عاد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان إلى الظهور في الرباط بعد غيبة طويلة، بسبب المرض والوضع الصحي، لكن هذه المرة ليس كفيلسوف بل كمريد من مريدي الشيخ حمزة القادري البودشيشي، شيخ الزاوية البودشيشية، وكداعية للتصوف على طريقة الزاوية التي انتمى إليها منذ وقت طويل. ويتردد بين مريدي الطريقة أن الشيخ حمزة دعا للفيلسوف المغربي، قبل سنوات، بالتوفيق في مسعاه لتجديد الفلسفة الإسلامية على قاعدة العمل الصوفي، وهو ما حصل. طه عبد الرحمان، الذي ألقى محاضرة ليلة أول أمس بالرباط، نظمتها له الزاوية القادرية البودشيشية نفسها، بدا منهكا وظهر عليه تعب السنين ووهج الطلب، وجاء صوته نابعا من الداخل كأنه في صلاة خفية، واستغرق وقتا طويلا في الحديث عن صحبته للشيخ حمزة القادري البودشيشي، وقال إن هذا الأخير أخذ بيده في طريق التصوف والتربية الروحية، وإنه مدين له بالشيء الكثير، ومن دونه كان سيكون مصيره الضياع، مضيفا: «لقد بصرني بالحق الذي يدمغ الباطل، وما أقوله وأكتبه قطرة ارتشفتها من ماء حكمته». وكما بدأ طه عبد الرحمان حديثه بالشيخ حمزة، ختم به محاضرته التي كانت بعنوان «العمل الصوفي وأخلاق الحرية»، إذ قال إن علاقته بالشيخ ليست علاقة عبودية أو تبعية، بل علاقة تربوية، وشبهه بالطبيب والمعلم، وقال إن ذلك «ليس فيه أي منكر»، متمنيا ألا يقبض الله روحه وهو على قطيعة مع شيخه. شكلت محاضرة طه عبد الرحمان محاكمة للفكر الغربي كله، انطلاقا من مبضع صوفي اعتمد عليه لتشريح جثة الإيديولوجيات الغربية كالليبرالية والماركسية والجمهورية. وكما هو منهجه دائما، حيث يعمد إلى استخراج المفاهيم الصوفية من التراث الصوفي ويضعها داخل مربع منطقي ويبدع مصطلحات ومفاهيم جديدة، انتقد مفهوم الحرية لدى الليبراليين والماركسيين والجمهوريين والديمقراطيين، وأجمل تلك المفاهيم على شكل قواعد منطقية: الليبراليون: الحرية هي ألا يتدخل أحد في ما تريد فعله خارج ما سكت عنه القانون، الجمهوريون: الحرية هي ألا يتسلط عليك أحد في فعل ما تريده؛ الاشتراكيون: الحرية هي القدرة على المشاركة في تدبير الشأن العام؛ الديمقراطيون: الحرية هي المشاركة في تدبير الشأن العام. ثم قال إن هذه المفاهيم كلها مختلة لأنها خرقت ثلاثة قوانين: قانون التناسي: من نسي الحق من نفسه أنساه الحق نفسه؛ قانون التأنيس: لا يكون للفرد من الوجود الإنساني إلا على قدر ما يتصف به من أخلاق الفطرة؛ وقانون التناهي: قدرة الإنسان تكون دائما في حالة تعلق بالقدرة الإلهية. ويخلص طه عبد الرحمان إلى أن مفاهيم الحرية تلك غير صحيحة، ثم يضع تعريفا لها، مستمدا من التصوف وخاضعا لتلك القوانين الثلاثة، يقول: الحرية هي أن يتعبدك الحق باختيارك، وألا يستعبدك الخلق في ظاهرك وباطنك. وكداعية إلى التصوف، يشرح الفيلسوف المغربي: العمل الصوفي هدفه تحقيق التحرير الأكمل بأزكى الوسائل وهي الوسائل الإلهية. طه عبد الرحمان دافع عن التصوف واعتبره جزءا مكملا للإسلام، في رده على ما يقوله الإسلاميون من أن الإسلام وحده كاف لتربية الفرد، دون اللجوء إلى طريقة صوفية وإلى شيخ من الشيوخ.. قال إن الإسلام عقيدة وتربية وأحكام. العقيدة يختص بها المتكلمون والتربية يختص بها الصوفية والأحكام يختص بها الفقهاء. أراد الفيلسوف المغربي طي صفحة الخلاف وإنهاء الجدل.