لمقاربة الموضوع، يتعين علينا أن نقف عند مختلف الروابط الممكنة بين الشعر والفلسفة والبدء بالوقوف على فعاليتين بشريتين تنتميان، معا، إلى ما يسميه القدماء النفس، هما الخيال والعقل، لكونهما مصدرا هذين الخطابين، مع إشارة إلى أن البراديغم اليوناني والبراديغم الوسطوي كانا يؤسسان معا لعلاقة غير ندية بينهما، إذ كان العقل دوما يتّهم الخيال، وأسس ل«ترسيم» الاتهام مبادئ تحمي الطابع العقلي للحقيقة، وهي الهوية والثالث المرفوع وعدم التناقض، وأسّس معايير مضبوطة لعملية إنتاج القول الحقيقي، وهي معايير البرهان. وحتى لا يسمح بأي إمكانية لتسرب الخيالي والحسي لعملية إنتاج الخطاب، عمل على صورنة، من الصورية، كل أنواع الاستدلال البرهاني، مع ما رافق هذه العملية الأخيرة من مشكلات ما تزال قائمة إلى الآن، حتى لا «يندس» وراء اللغة الطبيعية متعلقات تُذهِب عن الخطاب برهانيته وتحوله إلى قول دون مرتبة اليقين، كالجدل. فأرسطو لم يكتف بأنْ وضع أسس العقل، ومن خلاله الحقيقة الفلسفية، بل أيضا وضع أسسا لنقائض العقل، حتى يتميز عنها ويضمن طبيعته الثابتة والواحد والأزلية، فوزع هذه المهمة على ثلاثة مباحث، لكل منها منهجها الخاص تبعا لطبيعة موضوعها، هي مبحث الطبيعيات، مبحث ما وراء الطبيعيات وأخيرا مبحث الرياضيات. وتبعا لهذا التقسيم، أدخل النظر في العلاقة بين العقل والخيال ضمن مبحث الطبيعيات، وتحديدا مبحث النفس، وجعل الخيال كمالا أول للحيوان وجعل العقل، أو ما يسميه «القوة النطقية»، كمالا أول للإنسان، فالخيال يربطه بالحس والانطباعات الحسية، لكونه نتاجا طبيعيا للحواس، بينما العقل يرتبط بالمجرد والحقيقي، الأول غايته الفعل والثاني غايته الحقيقة، ويترتب على هذا الفصل ترتيب في الأفضلية الأنطولوجية، فالعقل أفضل، لذلك كان الإنسان أفضل، والخيال أرذل، لذلك كان الحيوان أرذل.. ويترتب على هذا الترتيب ترتيب آخر على مستوى أنواع الخطاب، فكان القياس أولا والشعر أخيرا، وبينهما كل أنواع الاستدلالات الأخرى، هي البرهان والخطابة والجدل والسفسطة. وقد عمل أرسطو جاهدا لتخصيص قول مفصل لكل نوع على حدة، وما يثير الانتباه هو حرصه على أن يُبيّن إمكانات المعقولية في الاستدلالات التي تلي القياس في الترتيب. موقف أرسطو من الخيال جعله يساوي بين موقفه من الشعر وموقفه من التاريخ، لأن الشعر بالنسبة إليه هو لغة المؤرخين، وما يجمع الشعر والتاريخ هو المحاكاة، الأمر الذي يرِد عند هيرودوت بقوة ووضوح، الأول مغالط والثاني متعلق بالجزئي والزمني، في حين أنه «لا علم إلا بالكلي». ولم تخرج الفلسفة المشائية عن هذا النسق، وما يضيفه ابن رشد مثلا هو جعل الخيال قوة نفسية خاصة بالحيوان وعامة الناس أيضا، لذلك فقد خصّهم بالشريعة، لكون أقوالها ظنية وجدلية وخطابية، وامتلاكهم قوة الخيال يؤهلهم للانفعال بصورها، والتي هي مثالات للحقيقة البرهانية، ثم جعل القوة النطقية مجسدة في خاصة الناس من الحكماء، وحرص هو أيضا، على غرار «المعلم الأول»، على إبقاء الحدود صارمة بين الخيال والعقل، الفلسفة والشعر، العامة والخاصة، بل واستعان بآلية التفكير لتحقيق ذلك، فكفّر العامة الذين يتطاولون على الحكمة، بحجة الردة، وكفّر الخاصة الذين يفشون حقائق العقل لمن هم غير مؤهلين بالفطرة لذلك، بحجة «الدعوة إلى الكفر»، أما أقواله في أصناف الخطاب فلم يخرج فيها عن النسق اليوناني. فإذا كنا اليوم نؤمن باضمحلال الحدود بين الخيالي والعقلي، الشعري والفلسفي، البرهاني والحجاجي، الروحي والجسدي، الفردي والنوعي، وكنا أيضا، ونحن نتتبع مفهوم الشعر ومختلف لواحقه، على بيّنة بحجم الانقلاب الذي أحدثته فلسفة اليوم في أهمية هذا المفهوم، فإن هذا الانقلاب لم يكن عملا فجائيا مقطوع الأواصر عما سبقه، بل هو نتاج عمل مفاهيمي لقرون طويلة. فإذا كان مفهوم الدازاين الهيدغري قد استطاع خلخلة بداهات النسق الحديث بالعودة إلى «صباح» الفكر الإنساني في أصالته قبل «الانحراف الأفلاطوني»، فإننا نتساءل لماذا لم تحدث تصورات هيراقليط وبارمنيد وغيرهما من الحكماء الأوائل الخلخلة ذاتها في النسق اليوناني؟ إننا لا يمكن فهم البراديغم الذي أنتج فيه هيدغر قوله في أهمية الشعر، وأيضا اهتمامه، أو احتفاؤه، بالشعراء جورج تراكل وهولدرلين وغيرهما، دون فهم النظرية اليونانية في المرحلة الأولى، ثم رومانسية القرن التاسع عشر في ألمانيا، وهذا التصور نجده في مقاربة هايدغر نفسه للموضوع، فهو حينما يطرح السؤال عن أصل الشعر، فإنه يطرحه مستبعدا الإجابات التقليدية والتأملات العقيمة فى التفكير، والتي كانت تدور حول عبقرية الشاعر والإلهام، ويُعلّمنا ألا نفكر بهذه المصطلحات، وأن نفكر في الشعر بدلاً من ذلك، بوصفه أصلاً يعلن ويحفظ الحقيقة الماهوية لحقبة تاريخية، ولهذا اتجه هايدغر مباشرة لدراسة العمل الشعري باعتباره ظاهرة معاشة باحثاً عن أصله.