ما معنى الهدم الأنطولوجي للعقل العربي؟، ولماذا لا يتم اختيار الهدم المعرفي، باعتباره أقرب إلى العقل؟. وكيف يمكن للعقل الحداثي أن ينمو في تربة العقل الأسطوري الذي تتحرك بواسطته العصبية الدينية؟ ولماذا أن السياسة المدنية لا تظهر في أمة إلا بعد تدمير السياسة الدينية التي تمزج بين الحقيقة والوهم؟. ربما سيكون من السابق لاوانه إثارة مسألة هدم العقل العربي انطولوجيا، وخاصة وأن الإنسان والوجود في هذا الفضاء لم يتم التفكير فيهما ميتافيزيقيا، إلى درجة أن هذا العقل حرم منذ ولادته من الدهشة امام الوجود، والانصات لنداء الحقيقة من خلال انسجامه مع اللوغوس والرغبة في ترجمته إلى حوار للنفس مع ذاتها، عندما ينال الاغتراب من كينونتها، وتتأهب إلى الرحيل في ذلك الطريق الذي يؤدي إلى الوجود، لأنها قد ضيعت على نفسها وقتاً طويلا حين اختارت طريق اللاوجود الذي وضعها كوديعة في بيت العدمية، التي أفقدت العقل قدرته على استعمال قوته في الانتشار في الوجود من أجل اكتساب حصانته الأنطولوجية. هكذا أصبح هذا العقل ضعيفا حين نسفته إقامته الطويلة في العدمية، لانه تحول إلى مجرد آلة معطلة، بعدما فقد ملكته، وقدرته على التفكير، وبخاصة أن الهجمة الشرسة لاعدائه حرمته من الحق في الفلسفة، والحق في السؤال، الأمر الذي جعل منه مجرد قيمة تستعمل في أفق مضاد لنفسها، إنه عقل معطل، فاقد للروح النقدية التي يتعلمها في مدرسة الفلاسفة، ولذلك تحول إلى عقل سائد يقال بالاشتراك في الاسم مع العقل الكوني الذي ينتج الوجود والفكر، بل ويميز الانسان عن الحيوان، باعتباره تلك القوة الناطقة؛ الانسان حيوان ناطق كما يقول الفلاسفة، لان ما يميزه عن الحيوان هو العقل. ماهية العقل اذن، هي النطق، بمعنى انه يتجلى في الموجود، من خلاله لان الوجود صفر من المعنى في غياب الموجود، والعقل هو أحد موجودات العالم، وبخاصة أنه أبدع جسراً بينه وبين الوجود، انطلاقا من الفكر، ذلك أن الفكر هو تلك الطية التي تجمع الموجود بالوجود. ولعل الميتافيزيقا الدوغمائية قد أضعفت الوجود عندما نالت من هذه الطية، وأرغمت الوجود على الاقامة في النسيان كما يقول هايدغر، الذي وجد ترياقا لمرض الميتافيزيقا في الفلاسفة اليونان، وخاصة فلاسفة ما قبل سقراط وعلى رأسهم بارميند الذي احتفل في قصيدته بعلاقة الفكر بالوجود، بل إنه اعتبر أن الفكر ينتج الوجود. إنهما نفس الشيء. لكن كيف يمكن للعقل العربي الذي لا يميز بين الإخلاص لمعتقداته، والتساؤل عن أصل الوجود؟، وكيف يمكن لعقل قام بتكفير سؤال الوجود أن ينجو من الهدم الانطولوجي؟. يتعلق الأمر اذن بمعادلة منطقية ذات أهمية خاصة، من المحتمل أن تساعدنا على توضيح المعنى المقصود بالهدم الانطولوجي للعقل، كتجربة أساسية لاختبار مدى قدرة هذا العقل على المقاومة، وخاصة وأن الهدم الانطولوجي هو لحظة أساسية في كل بناء جديد، ولذلك فإن العقل العربي مطالب بأن يهيئ نفسه لهذه الهزة التي تستهدف كينونته، نظراً لعدم قدرته على الدهشة امام الوجود، وقيامه بدوره الانطولوجي عندما يتحول إلى طية، وإلا سيكون مصيره الذوبان المطلق في العدمية، ويصبح عبارة عن ملكة عديمة القوة، وضعيفة تعيد انتاج الرتابة وثقافة الفشل. مما يحول الانسان إلى عدو لعقله، لانه يبعده عن ذلك النور الفطري الذي لا ينبثق فيه إلا حين يلتقي بالوجود. لعل هذا اللقاء بالوجود، والدهشة امام عظمته، هي الحظ الواحد الذي بقي أمام هذا العقل المنهك، وقد تمنحه ضمانة على عدم تعرضه للهدم الانطولوجي، ذلك أن حياة العقل لا يمكن أن تستمر خارج مجال الانطولوجية، لأنه في حاجة إلى حقيقة، غير الحقيقة الميتافيزيقية الدوغمائية، لان العقل كائن متقلب مثل الحرية والانسان، حياته مهددة بالتضاد عندما يكون رهينة في مخبأ النفس التي تتعاقب على ماهيتها الكراهية والحب، الفضيلة والرذيلة، العلم والجهل، الكرم والبخل، إنها مجرد لعبة يتسلى بها الوجود الذي يعشق التضاد، ويمنح للاضداد القدرة على حب بعضها البعض من أجل أن تنفجر، ليسلمها إلى العدم، ويستضيفها في مملكة الصمت والظلام. هكذا يكون الوجود علة العقل وماهيته في نفس الوقت، ويحدد ابن رشد علاقة الوجود بالنفس وبالعدم قائلا: "ان الوجود الذي استعمل هنا ليس هو الوجود الذي يدل على ذوات الاشياء أعني الذي هو كالجنس لها ولا على الذي يدل على أن الشيء خارج النفس. وذلك ان اسم الوجود يقال عل معنيين أحدهما على الصادق والآخر على الذي يقابله العدم". والحال أن العقل العربي كما تكون مع ابن سينا الذي منح للرؤية الغزالية مشروعية الهيمنة على انطولوجيا هذا العقل حين جعلت من الوجود مجرد عرض للماهية وشيء زائد عليها خارج النفس: قد منح للعدمية كامل السلطة للتصرف فيه، ولذلك نجد ابن رشد يقول باندهاش كبير: "وأما هذا الرجل (يعني الغزالي) فإنما بنى القول فيها على مذهب ابن سينا وهو مذهب خطأ، وذلك أنه يعتقد أن الانية وهو كون الشيء موجوداً شيء زائد عل الماهية خارج النفس وكأنه عرض فيها". هكذا بدأ يتحدد مصير العقل العربي واختياراته الانطولوجية التي تحكمت بقوة في تطلعاته المعرفية التي تحكم فيها نسيان الوجود. مما حرم العقل العربي من بناء مشروعه الانطولوجي، لأن "الأنا أفكر" التي تكتشف قارة "الأنا موجود" قامت بانزياح مدهش قادها إلى إثبات عرضيتها فأصبحت الذات مجرد عرض للنفس مثل الاعراض الاخرى، كالعلم والموسيقى والطب والهندسة وغيرها: "فوجود أمثال هذه الصفات فيما ليس بجسم مستحيل لان طبيعتها طبيعة غريبة عن الموصوف بها، ولذلك سميت اعراضها وتميزت عن الموصوف في النفس وخارج النفس". لان الفلاسفة يعتقدون أن النفس فيها أمثال هذه الصفات: "وذلك أنها دراكة مريدة محركة وهم يعتقدون مع هذا أنها ليست بجسم". فكيف يمكن للعقل الذي نبت في تربة هذه النفس الذي تثبت وجودها كعرض، مثل الاعراض الاخرى ان لا يصبح عرضة للهدم الانطولوجي؟. يتضح إذن من خلال هذا التحديد الأولي لعلاقة النفس بالوجود والعقل، ان النفس قامت باضعاف الوجود عندما ألحقته بالأعراض. ولم يعد يثير دهشة العقل، كما كان عليه الأمر عند فلاسفة اليونان الذين جعلوا من مبحث الوجود مصدر عظمتهم، وقد استمرت هذه العظمة في الفلسفة الحديثة مع ديكارت الذي أرغم النفس على التنقيب في ذاتها من أجل إيقاظ العقل من سباته الدوغمائي الذي دام ألف عام، حتى يتمكن من إثبات وجوده، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، ولذلك فان الأنا لا يمكنها ان تفكر إلا عندما تكون موجودة، لان الوجود والفكر شيء واحد. ولعل ديكارت كان معتزاً بهذه "الأنا أفكر" إلى حدود العجرفة، حيث يعتبرها رأسمالا رمزيا يمنحه الوجود الذاتي وليس الوجود العرضي، الذي يقربها من العدم، كما وقع للعقل العربي حين اعتبر ان الوجود زائد على الماهية، أي أنه عرض لاحق على ماهية الانسان، ولذلك فان العقل سيضطر إلى إثبات وجوده كعرض مما سيحتم إنتاج معرفة عرضية كالسفسطة والخطابة والجدل، وليس معرفة انطولوجية ثابتة وذات يقين برهاني وحقيقة واحدة كالانطولوجيا والفلسفة. هكذا نكون امام مفارقة يبدعها العقل حول ذاته، عندما يقوم بهدم التحديد الانطولوجي للانسان، ويحوله من حيوان ناطق إلى حيوان مؤمن بخلود النفس وانتقالها إلى الوجود الحقيقي، بدلا من الوجود العرضي، الأمر الذي جعل ابن رشد يقول عن هذه المفارقة: "ومثال ذلك أن حد الانسان حيوان ناطق، وليس النطق والحياة كل واحد منهما متميزاً عن صاحبه فيه خارج النفس بالفعل واللون والشكل فيه خارج النفس، ولذلك يلزم من يسلم أن النفس ليس من شروط وجودها المادة أن يسلم أنه يوجد في الموجودات المفارقة ما هو واحد بالفعل خارج النفس كثير بالحد". وإذا تقرر هذا، فان العلوم الانسانية كلها انفعالات وتأثيرات عن الموجودات، والموجودات هي المؤثرة فيها، بل إن المعرفة عند الحكماء لا تكون إلا من الحدود، والحدود إنما توجد من المركبات من المادة والصورة، لا للبسائط، ولذلك فان العقل يقوم بالجمع بين المادة والصورة من أجل تحديد ماهية الموضوع فمهمة العقل، كما يقول كانط، هي هذا الجمع، او هذا التركيب: أنا أركب إذاً أنا أعرف. هكذا يصبح العقل مسؤولا عن حل التناقض الذي يخرجه بنفسه، فان حرم عليه هذا التناقض يتحول إلى عقل معطل سيكون مصيره هو النسف الانطولوجي. وربما يصدق هذا الوصف على العقل العربي الذي حكم على نفسه بالاقامة في الوجود بالقوة، لانه محطم يخشى الخروج إلى الفعل، وبخاصة وأنه عبارة عن صفة عرضية للنفس التي حولته إلى خفاش يكره ضياء الوجود ومن تم استحالة عليه إثبات وجوده انطلاقا من الأنا أفكر، وبامكاننا القول أن الفضاء العربي تنعدم فيه الأنا أفكر، حيث ثم تعويضها بالفكر الكلي الذي تتوارثه الأجيال مثل الميراث، وتسعى إلى الحفاظ عليه في هويته. ولعل هذا ما حرم الفضاء العربي من التفكير، ولذلك إنه لم يفكر بعد لانه لا يحتاج إلى اكتشاف وجوده، ما دام أن هناك من يفكر بالنيابة عنه. فإلى متى سيظل هذا الفضاء محروم من الكوجيطو؟، وهل حان الوقت لكي ينصت هذا العقل المحطم لنداء الوجود الذي سيعجل بشفائه من مرض العدمية؟. لقد كان ابن رشد مضطراً لتبسيط مشروعه الانطولوجي، وأعني به مشروع تأسيس علم الموجود بما هو موجود، في كتابه تهافت التهافت، لانه كتاب موجه إلى العامة الذين تضامنوا مع الغزالي في حملته على الفلاسفة، وقد تمكن من منح هوية التكرار والكسل للعقل العربي، بل وتأهيله للاقامة في العدمية طيلة هذه القرون. الأمر الذي جعل ابن رشد يكتوي بنار هذه الحملة الشرسة، وأرغمه على تقديم المقدمات البرهانية في صيغة خطابية وجدلية، ولكنها ذات عمق انطولوجي تسعى إلى إعادة للعقل العربي الحق في التفكير، والبرهنة على وجوده، ولذلك نجده يقول في هذا الباب: "إنه ليس يطلب معرفة ماهية الشيء حتى يعلم أنه موجود وأما الماهية التي تتقدم علم الموجود في أذهاننا فليست في الحقيقة ماهية وإنما هي شرح معنى اسم من الأسماء، فاذا علم أن ذلك المعنى موجود خارج النفس علم أنها ماهية واحدة"، بل إنه ينتفض ضد مذهب عرضية الوجود الذي أبدعه ابن سينا بعد تأثره بعلم الكلام الذي قام بتضليل العقل العربي في مسارات التيه، ثم حكم عليه بالعدمية، لان ما كان يهمه هو الانتصار على المخالفين له في الرأي وحفظ العقيدة من الاعداء. ولذلك يتهمهم ابن رشد بتغليط العقل ومنحه هوية الانتحال، حيث يقول عن مذهب عرضية الوجود: "وأما قول القائل أن الوجود أمر زائد على الماهية وليس يقوم به الوجود في جوهره فقول مغلط جدا لأن هذا يلزمه أن يكون اسم الموجود يدل على النفس وهو مذهب ابن سينا، ويسأل عن ذلك العرض إذا قيل فيه أنه موجود هل يدل على معنى الصادق أو على عرض موجود في ذلك العرض فتوجد أعراض لا نهاية لها وذلك مستحيل. وأظن أن هذا المعنى هو الذي رام ابو حامد أن ينفيه عن المبدأ الاول وهو منفى عن جميع الموجودات فضلا عن الاول إذ هو اعتقاد باطل". يضعنا هذا النص في قلب الصراع الذي افتعله الغزالي مع الاتجاه العقلاني الذي بدأ ينشر ظلاله على الثقافة العربية، لكن سرعان ما تم توجيهه من الوجود إلى اللاوجود، لكي يتحول إلى اتجاه عرضي، بدون ماهية ولا جوهر، ولعل هذا ما جعل ابن رشد يعتبره اعتقاداً باطلاً، وليس يقينا برهانيا. مع العلم أن هذا الاعتقاد قد وجد طريقه نحو نفوس الناس، بالرغم من بطلانه، بل وأصبح يتحكم في قوتهم الناطقة، إلى درجة أنه أفرغها من الوجود، عندما قام بشحنها بالاوهام، وأجبرها على أن تتحول إلى آلات مدمرة لكل من تجرأ على قول أنا أفكر، إذاً أنا موجود، إلى ذلك الاعتقاد الباطل: كل من تفلسف تزندق، والواقع أنه ينبغي القول أن كل من تفلسف خرج عن القطيع، لانه بدأ يستعمل الأنا أفكر، بدلا من أنهم يفكرن بالنيابة عني، ويثبت وجوده كحقيقة مطلقة توجه العقل نحو مملكة الفكر، ولكن إلى أين سيأخذه قدر الدهشة أمام سؤال الوجود، هل إلى اكتشاف بأنه ذات مفكرة، ام الى ذلك القدر الذي كان سقراط سعيدا عندما ناده ولم يتردد في السير فيه؟، وهل تكفي الدهشة أمام عظمة الوجود للحصول على تأشيرة السفر إلى مملكة الحقيقة؟، وإلى أي حد تكون الدهشة هي مصدر الفلسفة، ومحركة للعقل من أجل أن يستيقظ من سباته العميق في العدمية؟. يقول أرسطو في كتاب الميتافيزيقا: "وهكذا، كان من قديم ولم يزل إلى الآن وسيبقى أبداً السؤال الذي تسأله الفلسفة وتحار في الوصول إلى الجواب عنه وهو؛ ما الوجود؟" بإمكاننا أن نقول أن هذا السؤال المصيري هو الذي انتزع العقل اليوناني من يد الفشل الفكري والانحطاط الروحي، واستطاع أن يعيد لهذه الروح عظمتها، ويجعلها منارة مبتهجة للحضارة الانسانية فوق هذه الارض، ذلك ان الوجود عظيم، ويسعى إلى تعميم عظمته حين يتم التفكير فيه، وخاصة وأنه مدين للانسان الذي يقوم بدور انطولوجي كثنية تجمعه بالموجود. وبخاصة ان الوجود يتجلى في الموجود، ويتمكن من التعرف على حقيقته، إنه عاشق أسير للموجود، فبمجرد إبعاده عن عشقه يصبح ضعيفاً ومريضاً، ولا يجد أمامه غير الانسان الذي أضعفه لكي ينتقم منه من خلال حرمانه من العظمة وإرغامه على العيش في جحيم الانحطاط في أسمى صوره. لابد للانسان العربي الذي حكم على العقل بالسجن مدى الحياة، أن يصحو من غيبوبته بواسطة ترياق دهشة الوجود، التي ستمنحه إقامة شاعرية، ومفكرة في العالم، بعد أن طالت إقامته في العدمية، حيث لا يستطيع أن يخرج إلى بهجة الوجود، إلا متنكراً في جنح الظلام كالخفاش الذي يخشى شروق الشمس. والحال أنه ليس هناك من سبيل إلى بلوغ مقام الدهشة والبهجة والسرور بالحياة إلا بالصعود في طريق المدهش، انطلاقا من سؤال الوجود.لأن العقل الذي لا يتساءل عن وجوده، هو عقل محطم حرم من ملكة الفكر، ذلك أن الفكر ينتج الوجود، مما يشكل قوام أنطولوجيته. لأنه لا يملك الحق في الحياة بدون أن يتساءل عن حقه في الوجود، إنها معادلة صعبة، ولكنها الحقيقة التي تقتل العقل الخرافي الذي فقد حماية الوجود. لانه يفسر كل شيء بالعقيدة والخرافة. فكيف يمكن لهذه الكتابة المبتهجة بالوجود وعشق الزمن، أن لا تثير غضب من التهموا وجودهم دفعة واحدة في عتمة الماضي؟، وبعبارة أخرى؛ كيف يمكن لمن حاربوا سؤال الوجود وبراءة محبة الحكمة عندما أقدموا على نبذ الحكماء وإحراق كتبهم، وتشريد محبة الحكمة، أن يستجيبوا لهذه الدعوة، أي دعوة الفلسفة؟. إذا أردنا أن نكون مخلصين للوجود فإنه ينبغي بناء ماهيته انطلاقا من إعارته تلك اليد التي نفكر بواسطتها عندما تقوم بادماج الوجود في عمق الموجود، لأن المجال الذي يحصل فيه الوجود على ماهيته هو مجال اللغة، ذلك أن اللغة وحدها تمنحها الطريق نحو القدرة على التفكي، باعتبارها إنصاتاً لنداء حقيقة الوجود. والحال أن سقراط كان يعتبر الفكر مجرد حوار للنفس مع ذاتها، لأنه حينما يتحول هذا الحوار إلى لغة يأخذ صورة الفكر، ولذلك فإن الفكر كل ما ابتعد عن أصله، كلما تحول إلى ضده، فأعمق ما في الإنسان هو الفكر، الذي يمتلكه بقوته الناطقة، ولعل ما يفسد هذه القوة، ويحولها إلى قوة خرساء هو مدى ابتعادها عن الوجود، الذي يمنحها الحق في تأسيس علم الموجود بما هو موجود، الذي كان يعتبره الفلاسفة أشرف علم، بل إنه العلم الإلهي بلغة ابن رشد الذي يشكل استثناء في تاريخ الفلسفة، نظراً لتضحيته بأغلى شيء عنده، وأحب شيء إلى نفسه وهي حياته، من أجل تشييد علم الموجود بما هو موجود، لأن ابن رشد كان يحلم بمنح هدية الانطولوجيا للعقل العربي، بيد أن هذا العقل الذي تعود على بصر الخفاش تنكر له، وانقلب عليه، مما قاده إلى الصمت، حيث الانتظار ينتظره، والزمان فقد الحركة وتحول إلى سكون مطلق، والوجود أرغم على التصابق باللاوجود الذي قام بسجن العقل وحرمانه من الحق في الفكر، والدهشة أمام سؤال الوجود وبهجة محبة الحكمة، ودارت دائرة الزمان، لكن العقل العربي ظل محتفظاً بهويته نائماً في بؤسه، ومتشبثاً بموقفه المعادي للانطولوجيا، محروما من لعبة البراديغم والثورات العلمية، إنه عقل ظل بعيداً عن مذاق هذه الثورات، فما الذي يجعلنا نطمئن إلى هذه العلاقة الغريبة بين هذا العقل الذي يتجلى انطلاقا من اللغة العربية وعلم الموجود بما هو موجود؟، وبعبارة أخرى ما هي علاقة هذا العقل بالوجود؟، بل ما هي علاقته أيضا بالزمن وبالعدم؟.