كل من يعرف موقف أسبينوزا الجبري النافي لحرية الكائن الإنساني، سيستغرب أن يكتب هذا الفيلسوف كتابا في الأخلاق. لأن ثمة مفارقة تثوي داخل موقفه الفلسفي هذا، مفارقة تبدو مدمرة لكل النسق الأخلاقي. إذ من العبث أن يُنَظِّر هذا الفيلسوف للأخلاق، وهو يعتقد أن لا حرية للإنسان. فالأخلاق لا معنى لها إلا بصدور الفعل عن إرادة وحرية. فكيف يؤسس أسبينوزا أخلاقية السلوك الإنساني مع نفيه حرية الإنسان؟ أجيب باختصار: أن يكون الإنسان حرا حسب أسبينوزا هو أن يقبل بصيرورة الضرورة التي تحايث الوجود، وأن يتناغم معها. وتناغمه هذا هو جوهر الفضيلة والخلق. وهذا ما يبسطه في الأجزاء الثلاثة الأخيرة من كتابه. أما في الجزأين الأول والثاني فيبحث وجود الله وطبيعة النفس وأصلها. فأسبينوزا لم يكن ملحدا، لكنه في الوقت ذاته لم يكن مؤمنا وفق مقاييس اللاهوت اليهودي. فموقفه الفلسفي يخلص إلى وحدة الوجود. ويؤسس برهان الوحدة في القضية الـ41 من الجزء الأول على أساس لانهائية الكينونة الإلهية. لكنني أراه رغم وحدته الوجودية يقول بثنائية ضمنية إن لم تكن أصلا ثنائية أنطولوجية كما هو الشأن في الفلسفات المثالية الثنائية، فهي في نظري ثنائية تستثمر مفهومي الجوهر والعرض. حيث إن العالم في نظره فيه جانب فاعل وآخر منفعل. والمنفعل هو هذه الطبيعة الحسية المتغيرة. أما الجانب الفاعل فهو الذي يخلق هذه الأعراض. وهذه القوة الخلاقة هي الجوهر. حيث يعتقد أسبينوزا بوجود قوة خالقة بالضرورة هي الله، كجوهر غير مادي، وعالم أعراض محسوس مخلوق. وهذه هي حقيقة دلالة الثنائية المفاهيمية السبينوزية (الطبيعة الطابعة، والطبيعة المطبوعة). ثم إن كتاب الأخلاق ذو بنية أسلوبية غريبة، حيث كتبه كما يُكتب النسق الهندسي الرياضي. ولذا يعد من أصعب ما أنتجه اليراع الفلسفي. حيث لا سبيل إلى قراءته إلا من بدايته، إذ كل فكرة ترتكز على ما يسبقها، وتؤسس ما يلحقها. ولا مسلك إلى فهم فكرة إلا بفهم ما جاءت مستندة عليه. كما لن تجد في الكتاب سلاسة نثرية تسهب في الإيضاح، إنما هو تكثيف وتركيز على نحو يربك القراءة أحيانا كثيرة.