«منذ ما يقارب ثمانية عقود والعرب لا يكفون يتساءلون: من نحن ومن الآخر؟ «. فكيف يمكن للفلسفة أن تحرض على الثورة الحقيقية في فضاء تختبئ فيه الأوهام؟ بل هل يستطيع الروح صناعته المعرفية بواسطة الحقيقة؟ بل أكثر من هذا : ما علاقة الفكر العربي بالحقيقة؟، وهل هناك فكر عربي أم فكر عدمي ؟ من العبث ألا يعرف الإنسان الحقيقة ولو مرة واحدة في حياته، ويكتفي بأسلوب تهكمي ساخر من كل عمل فلسفي يستعرض تاريخ الحقيقة، لأن هدف الفلسفة بل وهدف تاريخ الفكر البشري بأسره هو الحقيقة، ولذلك فإن ظهورها لا يكون إلا عندما يحل عصرها والفيلسوف هو من يقوم بعرض الحقيقة الفلسفية ، بيد أن متعتها لا تقل أهميتها عن غموضها ، فهي مفرحة للروح بقدر ما يكون البحث عنها شاقاً، وفي جدل الفرح والشقاء يتحدد مصير الإنسان، وبخاصة إذا كان هذا الإنسان ينتمي إلى تلك الفضاءات التي تدعي وراثتها للحقيقة المطلقة ، لأن تأملات العقل تحولت عندها إلى مقامات صوفية تؤمن بالشطحات والابتهالات والأبخرة. كم هم مجانين هؤلاء الذين يهربون من الحقيقة ، ولذلك نجد ديكارت يبرئ نفسه منهم عندما يقول : «ما دمت أحمي نفسي بالكوجيطو، لن أكون مجنوناً». ومعنى الكوجيطو عند ديكارت هو الحقيقة المطلقة التي مزق الحجاب عن وجهها ، إنها « أنا أفكر إذا أنا موجود «.فهل الذي لا يفكر لا يفكر يمكن اعتباره موجوداً ؟ ، وهل يعفي من البحث عن الحقيقة من ليس موجودا؟ ولم أن العقل أعدل قسمة بين الناس بيد أن اللامساواة تأتي من استعماله ؟ وكيف يمكن أن نعيد للحقيقة بريقها في العالم العربي «. في أعماق هذه الجراح التي تأثر بها جسد الحقيقة في هذا الفضاء الشقي، ينبث قدر هذه الأسئلة بما هي أسئلة للراهن ، وبما أن غايتها ستكون هي الحقيقة الفلسفية والعلمية ، فإن تناول إشكالية الحقيقة سيتم داخل فضاء الفكر العربي بكل تجلياته التراثية والحداثية، مقارنة مع الوضع الانطولوجي للحقيقة في الفكر الغربي، الذي لا يرى في الحقيقة سوى النسق العلمي ، إذ نجد هيجل يعرف الحقيقة قائلا «ليس هناك شكل صحيح يمكن أن توجد عليه الحقيقة سوى النسق العلمي ، وما أحاول أن أقوم به هو جعل الفلسفة تقترب أكثر من صورة العلم «. بإمكان هذا الالتزام الصامت أن يحكم على الفلسفة بالتيه في عوالم العلم، ولكنه سيدفعها إلى قول الحقيقة بخطاب برهاني، بعيداً عن الخطابة والجدل والسفسطة ، ذلك أن إقامة علاقة مع الحقيقة ، لا تتم إلا عبر البرهان الذي يسدد الذهن نحو الصواب ويخلصه من الخطأ ، إذ يتعلق الأمر بلعبة العقل والحقيقة وبلغة ديكارت ، لا ينبغي على العقل أن يفكر في كل ما يمكن أن يكون مشكوكاً فيه، ومعنى التمرين على الشك، هو جعل العقل في قلب الحقيقة انطلاقا من البرهان الرياضي، الذي هو بمثابة سلطان العلوم لأن الحقيقة التي يصل إليها لا تخضع للشك. ومن أجل توضيح هذا المعنى، يجب أن نفتح المجال أمام ابن رشد باعتباره الناطق الرسمي باسم التراث العقلاني العربي، ولذلك كان شهيدا لهذا اللقب النبيل، حيث يفتتح كتاب البرهان قائلا : «وأما الصنائع (= العلوم ) فقد يعرض فيها الخطأ من قبل صورة القياس ومن قبل مادته ، وبخاصة من قبل اشتراك الاسم الواقع في الحد الأوسط ، لكن التعاليم : (=الرياضيات) قل ما يعرض فيها الغلط ..والسبب في ذلك أن الأمور التي فيها التعاليم هي عند الذهن كحال الأشياء المشار إليها عند الحس، وذلك أن المهندس إذا بين مثلا أن كل دائرة شكل وقد كان تقدم فرسم الدائرة ما هي، فإنه لا يمكن أن يغلط «. فبرهانية هذا القول لا تضع الوضوح الذهني أمام اليقين فقط ، بل تحميه من المعاندة التي تتوجه نحو الإبطال ، انطلاقا من المقدمة الجزئية المأخوذة من الاستقراء، والتي تبطل المقدمة الكلية البرهانية ، مثل من يقول : « الكواكب نارية من قبل أنها تضئ والنار تضئ «. . قد يكون ابن رشد خائفاً على الحقيقة البرهانية من علماء الكلام الذين يستخدمون الجدل من أجل الدفاع عن الالتباس في المعنى كحقيقة ، ذلك أن الحقيقة في الجدل تكون من أمور كثيرة عرضية وغير عرضية تحدث ارتباكا في الذهن. أما الحقيقة البرهانية، فهي تعتمد على صنفين: البرهان الذي يفيد وجود الشيء ، والبرهان الذي يفيد سبب وجود ، ويكون المنطلق دائما عود السؤال سواء ب « ما « أو « لم «. هكذا تتحول الحقيقة إلى امرأة لا يمكن تمزيق الحجاب عن وجهها الا بالسؤال ، باعتباره أداة للحفر الاركيولوجي . ومن الممتع أن نقوم برحلة لاستكشاف جمال الحقيقة ، على الرغم من أن هذه الرحلة ، لا يمكن أن تحقق هدفها في غياب كيمياء النصوص الفلسفية التي سيكون عطرها ممتزجاً بين القديم والحديث ، ونحن نتعمد هذا التداخل في الزمن الفلسفي ، لان الفلسفة لا تاريخ لها ، بل هي مجرد قراءة لتاريخها بواسطة الحقيقة، فأي حقيقة يريد هذا الكتاب أن يصل إليها ؟ هل يستطيع البرهان الفلسفي أن يقدمها كما هو الحال بالنسبة للبرهان الرياضي ؟ وبعبارة أخرى: هل بإمكان الحقيقة أن تصبح في متناول الفكر العربي المحروم من الحرية ؟ بل ما علاقة الحقيقة بالحرية مهما يكن الجواب، فالأوان قد آن للتفكير في الوضع الأنطولوجي للحقيقة في العالم العربي ، لأنه من العبث أن تتقدم هذه الأمة بدون الاستفادة من تاريخ الحقيقة ، لأنها الطريق الذي يؤدي إلى الثورات العلمية ، باعتبارها المنقذ من الضلال ، وإلا سيتيه في الضياع، خاصة وأن الفكر العربي لم يجعل من الأسئلة مسكن التأملات ، ولعل هذا الوضع المعرفي هو ما يحرض الحقيقة على هجران اسمها ، ولذلك نتساءل أين هي الحقيقة الآن ؟ من يبحث عنها ؟ بل أكثر من هذا : هل للفكر العربي الحق في البحث عن الحقيقة ؟ أم أنه محروم منها؟ ومن يأمر بحرمانه ؟ .في قلب هذا الصراع بين السؤال الفلسفي والحقيقة ينبثق العقل العربي الجديد ، يحمل معه بريقا من الأمل ، خاصة وأنه أصبح يعرف نفسه بنفسه ، ولم يعد يطرح السؤال من نحن ومن الآخر؟، وبلغة عبد الله العروي الذي يقول : « منذ ما يقارب ثمانية عقود والعرب لا يكفون يتساءلون : من نحن ومن الآخر ؟».