مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    جماعة طنجة تصادق على ميزانية 2025 بقيمة تفوق 1،16 مليار درهم    المغرب يعتبر نفسه غير معني بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري        إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    أساتذة كليات الطب: تقليص مدة التكوين لا يبرر المقاطعة و الطلبة مدعوون لمراجعة موقفهم    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    وزير خارجية إسبانيا يجدد دعم سيادة المغرب على صحرائه بعد قرار محكمة العدل الأوربية    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    ابتدائية تطوان تصدر حكمها في حق مواطنة جزائرية حرضت على الهجرة    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تطور مفهوم المدينة ومساهمته في الممارسة السياسية عند العرب
المدينة محور علم الأخلاق والسياسة
نشر في المساء يوم 19 - 03 - 2011

المدينة والمدنية والتمدن مداخل مقولية للحديث عن الحضارات، في تكاملها وحواراتها وصراعاتها، حتى إن معاجم اللغة العربية، على اختلاف مناهجها، تجعل الحضارة ومشتقاتها
من حضر وتحضر وحواضر بمثابة مرادفات للمقولات الأولى، تلزم عنها لزوم تصور وتصديق بلغة الأقدمين، حيث يقال: زيد من أهل الحاضرة وعمر من أهل البادية، فيلزم عنه أن يكون زيد حضريا متمدنا ويكون عمر بدَويا غير متمدن، مع نسبة الرقة واللين ومقتضياتهما، من فنون وآداب المأكل والملبس والحديث والمؤانسة إلى الأول، ونسبة الغِلظة والخشونة ومقتضياتهما إلى الثاني... هذا على مستوى التصور، أما على مستوى التصديق، فإن المدينة والحضارة ومشتقاتهما يتم اعتمادهما من طرف علماء الاجتماع والشرع، القدماء منهم والمحدثين، كآليات في فهم سلوك البشر وترتيبه حسب ما تقتضيه قواعد العيش المشترك والاجتماع البشري، ومن ثمة الاعتماد على هذين المفهومين في بناء الاستدلالات على جملة قضايا وأطروحات تنتمي إلى مجالات السياسة والرياسة والمجتمع والثقافة والشرع والأدب وغيرها، وهذا ما نجده عند ابن خلدون قديما ونجده عند أرنولد توينبي حديثا، فالأول ينفي عن العرب علمهم بأمور السياسة، بالنظر إلى طبعهم البدوي، والثاني يربط وجود الحضارة بوجود المدينة كتجمع سكاني منظم، لذلك فقد لزم عند الأول أن المُلك عند العرب مبني على العصبية، وعند الثاني على إقصاء كل الأجناس والأعراق التي لم تبن مدينة. (عن موسوعة «تاريخ البشرية»)...
فككت المدينة مجتمع القبيلة وحررت الإنسان من الوصاية الثقيلة للعشيرة والعائلة وجعلت منه كائنا فرديا ومستقلا، وفي نفس الوقت، مسؤولا عن احترام فردية واستقلالية غيره، من هنا كانت المدينة هي القانون والأخلاق والسياسة والسلطة... ثم الدستور والسيادة.
في مغرب اليوم، هناك ظواهر كثيرة تستلزم إعادة تعريف المدينة، ومن ثمة إعادة تعريف التمدن والمدنية والإنسان المتمدن، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة والمجال، وهي ظواهر تبرز أن المدينة عندنا قرية منتفخة وأن البداوة متأصلة في كل ركن في شخصياتنا، فعندما نعاين الدار البيضاء وفاس ومراكش مثلا، وهي الحواضر الكبرى التي ارتبطت في ماضينا وحاضرنا بالتمدن والتحضر، نجد استمرار تواجد من يمارسون «الفروسية» بسياراتهم ودرجاتهم النارية، تماما كما كان يفعل أجدادهم بالخيول، واستمرار تواجد بعض ممن لا يجدون حرجا في التبول على أرصفة الطرقات والحدائق، تماما كما يفعل البدو في الخلاء، واستمرار من يخربون الممتلكات العامة والخاصة، عقب كل مباراة، ومن يحتقرون باسم التمدن مواطنين يتحدرون من مدن صغيرة، ونجد من يجبر الحي الذي يقطن فيه والأحياء المجاورة على «السهر» فقط لأنه يحتفل بعرسه... إلى غير ذلك من السلوكات، التي نكون معها مجبرين على طرح إشكالات ترتبط بالمدينة والمدنية، كإشكالات الحق والواجب والغير والقانون... فنتساءل: هل نملك فعلا حواضر ومدنا يقطنها متمدنون؟ أم إن هذه الكتل الإسمنتية المسماة -مجازا- «مدينة» لم تغير من طابعنا البدوي شيئا؟


لم تكن للمدن والحواضر في التاريخ معان اجتماعية ومجالية ومعمارية فقط، بل كانت لها أيضا معان سياسية وأخلاقية، حيث كان الصراع على السلطة دوما ما يتمحور في المدن والحواضر، فعندما سقطت مراكش في يد الموحدين وسقطت بغداد في يد المغول وسقطت روما في يد سبارتاكوس، كانت نهاية تاريخ ما وبداية آخر، والأمر نفسه في 2003، فسقوط بغداد في يد الأمريكان هو نهاية نظام صدام حسين، فالتاريخ يكتب ويصنع دوما في الحواضر والمدن، والدلالة السياسية ذاتها في حديثنا عن الحضارة العربية الإسلامية، عندما ارتبطت الخلافة ببغداد ودمشق، لتنتقل بعد ذلك إلى إسطنبول، فسقوط المدينة في يد المعارضين أو الأعداء كان يعني النهاية دوما، لذلك نفهم لماذا يحرص السلاطين في العالم الإسلامي على حماية عاصمة حكمهم بكل ما أتيح لهم من وسائل الدفاع، فليس مجانا أن للشطرنج أصولا عربية، حسب بعض الروايات، وأن السلاطين والخلفاء العرب كانوا يتعلمونه ويعلمونه ويحثون على ممارسته، فهو يقتضي تفكيرا إستراتيجيا يفرض حماية «القلعة» ومن ثمة المُلك، على أن يتم توظيف باقي عناصر القطعة لتحقيق هذا الأمر، مع إشارة هي أنه في الغرب أيضا، يسمى ملك الشطرنج «الشاه»، لأن العلاقة بين السياسة وتدبير الدفاعات وترتيب الموجودات في المدينة والرياسة أشياء مترابطة، لكونها تحيل كلها على المدينة.
يعلمنا الفكر البشري ترابط الفكر السياسي بالفكر الأخلاقي وترابط هذين النسقين بالمدينة، فلا حديث عن فكر سياسي إلا حين تكون هناك سياسة ولا حديث عن هذه إلا حينما تكون هنالك حياة سياسية، والأمر نفسه في الأخلاق، فاشتراط الغيرية في الفعل الأخلاقي تفترض تعايشا ومعايشة إزاء ذوات تقاسمنا المكان وأشياء المكان، لذلك ففي تأريخ الفكر السياسي يرتبط التحقيب دوما بالمدن وترتبط المدن بالحضارات، فنقول «الفكر السياسي اليوناني»، لأنه انبثق عن حضارة شهدتها اليونان، وتحديدا «أثينا»، والأمر نفسه في الفكر السياسي الروماني والحضارة الرومانية و«روما»، والفكر السياسي الإسلامي، حيث بدأ تأسيس الشكل الأول للدولة في المدينة المنورة، ليأخذ أبعادا حضارية استوعبت خصائص حضارات أخرى، وخاصة الفارسية، ولكنها ارتبطت هي أيضا بعاصمة، فالدولة العباسية، مثلا، ارتبطت ببغداد، وهي التي شهدت أزهى فترات الحضارة العربية الإسلامية.
وما زالت العلاقة نفسها قائمة في العصر الحديث، فالفكر السياسي لم يبدأ حقيقة، وبشكل جديد بهذا الاسم، إلا في إطار المدينة الدولة (le cité Etat) في اليونان القديم، وهو إطار ضيق، لكنه ملائم بشكل فريد لتطبيق «الملكة العقلانية» على قضايا السلطة، وبالتالي السياسة، وعلى الممارسة الحرة لهذه الملكة في ميدان محظور تقريباً في أي مكان آخر في ما بعد، استمر هذا الفكر ضمن الإطار الشاسع للإمبراطوريات ذات النزعة العالمية، وهي إمبراطوريات كان عليها، من الإسكندر إلى قسطنطين، الذي التقى بالمسيحية، ثم لتدع المجال لتلك المجتمعات القومية الخاصة المسماة الدول الأمم (Etat- Nation) أو الأمم -الدول (Nations- Etats) المتعطشة إلى السيادة.
حينذاك، وضمن هذا الإطار الجديد، النهائي ظاهرياً، بدأ الفكر السياسي يتأسس وينتشر، بغزارة وقوة متجددتين، وأخذ يتنوع ويغتني باستمرار وراح يلهم أعمالاً جديرة بأن تحتل في الأدب السياسي العالمي مكاناً من الدرجة الأولى، كما هو الحال في العصور القديمة، بالنسبة إلى أعمال أفلاطون وأرسطو، أمثال مكيافللي وبودان وهوبس ولوك ومنتسكيو وروسو.
المدينة محركة للتاريخ
مما لا شك فيه أن أصول الفكر السياسي قد ارتبطت تاريخياً بعقلانية الفكر اليوناني، فقد استبدل اليونانيون إلقاء أنفسهم في دائرة الأسطورة باتخاذ مواقع في مملكة الفكر والجدل مراتبهما، فسعوا إلى إدراك الطبيعة والإنسان والنفس على ضوء العقل ومقولاته وما أنتجوه من فلسفة ومنطق وفكر سياسي وأخلاقي ما يزال تحديا كبيرا أمام كل الإنسانية وليس تراثا خلفها، هكذا تحدّث ألكسندر كويري في كتابه «مدخل لقراءة أفلاطون»، فقد كانت المدينة في نظرهم الوحدة المثالية للحياة الاجتماعية والتجمّع الأمثل للكائنات البشرية، وهنا بدأت تباشير الدولة الحديثة، وهنا أيضا كانت بواكير المدينة -الدولة أو الدولة -المدينة، الذي اصطُنع في عصرنا الحديث، رغم اختلاف الوسائل التقنية للإنتاج أو القتل، وفي حجم المجتمعات والمعتقدات الدينية، فمشكلة السلطة، كما يراها ريمون أرون في كتابه «أبعاد الوعي التاريخي»، خالدة، سواء حُرثت الأرض بالمعول أو بالجرافة... فقد كانت المدينة أو الدولة صغيرة المساحة وهذا الإطار الضيق لم يكن يسهّل قوة وألفة الحياة المشتركة أو انسجام الغايات الأخلاقية، وإنما كان يضمن للمواطنين وضعا قانونيا مناقضا لوضع رعايا الإمبراطوريات الشرقية ذات المساحات الشاسعة، فالمدينة، بتفكيكها للمجتمع القبلي، كانت هي من حرّرتهم من الوصاية الثقيلة للعشيرة والعائلة، وجعلت منهم كائنات فردية ومستقلة مسؤولة عن استقلالية الذوات التي تتعايش معها.
يُبيّن التاريخ لنا أن أغلبية المدن الكبرى في العالم، عبر التاريخ، قامت، بالتتابع، بتجربة كل أشكال الحكم: من الملكية إلى الارستقراطية، ثم إلى الطغيان وأخيرا إلى الديمقراطية، وكأن مبدأ منطقيا للتطور كان يقودها في اتجاه محدد ومتشابه، فالبارحة روما وباريس، واليوم القاهرة ووتونس وطرابلس -الغرب، فهذه الظاهرة ما تزال تقدم مادة غزيرة للتفكير النقدي، لكون قدَر المدينة -مهما كان مكانها وتاريخها وأجناس مواطنيها ومذاهبهم- هو أن تعيش الديمقراطية وتعيد إنتاج أثينا العظيمة...
إن الفكر السياسي اليوناني، وبعده الحديث، بظهوره ونشاطه ضمن إطار المدينة -الدولة، كان يتميز باهتمام مزدوج، فالاهتمام الأخلاقي والاهتمام العملي مرتبطَان ببعضهما بشكل وثيق، حيث كان المفكرون والمشرعون والساسة يتصورون المدينة باعتبارها تجمعا أخلاقيا للعيش المشترك، وفق قواعد الخير ومن أجله، وكانت المدينة تسعى إلى هدف أخلاقي وتبيّن طريق الوصول إليه، كما كانت تحدد الوسائل والغايات، فإذا كان من الضروري التوصل إلى الحقيقة أو إلى المعرفة أو العلم، فهذا لا يكفي، فعلى الحقيقة أن تتحول إلى عمل ويمكننا تشبيه ذلك بممارسة الطب وعلم الطب كل يستهدف عملاً خيّرا للإنسان حول الإنسان، فممارسته ذات معايير وقواعد، ومن هنا يفهم لماذا كان البعض من بين أكبر المفكرين اليونانيين يتوق إلى دور المشرع والمصلح وطبيب الجسم السياسي، ولماذا كان أفلاطون يحلم بإعادة صياغة المدينة، وفقاً لنموذجه الفلسفي المثالي.
الأمر نفسه عند الفيلسوف الفارابي، فإذا عدنا إلى كتاب الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي «الفلسفة السياسية عند الفارابي»، سنجد أن هذا الفيلسوف المسلم قد أعطى لفلسفته طابعا سياسيا خاصا، حتى إنه ليتعذر فهم هذه الفلسفة دون دراستها على ضوء نزعتها السياسية الخاصة، وكأن هذه النزعة المسيطرة على فكر الفارابي وتوجهه تخضع القضايا الفلسفية الأخرى لها، بل إن الغرض الذي يحرك فلسفته كلها غرض سياسي ولا يمكن، بالنتيجة، فهم هذه الفلسفة ما لم يُنظر إليها من الناحية السياسية، فإذا نظرنا في العلم المدني عند الفارابي، وجدناه يعنى بالمبادئ الأولية والنظريات الإلهية التي لها علاقة وثيقة بسعادة الإنسان، والفارابي عندما يدعو كتابه «السياسة المدنية: مبادئ الموجودات»، فكأنه يؤكد نتيجة منطقية لنظرته إلى الإنسان على أنه «حيوان مدني غير قادر على تحقيق كماله وسعادته إلا في المدينة وبالسياسة المدنية الفاضلة»... لذلك فكل ما له علاقة أو اتصال بكمال الإنسان وسعادته، ومن ضمنه العلم الإلهي ومبادئ الموجودات، يخضع للعلم المدني.
عاش الفارابي حقبة من العصر العباسي، الذي شهد تصدعا وتفككا سياسيا واجتماعيا ومذهبيا، فنذر نفسه وقضيته الأساسية لإعادة الوحدة إلى الفكر والمجتمع معا وإعادة الوحدة إلى الفكر، بتجاوز الخطاب الكلامي السجالي، الذي تفشى في المدن الجاهلة التي لا مراتب فيها ولا نظام، وفسدت فيها الملة الفاضلة إلى أن غدت ملة غير فاضلة، ولإعادة بناء العقل الكوني والنظر البرهاني وإعادة بناء لُحمة المجتمع ووحدته، فكأنه أراد بناء المشروع الفلسفي الذي من شأنه أن يعيد توحيد السلطة ولمّ الشتات، لإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، وتجاوز الملة الجاهلية في الزمان الحاضر، عن طريق الفلسفة التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملة الفاضلة وتخلصها من الأمراض التي تصيب المدن الفاضلة، من الأفعال والملكات، التي في المدن غير الفاضلة، وإعادة تأسيس العقل في المدينة.
ولم يكن انصراف الفارابي إلى المنطق، من جهة، وإلى الفلسفة السياسية، من جهة أخرى، وإلى الأخلاق العملية من جهة ثالثة، إلا تتويجاً لصورة انعكاس الواقع الاجتماعي والسياسي في عقله، فأراد أن يعيد تأسيس المدينة على نحو جديد، من هنا نفهم معاني مدينته «الفاضلة» التي أسس لها ومضاداتها من المدن «غير الفاضلة»، عبر بحثه في الأسباب والجهات التي لا يؤمن معها أن تستحيل الرياسات الفاضلة وسنن المدن الفاضلة إلى السنن والملكات الجاهلية، والتدابير التي يجب اتخاذها في حالة لم تُعَدّ المدن الفاضلة فاضلة، أي تحولت إلى مدينة جاهلية من أجل عودتها إلى حالة الفضيلة، من خلال العلوم النظرية والعملية والقوة الحاصلة عن التجربة. (انظر في هذا الصدد كتابيه «تحصيل السعادة» و»آراء أهل المدينة الفاضلة»).
المدينة والفكر الديمقراطي
رغم القوة والانسجام اللذين تحظى بهما الفلسفة السياسية عند الفارابي، فإن وضع الإمام والحكيم والمشرع في بنيان مدينته، يرجع بالكامل، كما يعرف أهل الاختصاص، إلى النسق الأفلاطوني والأفلوطيني، لكن السؤال الذي يطرحه كل المشتغلين في الفلسفة الإسلامية واليونانية هو: لماذا لم يقرأ الفلاسفة المسلمون كتاب «السياسة» لأرسطو؟ فهل لأنه لم يترجم؟ لماذا حرص ابن رشد على أرسطيته، بل ودفع بالأرسطية إلى أن تتخذ أبعادا لم يفكر فيها أرسطو ذاته، لكن عندما تعلق الأمر بالسياسة، فإنه أغلق نسقه الفلسفي المشائي، بشرح كتاب لأفلاطون؟ أي لماذا كان ابن رشد أرسطيا في كل الموضوعات إلا في السياسة فقد كان أفلاطونيا؟!...
تصعب الإجابة بتقريرية عن هذه الأسئلة، ولكن من يقرأ هذا الكتاب العظيم، والذي هو «السياسة» لأرسطو، والذي نجد فيه تصورات ومفاهيم ما تزال حاضرة إلى اليوم في الفكر السياسي والأخلاقي والقانوني الحديث، سيتساءل، مثلا، ماذا لو دخل مفهوم «المواطن»، الذي تكلم عنه أرسطو بإسهاب في الكتاب، إلى الفكر السياسي الإسلامي؟ ماذا لو دخل مفهوم الديموقراطية، بدل مفاهيم الآداب السلطانية؟ ماذا لو تعرف العرب على مفهوم الدستور؟ هذه أسئلة محيرة ولكنها مغرية، تغري الباحث عن الحلم والتخيل، لكون هذا الامتناع عن الانفتاح على مفاهيم أرسطو في السياسة هو أحد أوجه امتناع دخول مفاهيم الحداثة السياسية إلى البلدان العربية.
تحتل المدينة الأرسطية الصدارة في النظام السياسي، فقوانينها تعمل لفائدة الأكثرية وليست مضرة للأقلية، كما كان عليه الحال في الأمم القديمة، وهذه القوانين تستمد مشروعيتها من نظام اسمه الديمقراطية، والذي يرتكز على قيم التعايش والمساواة والحرية، هذه الحرية التي قامت على تغييب الإكراه والتعصب بصورة عامة حياتيا، وعلى قبول مشاركة كل مواطن في حكم المدينة بصورة خاصة سياسياً، فهذه الحرية كانت تمارس ضمن حدود الاحترام الواجب للحكام والقوانين، لاسيما تلك التي تؤمّن الدفاع عن المضطهدين، والتي تلحق احتقارا كليا بمن يخترقها، ومن هذا الخضم، انبثقت اهتمامات غير تلك المتعلقة بشكل الحكم، إنها من نوع فلسفي أكثر لا ينفصل عن عمل سابق طويل ومعقد للفكر البحت. إن الأمر يتعلق، الآن، بجوهر المدينة -الدولة وطبيعتها ومبرر وجودها كتجمع بشري، وهذا ما أدى إلى طرح مسألة سلوك الأفراد إزاءها.
صحيح أن أفلاطون قد حمله الميل الطبيعي إلى المشاركة في الشؤون العامة، إلا أن أرسطو قد اعتبر الجماعة السياسية أو المدينة تتويجا طبيعيا وضروريا لنمو تدريجي تعتبر كل مرحلة من مراحله في حد ذاتها طبيعية وضرورية، فهي ليست -كما يعتبرها أيضاً- ثمرة الحيلة ونتاج الاتفاق الاعتباطي، فبعد الأسرة، الجماعة الأولى التي كونتها الطبيعة من أجل إشباع الحاجات اليومية، ظهرت القرية، وهي جماعة مشكلة من عدة أسر، وأخيرا ظهرت الجماعة، المشكّلة من عدة قرى، وهي المدينة، فهي المجتمع الكامل، وهي الوحيدة التي يمكن أن تكون كذلك، وفيها يجد الأفراد ملكات جديدة، حياة جديدة، وفي نفس الوقت هوية جديدة، هوية كمواطنين، وإن هذا الانتماء هو الغاية الطبيعية للنمو الفردي، فهو يعطي الإنسان معناه الحقيقي ويسمح له بتحقيق طبيعته الحقيقية
إن الإنسان، من حيث ماهيته، كائن خلق لكي لا يعيش بشكل كامل ولا يتفتح بشكل كامل إلا في المدينة. تُبيّن هذه الاعتبارات، إذن، أن المدينة تدخل في عداد الوقائع التي توجد بشكل طبيعي وأن الإنسان، بحكم الطبيعة، «حيوان سياسي»... إن هذا يعني القول إن السياسة وعلم الأخلاق لا يشكلان مبدئياً في نظره -كما هو الحال بالنسبة إلى أفلاطون- علمين منفصلين. فإذا كان الخير الأعظم للمدينة والخير الأعظم للفرد يشكلان، لسبب منهجي، موضوعاً لدراسات منفصلة، فإنهما ليسا أقل تضامناً مع بعضهما بشكل حميم. إن المدينة جهاز، لكنها جهاز أخلاقي، ولهذا فإنه مزود بضمير، إن ضميره وأخلاقياته لا يمكن أن توجد إلا لدى أعضائه، الذين تتطابق غاياتهم مع غاياته، ففيهم تجرب المدينة هذه المشاعر أو تلك، فتوافق عليها أو ترفضها. إن السياسة علم أخلاق عالية، أخلاق «سيّدة»...
كما طرح أرسطو، في تأملات تمهيدية لبحث حول الدستور المثالي، سؤالين مرتبطين بشكل وثيق بهذه الصلة بين السياسة وعلم الأخلاق، يتصل الأول بطريقة الحياة المرغوب فيها أكثر بالنسبة إلى الفرد، والثاني بالغاية العليا لنشاط الدولة، حيث يؤكد أرسطو في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس» أن الدستور المثالي هو الدستور الذي يؤمّن للمواطن طريقة الحياة المرغوب فيها أكثر، أما عن الغاية العليا لنشاط الدولة فيقول إن واجب المشرّع الحكيم هو التأمل مليا، سواء تعلق الأمر بالمدينة أم بأسرة أم بشعوب أم بأي جماعة أخرى، في كيفية تحقيق مشاركتها في حياة طيبة وفي السعادة التي بإمكانها بلوغها، إن من واجبه، في حالة ما إذا كان هناك جيران لها، أن يرى أنواع النشاطات التي يجب القيام بها، على ضوء طباعها المختلفة.
المدينة وسؤال الأخلاق
في المغرب، غالبا ما ترتبط المدينة بقيم الفردانية والجشع وبالمظاهر المادية، مع أن قيم التعايش واحترام كرامة الغير واحترام الفكر والثقافة هي نتاجات طبيعية للمدنية والتمدن، وهذا ما يفرض -في اعتقادي- دوما الارتباط بأرسطو، فإذا ما أردنا أن نحدد أولى الأسس الأخلاقية والسياسية للمدينة، فإن الجواب الشافي سيكون عنده حيث يقول: «نعم، إن غاية المدينة هي، بالتأكيد، أن تحول تعددية الأفراد والتجمعات إلى وحدة وتجعل منهم جماعة أو تجمعا كاملا، إلا أنها لا تمتلك قط، بالطبيعة، الوحدة المطلقة التي نسبها أفلاطون وآخرون إليها، أي مطلقة، كما هي مشاعية الملكيات والنساء والأطفال. إن أفلاطون ينسى أن هناك في الإنسان دافعين يسيطر عليهما الاهتمام والحب، وهما: شعور الملكية والمحبة المقتصرة على النفس، إن كل فرد يهتم بقوة بما هو له، وقليلاً جداً بما هو للجميع. فأي تشجيع يقدم لعدم الاكتراث أكثر من التفكير في أنه سيكون هناك دائماً شخص آخر للاهتمام بكائن أو بشيء ما! إن كل الآباء، في نظام «الجمهورية»، سينظرون إلى كل الأطفال بلا مبالاة متساوية ولن يكون لدى أي شخص اللذة في أن يُظهر نفسه كإنسان ممتع ومسعف للآخرين بفضل الأموال التي يمتلكها»...
هكذا، فالمدينة لا تتألف فقط من عدد كبير من الأفراد، وإنما أيضاً من عناصر متمايزة نوعياً، وهذا التمايز هو الذي يسمح بقيام تبادلات من كل نوع بين هذه العناصر، تبادلات يتغذى بها الكل الاجتماعي ويتقوى. إن الخير الأكبر للمدينة يكمن في هذا التمايز وليس فقط في ما يجعلها «واحدة»، بصفة مطلقة ومفرطة. إن مثل هذه الوحدة، التي تلغي الاختلافات، بدل التوفيق بينها، تصبح ناراً مهلكة ومدمرة. يقول أرسطو في كتابه «السياسة»: «يجب، بالتأكيد، وبمعنى ما، أن تشكل الأسرة وحدة والمدينة أيضا، لكن هذه الوحدة لا يجب أن تكون مطلقة، لأن هناك في السير نحو وحدة نقطةً إذا تمّ عبورها فإنه لن يكون هناك مدينة، أو أنه إذا تم تجاوزها فإن المدينة، وان استمرت في الوجود، ستجد نفسها قاب قوسين أو أدنى من زوالها، وستصبح جماعة سياسية من نوع أدنى»... بالضبط كما لو أردنا أن نجعل من سيمفونية نغماً واحداً أو أن نختصر السلم الإيقاعي في حركة واحدة. لقد كان أرسطو، إذن، يدعو إلى وحدة حقيقية بدل الوحدة المزيفة، وقد رأى مصدر هذه الوحدة، الداخلية قبل كل شيء، في العدالة والصداقة، اللتين يجب أن تسودا بين أعضاء المدينة. وقد ميّز بين عدالة تامة وعدالة خاصة، فالعدالة التامة هي الفضيلة الكاملة أو مجموع الفضائل أو كل الفضائل مجموعة في واحدة، ولكن شريطة أن يكون المقصود هو الفضيلة العاملة لمصلحة الغير، فالذي يمتلكها لا يقصر ممارستها على شؤونه الخاصة فقط، وإنما يشعر بأنه ملزم بانجاز أعمال مفيدة للآخرين، سواء كانوا حكاما أو مجرد أعضاء في المدينة.
إن الصلة بديهية مع المفهوم الأخلاقي للمدينة، باعتبارها جماعة أخلاقية غايتها الحياة الطيبة والخير ويحكمها القانون، الذي هو تعبير عن هذه الغاية: القانون الذي لا يشكل إلا شيئاً واحداً مع الالتزام الأخلاقي، القانون الذي هو القاعدة الأخلاقية للجماعة. بهذا المعنى، يُسمَّى عادلاً مَن يخضع للقانون ويعرَّف العدل بأنه الشيء المتفق مع القانون: أي الشرعية، أما الظلم فهو اللا شرعية. والصداقة ترافق العدالة، فهناك، في كل جماعة، عدالة وفي نفس الوقت، صداقة. إن الفضيلتين، على ما يبدو، تختصان بنفس المواضيع وتتعلقان بنفس الأشخاص. إن الفضيلة تكبر، بالطبيعة، مع الصداقة، ولهذا فإن لهما نفس التوسع. إن أرسطو يضع العدالة، كما يفهمها، في مظاهرها المختلفة، في أساس التجمع السياسي. ولكن حيث تكون العدالة، توجد أيضاً الصداقة. ويذهب الفيلسوف في «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، إلى حد القول إن الناس إذا اتحدوا برباط الصداقة فلن تكون بهم حاجة إلى العدالة، في حين أنهم، لو كانوا عادلين، سيحتاجون، زيادة على ذلك، إلى الصداقة. ويلحّ على قيمة صلة الصداقة في المدينة ويعلن أنها تشد اهتمام المشرعين أكثر من العدالة نفسها، لأن هؤلاء يسعون -جاهدين- إلى جعل الوفاق ينتصر على الخلاف، إلا أن الوفاق يشبه، إلى حدّ ما، الصداقة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.