بالإمكان الوقوف في أعمال الدكتور بوشرب على الكثير من الإحالات الوثائقية الخاصة بمدن منطقة الشمال وبحواضرها وبمراكزها التاريخية، مثلما هو الحال مع مدن طنجة، أصيلا، سبتة، القصر الصغير، العرائش، القصر الكبير، ... وتعميما للفائدة، فقد ارتأى الدكتور بوشرب الشروع في نشر مكنونات هذا الرصيد الوثائقي وكذا مجالات توظيفه التي نشرها هنا وهناك، وأصدر ذلك في كتاب عنوانه « وثائق ودراسات عن الغزو البرتغالي ونتائجه «، نزل إلى المكتبات سنة 1997، وذلك في ما مجموعه 288 صفحة من الحجم الكبير. ولتوضيح حدود المضامين العامة لهذا العمل، افتتح المؤلف كتابه بتقديم الإطار المركزي الذي ساهم في توجيه مبادرته في هذا الباب، حيث يقول : « يسرني أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة من المقالات نشرتها فيما بين 1980 و1994 تهم الغزو البرتغالي لسواحل المغرب ونتائجه ... وقد دفعني إلى جمع هذه المقالات وإعادة طبعها صعوبة الوصول إليها إما لنفاذ تلك المجلات أو لتعذر الحصول عليها. وتهم تلك المقالات جوانب من تاريخ المغرب ما يزال الغموض يكتنفها، وما تزال في حاجة إلى دراسة وتنقيب. وقد اعتمدت في دراستها بالأساس على الوثائق البرتغالية التي تمثل المصدر الذي لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لتاريخ المغرب في العهدين الوطاسي والسعدي. وتمثل مصادر محاكم التفتيش الدينية البرتغالية التي تبدو وكأنها لا تهم بتاتا تاريخ بلادنا، مصدرا من مصادرنا الأساسية، اعتمدناه في دراسة النتائج السوسيوثقافية للغزو البرتغالي وتاريخ الثقافة الشعبية والذهنيات بمغرب القرن السادس عشر، كما مثلت محاضر محاكم التفتيش مادتنا الأساسية في المقالات التي تهم الجالية المغربية المقيمة بالبرتغال ومواردها وظروف عيشها، والتي تهم التجارة البرتغالية بالمغرب، وعلاقة المغاربة بالبحر خلال القرن السادس عشر ... « ( ص. 5 ). تتوزع مضامين الكتاب بين أحد عشر مادة توثيقية تقاطعت جميعها في ترجمة رصيد ثري من الوثائق البرتغالية وفي تصنيف مضامينها وفي الكشف عن قيمتها المعرفية المرتبطة بتوظيفاتها القطاعية الخاصة بملابسات الغزو البرتغالي لبلادنا الذي انطلق منذ سنة 1415 باحتلال مدينة سبتة. وقد افتتح المؤلف كتابه بتقديم دراسة تعريفية بمحاضر محاكم التفتيش الدينية باعتبارها مصدرا من مصادر التجارة البرتغالية خلال القرن 16 م. وفي دراسته الثانية، اشتغل المؤلف على نفس رصيد وثائق محاكم التفتيش – لكن هذه المرة – باعتباره مصدرا من مصادر الثقافة والعقليات بالمغرب خلال القرن 16 م. أما الدراسة الثالثة، فقد خصصها المؤلف للكشف عن موارد المغاربة المقيمين بالبرتغال وظروف عيشهم خلال القرن 16 م. وفي المادة الرابعة، انتقل لرصد النتائج السوسيوثقافية للغزو البرتغالي لسواحل المغرب، في حين اهتم – في الدراسة الخامسة – بتوضيح علاقة المغاربة بالبحر خلال مرحلة النصف الأول من القرن 16 م. أما في الدراسة السادسة، فقد استفاض المؤلف في تحليل مضامين وثيقة برتغالية تتعلق بواقعة « الجزيرة « باللكوس التي انهزم فيها البرتغاليون سنة 1489 م، وعاد في المادة السابعة للحديث عن معركة وادي المخازن من خلال كتاب « حملة الملك دون سبستيان على إفريقيا « لمؤلف برتغالي مجهول. وفي الدراسة الثامنة، سعى المؤلف إلى إبراز أهمية مساهمة الوثائق البرتغالية في كتابة تاريخ الغزو البرتغالي لسواحل المغرب والبحر الأحمر والخليج العربي وما تولد عنه من ردود فعل. وارتباطا بنفس السياق، خصص المؤلف دراسته التاسعة للكشف عن حقيقة المخططات البرتغالية ضد العالم الإسلامي خلال القرنين 15 و16 م، وانتقل في المادة العاشرة لتقديم ترجمة وتحليل هامين لمحضر محاكمة امرأة مغربية من لدن محكمة التفتيش الدينية البرتغالية تعود إلى سنة 1559 م. وفي آخر مواد الكتاب، نشر المؤلف دراسة ثم ترجمة لمحضر محاكمة بحار برتغالي من لدن محكمة التفتيش الدينية البرتغالية بتهمة الاتجار بالمغرب ونقل المغاربة من البرتغال إلى بلادهم سنة 1554 م. هذه مجموع مواد كتاب « وثائق ودراسات عن الغزو البرتغالي ونتائجه «، وهي تبين أهمية الآفاق التي فتحها الدكتور بوشرب بتعميمه نشر المواد المصدرية والوثائقية الأساسية التي اشتغل عليها لفترات زمنية طويلة. ولا شك أن الكتاب، بما حمله من جديد، يقدم للمهتمين فرص التعرف على مظان مرجعية أساسية ظلت مجهولة لمدة طويلة، ويعزز التراكم العلمي الذي حققه حقل الدراسات التاريخية المهتمة بتاريخ الغزو الإيبيري لبلادنا عند مطلع العصور الحديثة. وتلك قيمة ستعمل – بكل تأكيد – على تكثيف الجهود لنفض الغبار عن القسم الهائل من الوثائق المغربية الموجودة بمختلف دور الأرشيفات البرتغالية، في انتظار تحمل مسؤولية إنقاذها، أفرادا ومؤسسات.