صدرت عن «جداول للطباعة والنشر والترجمة» ببيروت الترجمة العربية لكتاب الفيلسوف النمساوي يوسف سايفرت: «البرهان الفينومينولوجي الواقعي على وجود الله» في طبعته الثانية المزيدة والمنقحة، المنشورة عام 2000 عن دار النشر الألمانية للمنشورات الجامعية بهيدلبرغ. وتمت الترجمة على يد الباحث المغربي، المقيم بالنسا، د. حميد لشهب. يؤكد المترجم بأن الجناح الجرماني ظل غائبا عن الساحة الثقافية والفكرية والفلسفية في العالم العربي الإسلامي لأسباب تاريخية معروفة على الرغم من الأهمية الكبيرة له. وهذا ما يؤكده الأستاذ محمد سبيلا كذلك:» هناك اليوم ضرورة للإهتمام بالوجه الجرماني للثقافة الغربية لسبب بسيط هو أن الثقافة الجرمانية هي أم الثقافة الغربية في العصر الحديث. فقد خرجت من رحمها كل التيارات الفلسفية والتقنية والعلم إنسانية المنتشرة اليوم في الغرب...». يقول المترجم بأنه من المسلمات الخاطئة التي ورثناها نحن العرب عن العقود السابقة، وزمان الأيديلوجيات والنظريات الفضفاضة، هي كون الفكر الديني، المسيحي منه أو اليهودي، قد عرف تقهقرا واضحا، وقضي عليه إلى غير رجعة على يد الفكر النقدي واستعمال العقل. والحقيقة أن مثل هذه الإدعاءات الرخيسة التي آمنا بها، واعتقدنا بأنها قد تساعدنا على بناء غد قومي أفضل بعلمنة المجتمعات وتنويرها وتحريرها من سلاسل وقيود العادات والتقاليد والشعائر الإيمانية المملوئة بعناصر شتى من الخيال الشعبي والثقافة الشفاهية قد هوت بعد سقوط المعسكر الشرقي، وانحصار ما كنا نسميه الفكر التقدمي في عقر داره. وما كان لهذا العالم الأيديولوجي-الفكري أن يسقط لو لم يكن محاطا بنقيض له. فالفكر النقدي الغربي، بما فيه الفكر الاشتراكي، لم يعر الاهتمام الكافي للرافد الكلاسيكي له، بل اكتفى بنفيه وضحده وفي مرات عديدة بابتزازه واضطهاده. يعتبر يوسف سايفرت من الركائز الأساسية للاتجاه الفينومونولوجي الواقعي حاليا نظرا لغزارة وتنوع المواضيع الفلسفية التي عالجها في هذا الإتجاه. ولد بتاريخ 6 يناير 1945 في مدينة سالتسبورغ النمساوية. تتلمذ على يد هلدبراند، الذي كان بدوره تلميذا لهوسرل، وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه، احترف الفلسفة كأستاذ جامعي في النمسا وأمريكا وإمارة الليكتنشطاين والشيلي، ويشتغل حاليا بجامعة طوليدو الإسبانية. حصل سايفرت سنة 1998 على الميدالية الذهبية الأوروبية للفلسفة، التي يمنحها البرلمان الأوروبي ببروكسيل، اعترافا له بكل ما قدمه للفكر والتأمل الفلسفيين. له مؤلفات ودراسات فلسفية عديدة، تتوزع مجمل كتبه حول الميتافيزيقا والفلسفة النسقية والأخلاق ونظرية المعرفة. كما تتميز طريقة كتابته بالعمق والتحليل الدقيق و سعة الخيال الفلسفي. يلجأ في أسلوب كتابته إلى الكثير من المجاز والإستعارة والأمثلة وإلى الإسترسال وطول الجمل والفقرات والتكرار المقصود في بعض الأحيان لتدقيق الفهم. يلخص المترجم اختياره لتعريب هذا الكتاب في سببين رئيسيين: يتمثل الأول في اهتمامه الشخصي بموضوع الله من وجهة نظر سيكولوجية وبيداغوجية. فقد شغلته هذه الفكرة لسنوات عديدة وما تزال تشغله. أما السبب الثاني فهو كون هذه الفكرة في نظره هي من الأفكار الرئيسية في حياة العربي والمسلم كيفما كان مستوى تعلمه وانتمائه الطبقي. ذلك أن المرءينلتقي بها في العالم العربي الإسلامي على جميع الأصعدة والمستويات: دين، أخلاق، مجتمع، سياسة إلخ. والملاحظ هو أن فكرة الله قد استغلت عندنا استغلالا بشعا من طرف تنظيمات سياسية بعينها وأحدثت نتائج أغلبيتها سلبية إن على الصعيد الداخلي للأوطان العربية الإسلامية أو على الصعيد الخارجي. وقد وجد الفيلسوف العربي نفسه في مأزق قلة أدوات الإقناع والتفسير، وفي أحسن الأحوال بأدوات إقناع غير كافية وغير مجدية للكف عن استعمال فكرة الله هذا الاستعمال السيىء. فالله الذي رجع ليقلق راحة إنسان هذا القرن مخالف تماما لتلك الفكرة عن الله التي نجدها في الكتب السماوية، لذاك الإلاه الغفور الرحيم. إنه إلاه عنيف وعدواني لا يعرف إلا لغة وحيدة: الحرب الداخلية والحرب الخارجية. وهذا الله لا يقبل لا الحوار ولا التنازلات. يضيف المترجم بأن هذا الكتاب يمثل ما يسميه شخصيا بفلسفة الأمل. هذه الفلسفة التي تقترح نظرة مغايرة جديدة للعالم ولمصير الانسان المهددان من طرف ألاف التحديات التقنولوجية، والأخلاقية والكوارث الطبيعية التي تضرب بشكل منتظم كوكبنا. إن هذا الكتاب هو دعوة لإعادة بناء علاقة الانسان المعاصر بعالمه الرمزي، هذا العالم الذي نسي منذ أن «قتل» نيتشه الله على قمة الجبل. يدعو سايفرت من جهة للصلح بين الانسان وبين أعمق مكونات عالمه الرمزي: الله؛ ومن جهة أخرى بين الصلح بين الانسان مع نفسه عن طريق فينومونولوجية نفسية، تحاول أن تفهم عمق إحساساتنا ومعتقداتنا. وعندما يفهم المرء نفسه، فإنه سيكون من السهل عليه أن يتصالح مع الانسان (في المعنى الواسع للكلمة) من أجل إعادة بناء عالم أكثر عدالة، لأن كل ما هو إنساني يحمل في ذاته علامات المقدس. يضم كتاب « البرهان الأنطولوجي على وجود الله» ستة أبواب موزعة على 12 جزءا، علاوة على مقدمة وخاتمة وقائمة للمراجع. يوضح سايفرت في تمهيد كتابه الدوافع الفلسفية التي حدت به إلى تأليف مؤلفه هذا، وما آل إليه البحث في هذا الموضوع ابتداء من «الاعتراضات الكوبيرنيكية» إلى يومنا هذا. وأهم سؤال حاول أن يجيب عنه في هذا الإطار هو:» هل يمكن الدفاع عن براهين وجود الله في عصر «ما بعد الميتافيزيقا ؟» وأهم جواب توصل إليه هو أن ذلك ممكن، وخاصة إذا وظفت مبادىء وأسس وطرق بحث الفينومونولوجيا الواقعية في هذا الميدان. وخصص صفحات بكاملها لكي يعرف بهذا الاتجاه الفلسفي الجديد والأسباب التي أدت إلى ظهوره واختيار موضوعه. خصص بعد ذلك مقدمة طويلة تحدث فيها عن البدايات التاريخية للبرهان الأنطولوجي. وعن أسباب ضرورة إعادة بنائه فينومونولوجيا، مركزافي الباب الأول، المكون من جزئين، على نقطتين أساسيتين: تناول في الأولى منهما البرهان الأنطولوجي في شكله الأنسيليمي والشروط الأربعة لصحته. بينما تناول في النقطة الثانية المجموعة الأولى من الإعتراضات ضد هذا البرهان الذي يتخذ من «الجوهر الإلهي الضروري نقطة بداية له». ويختم هذا الباب بمساهمة كل من دون سكوتوس ولايبنتز فيما يتعلق بالبرهان الأنطولوجي على وجود الله. أما في الباب الثاني، المكون من ثلاثة أجزاء، فإنه يعرض نقط ضعف عرض أنسليم لنقطة منطلقه في برهانه، أي من الجوهر الإلهي الموضوعي، مؤكدا أن نصوصه في هذا الإطار غير واضحة. ويستعرض بعد ذلك تطوير بونأفانتورا لهذا البرهان، قبل أن يعترض على تأويله له. كما أنه يتطرق في الجزء الأخير من هذا الباب إلى التأسيس الديكارتي العميق لهذا البرهان، وكذا القضاء عليه بإقحامه في دائرة مغلقة وتأكيده على خلق «الحقائق الأبدية» من طرف الله. يعتبر الباب الثالث أطول باب في الكتاب، قسمه بدوره إلى أربعة أجزاء: عالج في الأول منها إشكالية ما إذا كان البرهان الأنطولوجي على وجود الله معرفة عقلية لهذا الأخير، أو فقط تأويل للغة وللتجارب الدينية. واستعرض في الجزء الثاني إمكانية التعرف على عدم تناقض الجوهر الإلهي والضرورة المطلقة لهذا الجوهر. وتطرق في هذا الجزء كذلك إلى البرهان الكوسمولوجي-العرضي واعتراض طوماس الأكويني على البرهان الأنطولوجي. وحاول في الجزء الثالث من هذا الباب أن يجيب عن سؤال: «هل من الممكن أن الإنسان هو الذي خلق الله؟». أخيرا، وفي الجزء الرابع، تحدث عن المعرفة الوجودية ومواضيعها وأصنافها وعلاقتها بالبرهان الأنطولوجي و مدى مساهمتها في بناء هذا الأخير. خصص الباب الرابع للحديث عن الوجود الواقعي الضروري كصفة من صفات الجوهر الإلهي، معترضا على الشرط الأساسي الثالث للبرهان الأنسيلمي ومستعرضا كلا من اعتراضات كانط وفيندلي ودفيد هيوم على البرهان الأنطولوجي، لكي ينتهي بضحدها وضحد المقدمات الأولى لما يسمى بالبرهان الأنطولوجي «للإلحاد» التي نجدها عند هيوم، هوسرل و آخرين. يتعرض في الباب الخامس إلى المسار والتطور الذي عرفه تعريف الله من تعريف كلاسيكي إلى تعريف شخصاني. ومن بين أهم نقط هذا الجزء هناك الإعتراض على الشكل الكلاسيكي للبرهان الأنطولوجي عند أنسليم عن طريق لاهوت السيرورة وتعريفها الكلاسيكي الجديد لله إلى جانب أجوبة عن الإعتراضات ضد الفرضية الأساسية الرابعة للبرهان الأنطولوجي وعلى اعتراضات أخرى، منها على وجه الخصوص اعتراضات مالكوم ضد هذا البرهان. أما في الباب السادس والأخير فإنه يتناول إشكالية المنطق والميتافيزيقا في البرهان الأنطولوجي، محاولا تبيان الأسس المنطقية التي انطلق منها هذا الأخير واستعراض مختلف الإتجاهات المنطقية الموجودة، ليخلص إلى كون البرهان الأنطولوجي ليس أساسا مشكلا للمنطقي، بل إنه مشكلا ميتافيزيقا محض.