تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الصادقي، الفائز بجائزة المغرب للكتاب (صنف العلوم الإنسانية والاجتماعية): أقمت «إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي» على أطروحة هي القيام بقراءة فلسفية للتصوف

عقب فوزه مناصفة بجائزة المغرب للكتاب، صنف العلوم الإنسانية والاجتماعية، عن كتابه: «إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي: بحث في فينومينولوجيا الغياب»، التقت «الاتحاد الاشتراكي» الباحث أحمد الصادقي طارحة عليه سؤالي دواعي اختياره لموضوع مؤلفه والمنهجية التي اعتمدها فيه، خاصة وأنه في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه. هنا نص أجوبته
التقاه: سعيد عاهد
يقول ابن عربي في رسالة الانتصار معبرا عن فتح المغرب وعن الواصلين إلى عين الحقيقة من أهل هذا البلد العزيز: «فوالله لو رأيت الواصلين منا إلى عين الحقيقة لفنيت في أول لمحة فناءك في الحق. ففتح المغرب لا يجاريه فتح، إذ حظه في الزمان الوجودي الليل، وهو المقدم في الكتاب العزيز على النهار في كل موضع، وفيه كان الإسراء للأنبياء، وفيه تحصل الفوائد، وفيه يكون تجلي الحق لعباده، وهو زمان السكون تحت مجاري الأقدار، وهي الغاية إذ السكون عدم الدعوى لا يبقي وجودا ولا رسما. فالحمد لله الذي جعل فتح هذا المغرب فتح أسرار».
ويقول في كتاب الفناء في المشاهدة ناصحا ومنبها أولئك الذين يريدون السياحة في عالم التصوف و يسعون إلى الغوص في بحر القرآن. «وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو. فغوره بعيد والتلف فيه قريب»
طبعا كنت أخشى أن أكون من بين أولئك الذين لا يحسنون السياحة والغوص، بل كنت أخاف أن لا يكون قولي من أهل الليل، أن لا يكون من بين الذين لا يصلون إلى عين الحقيقة. ولقد خلق هذا عندي إحراجا إذ الطريق إلى حله هو أن أتحول إلى مريد. غير أن الفلسفة التي سعيت إلى الكشف عنها في متن ابن عربي الواصل والواقف، لم تعثر قط عبر تاريخها على نهايتها الفعلية، ولم تصل إلى عين الحقيقة بالرغم من إعلان بعض الفلاسفة عن هذه النهاية في منظوماتهم الفكرية. وهذا يعني أن الفلسفة في جوهرها تساؤل مستمر، يحيلها دوما إلى لغز يطرح نفسه من جديد على الفكر. إن ما تُعَلِّمُه لنا الفلسفة إنما هو القيام دوما بإعادة النظر في المسلمات والفرضيات المسبقة ووضعها في دائرة إحراج يدفعنا نحو التفكير فيها من جديد. وإن الحديث عن الإحراج في الفلسفة ليس يعني تفنيدا لنتائجها كما يحدث هذا في العلم وإنما هو تحويل الانتباه إلى أسئلة وتحديات يجبرنا الفكر على مواجهتها. والإحراج في الفلسفة وفي كل فكر أصيل يشكل أهم ما تعلمه لنا. ومن المعلوم أن الإشكالية هي هذا الإحراج الذي يسعى الباحث إلى إيجاد مخرج له وذلك عبر عدد من الاستنتاجات التي يتوصل إليها. لقد أقمت إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي على أطروحة هي القيام بقراءة فلسفية للتصوف، يعني الانطلاق من فكر عاشق للحقيقة من أجل دراسة فكر يعتبر نفسه واصلا إلى عينها. وهذه الأطروحة تتأسس على توجه عام هو أن الوجود ليس مقولة أو جنسا من الأجناس، وإنما هو ظهور محتجب،وأن العقل يقيد الوجود في فهمه دون أن يقيد فهمه،يزعم لنفسه الإحاطة بالوجود دون أن يعرف بأنه هو نفسه من بين الموجودات.هذا التحديد هو الذي اقترح علينا إستراتيجية للتفكير في الوجود تستمد روحها من فينومينولوجيا الغياب أو الاحتجاب. لذلك فإن قراءتنا لفكر ابن عربي تريد أن تكون قراءة أنطولوجية تكون فيها الغلبة لنمط عرض الوجود على نمط معرفته. قراءة لا يكون فيها الإنسان منفصلا عن العالم ومتعاليا عليه، وإنما فيها يكون العالم جزءا من ماهية الإنسان والإنسان جزءا من ماهية العالم. لأن الوجود ما يزال يعرض نفسه نظرا للخلق الجديد والمستمر، وهو الذي يمكن وصفه بتاريخ الوجود، وهو تاريخ لا يقبل التكرار نظرا لاتساع فلك الرحمة الإلهية، تاريخ ينبغي على المتصوف أن يعانقه في قلبه ووجده ووجدانه وتواجده، في فنائه وبقائه، في غيبه وحضوره، في تخليته وتحليته، في عرفانه وعيانه. وهذا بدوره يستوجب السفر في الحضرات والمنازل والمقامات الوجودية،وأيضا في الأصقاع وفي البلدان، إذ الله تعالى يقول ?وهو معكم أينما كنتم?.
تقوم القراءة على فكر يمارس عملا مزدوجا: إنه يبني ويهدم. فالفكر السقراطي، مثلا، يريد أن يبعد السفسطة من مجال الفلسفة، والكوجيطو الديكارتي يبني مفهوم الأنا ويقصي التحديد المنطقي للإنسان، كما أن المطلق الهيجلي يستعبد النظرة الجزئية إلى الوجود، وكذلك مفهوم الدازين الهيدجري الذي يقدم تأويلا أنطلوجيا للوجود ولا يحصره ضمن نظرية المعرفة. كذلك نلمس في فكر ابن عربي إقصاءا لعدد من الأمور التي لا تليق بالعارف في سفره (على سبيل المثال رسالة لا يعول عليه).
كل شيء يحدث تقريبا كما لو أنه في فكر الشيخ الأكبر يقوم فائض من إرادة القول تتعلق بقصور في الإمكانات الواقعية للخطاب العادي. غير أن هذا الفائض نلمسه أيضا في الفلسفة التي افتتحها أفلاطون وأرسطو: هو فائض ناتج عن إحساس الفيلسوف من أن القول لا يملأ إرادة الفعل،الشيء الذي يدفعه إلى عدم التوقف عن الكلام. هذا ما نجده أيضا في فكر ابن عربي الذي لا يتوقف من متابعة التجليات الإلهية. والسبب في ذلك يعود، ربما إلى أن فكره لا يجد إشباعا لإرادته في الخطاب. فالإرادة التي تجد لنفسها إشباعا في الخطاب، تتسم بالطابع الجزئي، ومن تم لا تصل إلى قول الوجود بما هو كذلك، أي الوجود في حقيقته.
إن إرادة قول الوجود لا تكتفي بقول الإرادة. لذلك نجد الشيخ الأكبر يستحضر معلمين أرضيين وسماويين في كتاباته. فلقد كان في حاجة إليهم لإنجاز عمله الفكري لأنه إذا ما اعتبرنا الكتابة إرادة فإن الإرادة بما هي كذلك لا تشبع نفسها، ومن ثم فهي إذا سعت إلى الكتابة فإن الحضور لا يشبعها فتعشق الغائب الذي يشكل لها أفقا مستقبليا. مع ابن عربي لا تكتفي كتابته بابن عربي نفسه وإنما تحتاج إلى آخر يكسر علاقة التطابق بينها وبين الشيخ. لم يكن حضور هؤلاء المعلمين الأرضيين وغير الأرضيين في فكر ابن عربي إلا سعيا نحو إثبات شيء يتجاوز وعيهم جميعا. غير أن هذه المجاوزة في فكره تستوجب الإقرار بوجود وعي الأشياء -بآثار الأسماء الإلهية فيها- قبل قيام وعي الذات بهذا الوعي. فليست الأشياء مواد غفل. إنها حية مسبحة وناطقة.لذلك فإن وعي ابن عربي ليس هو وعي الذات وإنما إحضار للوعي من حيث هو آخر.
لقد حضر ابن رشد،مثلا، في فكر ابن عربي كوعي منافس يدعي لنفسه حصول حقيقة الوجود في هذا الوعي، كما يحضر ابن عربي في وعي ابن رشد كي يتأكد عنده البرهان. وأن يكون الكشف تجسيدا لقوله الفلسفي.وفي المقابل يخلخل ابن عربي هذا القول ضمن طوبولوجيا مركبة يكون فيها النفي قويا.نفي يكشف عن البرهان الرشدي كقناع يحجب عن العارف حقيقة العلم اللدني. إن فكر ابن عربي، والحالة هذه، هو بمثابة حرب ضد الحجب والأقنعة التي أقامتها التأويلات المختلفة عن الوجود في اتجاه الكشف عن وعيها البسيط.وعن ما لا يقال في قضية حملية. يحضر الآخرون في فكر ابن عربي من أجل صناعة إحراج يشجع على القول والكتابة. ويتمثل هذا الإحراج في التقييد الذي شكل النقطة الحرجة عند ابن عربي،نقطة سعى إلى إيجاد حل لها، نظرا لكون التقييد هو الذي يقوم في أساس المذاهب والعقائد التي تقود إلى التشاجر والخصام ،والحال أن الحق سبحانه قد نهى آدم من القرب من الشجرة والأكل منها. لقد كان الهدف من سفر شيخ العارفين البدني في أصقاع العالم وكذلك سفره الروحي عبر التجربة والكتابة الإبداعية والمعادة في الآن نفسه هو التنفيس عن الكرب الذي كان يعانيه هو بدوره عندما يكون مستقرا في مكان محدد،أو التنفيس «من الكرب والغم الذي تعطيه الطبيعة»، كما يقول هو نفسه؛ إذ الطبيعة تحول دون مشاهدة التحولات التي تطرأ على الفكر في الزمان، وكان قصده هو العودة بفكر زمانه إلى الصمت الأصلي الذي عليه أن يفتتح السؤال الحقيقي الذي يقود إلى نفس الرحمان كي يحصل النفخ من جديد، وذلك من أجل القضاء على النسيان الذي أخفته عنا اللغة الخادمة للعقل.النسيان الذي صنعته لغة الفقهاء والمتكلمين. مع
الصمت سيحصل الكلام الأصلي وستحصل البداية في طريق نداء الحق، نداء يقود إلى عين الجمع،إلى القرآن الكريم الذي يستعيد الأشياء الضائعة. أجل هي بداية لا تدرك إلا بالقضاء على مختلف أشكال اللامبالاة التي تأتي من الأحكام المسبقة وهي أحكام تتأسس في وجودها على الاعتقاد بأن الإنسان بقدراته الذاتية يستطيع أن يتجاوز هذا النسيان وذلك عندما يهتم بتشييد مذاهب، وهي مذاهب تقود إلى التنازع والتشاجر. وعند الشيخ الأكبر لا شيء مستقل بنفسه إذ كل شيء هو في علاقة بكل شيء. فالعالم مثلا لا ينفصل عن الإنسان والإنسان لا ينفصل عن العالم.وكلاهما على الصورة الإلهية. ومن تم فإن القول بالمذهبية مجرد ادعاء من العقل الجاهل بوجوده وبوظيفته المتمثلة في ضرورة تلقي الحقائق لا في إنتاجها.لهذا الإدعاء جذورا في الفلسفة السابقة على ابن عربي وتلك التي أتت بعده.
ما يقوم في فلسفة ابن عربي إنما هو قلق نابع من مهاجرته لوجوده السيكولوجي في اتجاه أنا باحث عن أنطلوجيا يقتضيها الحوار مع الوجود.إنه يبحث في وجوده عما هو أنطلوجي خارج كل إحالة إلى الموجود المقيد بإكراهات سيكولوجية،سياسية،مذهبية أو غيرها.إنه يكون عاشقا للكل. فلا يتمذهب إلا لكي يسير في الطريق نحو ما يجمع شتات النظر ويوحد في نقطة أسمى بين الممكنات.إنه يضع للمستقبل أفقا كي ينتشر فيها وينبسط بدون أن يتعرض لعنف العقائد. لكن القلق يبقى سيد الموقف في التفكير الفلسفي الأكبري. فهو الذي يبعث على السؤال وعلى النفي وقول»لا».
تغير كتابة الشيخ الأكبر مواقعها باستمرار نظرا لكونها تسافر معه عبر البلدان وعبر المنازل والحضرات والأحوال. إنها كتابة تغادر الأماكن التي تصير مشتركة. ولذلك تكون لهذه الكتابة مفاعيل لا تألفها لغة التبرير القضوي. ولا لغة الفقيه المانعة للفهم المخالف والمضاد. تنتج هذه المفاهيم عن قدرة لغة ابن عربي على تغيير المواقع بحيث تنتقل مرة من لغة الإبانة والإظهار إلى لغة الإخفاء والكتم وحجية الألغاز، وتارة تنتقل من لغة السرد والحكاية إلى لغة الشعر، ومن مخاطبة الفقهاء والمتكلمين والمتصوفة إلى لغة أخرى تخرج من مجال التواصل لتعبر عن الألغاز التي تكشفها حركة الأسماء الإلهية التي تترك آثارها في الوجود المضاف. وفي كل ذلك تحافظ هذه اللغة على نفس المعنى مع تغيير دلالته تبعا لحضوره في هذه الحضرة أو تلك وفي هذا المقام أو ذاك، إذ أن كل موجود يتحلى بلباس الحضرة، حسا أو غيبا. كثافة أو لطافة. هي أيضا لغة تقوم بالتأويل الذي هو بمثابة الكشف عن المعنى المخبوء في قشرة الألفاظ وهو معنى تستوجبه هذه الألفاظ نفسها من دون أن يحصل هناك تأويل بعيد. لما كان الوجود برزخا له أطراف لا ينتهي إليها، فإن الكتابة الوجودية كتابة متعددة تستعيد إلى الواجهة المعاني المنسية في الكلام المعتاد والمتواتر وتبين أن كل كلام يخفي في جوفه كلاما آخر، وأن كل لغة تخفي لغة أخرى. إن هذه الكتابة البرزخية تكشف عن معاني قرآنية أصابها النسيان بفعل سيادة التفسير الفقهي والكلامي وهي سيادة نابذة للمعنى الآخر الموجود خارج الدلالة الفقهية للنص،من دون أن يتم رفض حق الفقيه في أن يفهم.بل أكثر من ذلك، إن ابن عربي وهو يكشف عن المنسي الفلسفي والفقهي إنما يتابع في ذلك القرآن الكريم الذي يحيي الحقائق الضائعة. إنه يحيي وضعا تم نكرانه. وهذا هو دلالة الوحي الذي يعيد الإنسان إلى وضعه المنسي.
إن فكر ابن عربي هو فكر للسفر الذي يقوم على التدفق النابع من الدلالة الأنطلوجية للإنسان وهي دلالة تجد امتدادها في العالم. إنه تدفق للسر الذي تحمله عالمية الإنسان وإنسانية العالم، عندما شاء الحق أن يعرفه خلقه. وهذا السر ما يزال قائما،يرافق سفر الأسماء الإلهية في مستقبل الوجود. إنه سر ينبغي أن نعلمه كي نؤنسن العالم، ما دمنا عالميين، أي ما دام الإنسان هو وحده الذي يملأ -وما يزال- عمارة العالم.
إن القارئ الذي يناديه ابن عربي هو الذي ينصت إلى نداء الوجود وهو يتجه نحوه،هو الذي يحسن كيف يلقي السمع ويحسن كيف يرى ويشهد.إنه ذاك الذي يحسن المصالحة بين الضرتين ويثقن عملية الترحال بموجب ما يفرضه»علم الأرجل».هذا القارئ المسافر في القراءة سيقول عن الشيء بأنه هو لا هو،لأنه يعلم بأنه كقارئ لا يبقى زمانين.نعني بذلك القارئ الذي يخرج ابن عربي المفكر من ابن عربي السيكولوجي،أي يخرج ابن عربي من المشار إليه إلى ابن عربي في البرزخ وفي متابعته لآثار الأسماء الإلهية في الخلق الجديد.لقد كان في حياته في حضرة برزخية وهو الآن بعد أن درج قائم فيها.لقد صرح هو نفسه بذلك حيث أشار إلى أن من يكون أحق بالإنسان الكامل هو الذي في مجمع البحرين، وكذلك رفعه الإنسان إلى مرتبة الاسم.من لا يحسن علم الضرتين يختلط عليه الأمر الواحد.
يعرض الوجود نفسه للإنسان وهو عرض لا يكون للعقل النظري فيه مدخل،ولا يكون فيه الدليل سوى عنصر بسيط، بحيث يحتل فيه مفهوم الآية موقعا مركزيا. إذ الحق سبحانه قد أرانا آياته في أنفسنا-أي في العالم الذي تصنعه تجاربنا وخبراتنا -وفي الآفاق- أي في العالم خارج تجاربنا. بعبارة أخرى نحن أمام العالم كبير والعالم صغير الذي نحن إياه.ما هو خارج عن أنفسنا هو أعيان الأشياء، هو العالم الخارجي بأفلاكه وأكوانه وعناصره المختلفة.وهو بالنسبة إلى الإنسان موضوع للمعرفة وللنظر،إذ أن الإنسان يتعرف على نفسه وعلى الحق في الآفاق.كما أنه يتعرف على نفسه في نفسه من حيث هو صورة جسمية،ظاهرة للآثار التي تحدثها الأسماء الإلهية في الظهور ولذلك فإن العالم عنصر ضمن الوجود الإنساني،وذلك بخلاف الفهم الميتافيزيقي الذي يفصل بين الإنسان والعالم.ولذلك فإن التقاطب التكميلي الذي أدرجنا ضمنه وحدة الوجود المفترى عليها يكشف عن وحدة وجود عالمة ليست بعقيدة تنضاف إلى العقائد الأخرى عند الشيخ الأكبر،وهو تقاطب يكشف عن لعبة الظهور والحجاب،والحضور والغياب كعلاقة تجعل من الوجود عتبة تجد فيها الموجودات أعيانها المختلفة.تقوم الأسماء الإلهية بعرضها الذاتي انطلاقا من الفعل الذي يخصها وهو قابليتها للإبصار أو للنور.وليس في أن تكون منفصلة عن العالم .وينتج عن هذا الفهم أن لا يكون فهمنا للعالم أمرا يتعلق بالوعي والمعرفة،وإنما أن يحصل لدينا الوعي الأنطلوجي والفهم الفينومينولوجي بأن العرض الذاتي يحمل معه أستارا وحجبا وهي تعرض نفسها للإبصار،وبالتالي إمكانية أن تغيب حقيقة الأشياء عن وعينا العادي.ومن هنا الحديث عن الغطاء الذي ينكشف باستمرار نظرا للخلق الجديد وهكذا فإن العمل الفينومينولوجي هو ذاك الذي يسعى إلى الكشف عن المحجوب،عن الحقيقة التي هي نفسها انكشاف أنه يعتبر ما يظهر أثرا لغياب.ولذلك فإن ما يقوم في المشار إليه هو بمثابة وجود مغلف ومغطى ،يغطي غيابا يعشق الظهور.إن مختلف أشكال الغطاء هي التي تشكل تيمة فينومينولوجيا الغياب.والغياب المقصود هنا هو ظاهرية الظاهرة وعالمية العالم ووجود الموجود وإنسانية الإنسان،وأيضا إنسانية العالم وعالمية الإنسان إذ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملأ العالم.غير أن هذا الغياب لا نعلمه نظرا لشدة ظهوره ونظرا لكونه هو الأقرب إلينا إنه أقرب إلينا من حبل الوريد
وعلى العموم فإن الكتابة الأكبرية كتابة معانقة للوجود بالتجربة الروحية التي تمنح لتجربة الكتابة مشروعيتها،كتابة هي أثر لأثر.إنها أثر يسجل أثر الأسماء الإلهية في الأشياء،ويسجل وعي الممكنات بوجودها عندما خرجت من صمت العدم إلى صخب الوجود.كما أن فكره هو فكر للسفر،إذ الكتابة سفر وكذلك القراءة والتأويل.إنه فكر مسافر لا يتوقف عن طلب المزيد من العلم والحيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.