إن الحاجة إلى التفلسف هي الوسيلة الأكثر جوهرية لواقعة الوجود الإنساني، يتعلق الأمر بالاقتراب من الواقعة الإنسانية باعتبارها رغبة قابلة للتحقق «داخل تجربة الحاضر» ومادامت كذلك فهذه الرغبة التي هي المبدأ والغاية في الآن ذاته، هي أساس تشكل الوعي الخاص والوعي الكلي، وإذا كان الوعي الخاص استجابة لانكشاف الفرد، أي باعتبار حاجته لأن يغدو حاضرا في العالم، ومن ثمة تصريف رغبته الخاصة كتمرين روحي على الحياة، أي كتجربة للحاضر بما هي إبداع للحياة تستجيب لرؤيته لوجوده الخاص في العالم قيد التشكل، فإن الوعي الكلي يغدو بمثابة الأفق المشترك للتجارب الغيرية التي تصنع حاضر العالم، (روح العالم)، وتصوغه انطلاقا من رغباتها المتأججة المتآلفة والمتعارضة في الآن ذاته، وتأجج الرغبة هو أساس التاريخ بمعناه الكوني، وليس التاريخ سوى هذا الروح الكوني باعتباره التخارج الدائم، أو البرانية الناتئة التي تنكشف بفعل حركة الطي التي تعبر عن قوى الرغبات الذاتية التي هي وقود حياة العالم، ومن ثمة فبدون رغبة فليس هناك تاريخ، وليس هناك روح أو حاضر للعالم متجليا ومنكشفا كصيرورة إنسانية، وكتعبير خلاق عما يستطيعه الإنسان، منظورا إليه باعتبار ما سيكونه وما سيصيره، وليس باعتبار وجوده الغفل، أو الوجود الكامن الذي لا يخترقه الزمان أي الذي لا يصير في الأفق البراني للوجود غيرية، والغيرية هي النسيج الذي ينبثق عنه التاريخ، أي المستقبل الذي يمنح ويضفي القيمة على الفعل الإنساني، بما هو باعث على خلق ابتكارات الوجود، أي على جعل الحياة في هذا الوجود إبداعية مبتكرة، وهذه الإبداعية هي ما يعبر عنها مفهوم العالم، فالعالم باعتباره منتسبا لي، وليس منتسبا للطبيعة هو خاصيتي الإنسانية، أي هو هذا الابتكار البراني الذي يخترق الطبيعة والوجود الكلي، ومعنى ذلك أن هذا العالم الذي غدا منتسبا لي والمقتطع من سطح وجود لا متناه، هو بذاته وجودي، وبما انه جسدي فإنه على نحو ما هو إشكاليتي الجوهرية التي تقتضي مني إذن أن أستعيدها، وأولد عنها أسئلة جديدة تسمح بإمكانية التفكير في سبل أخرى لإبداع الوجود، وهذا هو جوهر التفلسف الذي يقتضي دوما الحاجة إلى الفلسفة، فتاريخ الفلسفة رهين بسؤال الحاجة إلى الفلسفة ، تاريخ يقتضي الاستمرارية، اكتمال الأنساق وسيرورتها، ولكنه في نفس الآن يستدعي التخلص من الأنساق، ويفرض الانقطاعات التي تسمح بإمكانية البدء باستئناف حركة التفلسف. من خلال هذا المنظور لا تغدو الفلسفة مجرد تمثل للمواقف الفلسفية ولمنظورات الفلاسفة، وليست مجرد انتماء للتيارات الفلسفية ومذاهبها، كما ليست هي مجرد انغمار داخل نسق فلسفي باعتباره نهاية واكتمالا متافيزيقيا يجعل من واقعية الوجود محددة سلفا، ولكنها تجربة مغايرة للفكر تتغيا التخلص من التشميل الذي تمثله الاديولوجية الكليانية تلك التي تمجد الحقيقة المعطاة سلفا وبالتالي تجعل الإنسان رهين هذه الحقيقة التي غدت إيديولوجيا بغاية تنميطه وإخضاعه لنسق التشميل. لكن تجربة الفكر على النقيض من ذلك، هي تحفيز على تفلسف يجعل من أية حقيقة غدت متحققة مجرد إمكانية للانفلات، ومن تم فحقيقة الحقيقة ذاتها ترتهن بمدى تجاوزها لذاتها، فأفول الحقيقة هو البرهان التجريبي لحدثية الحقيقة، مادام أن عالم الحقيقة هو عالم يخضع لصيرورة تحولات الحقيقة وانكشاف الصيرورة هو جوهر حقيقة العالم الذي ينتسب للإنسان. إن الإنسان دوما هو على عتبة تفكير جديد ومن تم إمكانية التفلسف، ولا تعني عبارة «هيدغر» الشهيرة «لم نفكر بعد» أن الإنسان عبر مساره الفلسفي لم يفكر قط ولم يؤسس لحركة الفكر، ولكنها تعني شيئا آخر هو أن الإنسان كمشروع مستقبلي لم يستنفذ بعد إمكانية التفكير «فالإنسان لم يفكر بعد» ليس لأنه لم يعر الاختلاف بين الموجود والوجود (نسيان الوجود) فقط، بل لان إمكانية الفكر لا متناهية وبالتالي فإن المنجز الفكري للإنسانية، ليس شيئا باعتبار ما يمكن اقتطاعه مستقبلا في تاريخ الفكر. فنهاية الفلسفة ليست إلا بدءا واستئنافا لفعل التفلسف. فبقدر ما يصير الوجود، وبقدر ما يتشكل عالم جديد، بقدر ما تبدأ أسئلة أخرى تستدعي الحاجة إلى التفلسف أي الحاجة إلى تشكيل روح كوني كانكشاف لحدثية الفكر. يغدو السؤال مؤرقا بالنسبة للمتفلسف اليوم، فما حاجتي إلى ممارسة التفلسف في عالم اكتسحته العولمة؟ بل ما جدوى تفلسفي في هذا العالم الجديد الذي أضحت فيه المعلومات المتوافرة عبر تقنية الانترنيت معطاة سلفا؟ وما جدوى هذا التفلسف في عالم تستحوذ فيه المتغيرات بشكل متوقع أو غير متوقع (مفاجئ) مما يعني أن تفلسفي الخاص غدا غير مجد من أجل تغيير العالم كما كان عليه الأمر في العصور السالفة؟ فقد تبدو هذه الأسئلة المقضة لمضجع المفكر المتفلسف محبطة لفعل التفلسف، ولكنها لست كذلك إذا ما تم النظر إليها من زاوية أخرى، وهي زاوية الذات نفسها، هذه الزاوية التي يتم نسيانها في خضم هذا الاكتساح المعولم، وهذه الأسئلة اليوم تدعونا للعودة إلى الذات وإلى الفرد، خاصة وأن الحاجة ماسة اليوم للتفلسف إنقاذا للذات. ليس في الأمر نزوع إلى مثالية ذاتوية، ولكنه الخوف من الخطر، خطر تحلل الذات إزاء الاكتساح التقني المعولم لا للوجود والطبيعة فقط، ولكن لهذا الإنسان ذاته الذي أفرغ من ذاتيته بفعل قدرة التقنية القاهرة على توجيهه وصناعته والتفكير بدلا عنه. فمن يغير الوجود اليوم ليس هو الإنسان/الذات، ولكنها هذه القوى المبنية للمجهول التي تكشف يوما عن يوم طريقتها الاستحواذية التي تروم تحويل الإنسان إلى مجرد كائن افتراضي، منفصل عن حاضره. إن حاجتنا إلى التفلسف اليوم تغدو أكثر إلحاحا في اللحظة الراهنة، من أجل فهم لعبة التقنية المعولمة، ومن أجل استعادة الذات. واستعادة الذات ليس نزعة أناوية، كما هو الشأن في العالم اليوم الذي غدا فيه البشر في غياب التأسيس الذاتي، أناويين، يخضعون لمنطق الاستحواذ كنتيجة طبيعية لاستحواذ الوسائط التقنية على توجهاتهم، وهذا النوع من الأناوية نسميه بالاناوية القطيعية، فالذات لا تتحرك بناء على رغبة ذاتية، وإنما استجابة لنداء الوسائط التقنوية، فالذات غدت مغتربة عن رغبتها المؤسسة لماهيتها الإنسانية. إذن فاستعادة الذات هو إنقاذ للإنسان، فأنا أتفلسف لاستعيد موقعي في العالم، لأقف على مسافة من الانجراف الكلي الذي تقوده التقنية، وأعيد تشكيل ذاتي وفق ما تستطيعه قدرتي، أي أني أقف عند عتبة المفهوم الجوهري للإنسان باعتباره «علة تأسيسية» تمنح الحاضر. فان أتفلسف معناه أن أحيا، ولكي أحيا وأعيش يجب أن أحرر ذاتي وأتحرر عن أية نزعة للهيمنة، سواء كانت أخلاقية أو تقنوية أوطبيعية أولا، وأن أبتكر لوجودي صيغة مغايرة ثانيا، إنها الصيغة الابتكارية للذات حسب «فوكو».. وهي ابتكارية لأنها تجعلني أعيش حاضري وأجعل منه أفقا ممكنا للمستقبل. فالحاضر ليس هو ما يجعلني خاضعا لإكراهات الحال، والذي يفرض سلطته الثقافية الأخلاقية والاجتماعية على الذات وتكبيلها وفق نمطية استعادية لنمذجة تشكلت سلفا في سياق تاريخ ما، ولكن الحاضر هو الذي يجعل الذات زمانية قادرة على جعل الحاضر يستجيب لرغبتها الخاصة، فالحاضر انفلات عن هيمنة الحضور المعطى سلفا، هو تحيين للقدرة وتخلص من العجز. فالفيلسوف الحق هو من يمنح الحياة للحاضر، أي هو الذي يجعل تحققه ممكنا داخل العالم. لكن من هو الفيلسوف؟ ربما سنكون مجازفين إذا ما اعتبرنا أن الفيلسوف هو الحاضر ذاته، (الفيلسوف= الحاضر)، فالحاضر وقد صار متعينا في الموجود L?étant هو الفيلسوف، والفيلسوف وقد صار متعينا في الزمان هو الحاضر، وانكشاف الوجود لذاته في الزمان من خلال الموجود هو « الحاضر/ الفيلسوف». إن الانتماء المشترك للوجود والإنسان، هو أصل تأسيس مركب الحاضر/ الفيلسوف، ومن ثمة فإن انبثاق الزمان كتعبير عن حياة الوجود ذاته لن يغدو ممكنا، إلا إذا صار الموجود حاضرا، أي إذا غدا إنسانا فيلسوفا، يتعلق الأمر بانفصال جوهري يؤسس لتاريخية مزدوجة في الآن ذاته للوجود والإنسان: أ- للوجود الذي انفصل عنه الكائن الإنساني فأضحى موضوعا قصديا لذات كائن ينتمي إلى هذا الوجود، فالوجود غدا متعينا للكائن بوصفه الكلي اللامتناهي، أي غدا موضوع تفكير ومن ثم فتاريخية الوجود ترتهن بالعقل الإنساني وبقدرته على تفسير الكون، كما ترتهن بقدرة الكشوفات العلمية على اختراق هذا العالم اللامتناهي والغامض، وهي الكشوفات ذاتها التي تسمح بتأويلات جديدة يتأسس من خلالها العالم بوصفه منظورا للحاضر، فالعالم ليس هو الوجود المحض ، ولكنه وجود متعين، أو الوجود المتقطع من سديمية الوجود المحض، فالاقتطاع باعتباره حدثية هو انكشاف لتاريخية الوجود، ومن ثم فتاريخ العالم هو تاريخ اقتطاعات فالعالم كينونة تجدد ذاتها، بانفلاتها عن عتمة الوجود الكلي، وظهورها في سياق ما يسميه هيجل بروح العالم، وهي الروح التي تعيد هذا الوجود المقتطع إلى الحاضر وتمنحه تعيينا لكينونته، والعالم من خلال هذا المنظور هو كينونة الحاضر، أي هو انكشاف الإنسانية لذاتها في نسق تحولات الوجود، أو هو سطح التخارج الناتج عن حركة طي جوهرية ما تفتأ مانحة وجها متجددا للوجود المتقطع، وهذا الوجه هو العالم ذاته عالم العيش، فهو نتيجة صيرورة انكشاف الإنسانية لذاتها، فليس العالم هو الوجود، ولكنه الوجود الإنساني المنكشف لذاته، ومن ثمة فالعالم والإنسان هما ذات الشيء، فهما يشكلان سطح الوجود المقتطع، فالوجود تاريخ، ولكنه تاريخ اقتطاع الحاضر الذي يبدد أبدية الزمان المطلق، ليمنح للوجود تاريخا أي عالما صائرا متجليا للكائن الإنساني. ب- للإنسان ذاته بما هو «علة الحاضر»، فإذا كانت الخاصية التاريخية نتيجة الانفصال الجوهري للكائن عن ذات الوجود المحض، فإن أساس الحاضر يكمن في ذات الكائن الإنساني، وهو لا يصير ممكنا إلا على سطح انفصال تأسيسي للكائن عن ذات الوجود، انفصال يروم منح التاريخية للوجود ذاته، وبالتالي سيغدو ومتعينا منبثقا عن دائرة الوجود المطلق الذي يعادل العدم المطلق، كما أنه يمنح التاريخية لهذا الكائن ذاته المنفلت عن عتمة الوجود المطلق، ليغدو بذاته موجودا متعينا لذاته، وهو التعيين الذي يجعل من تجربة الحاضر ممكنة، ما دام أن قيمة الحاضر رهينة بحدثية الانفصال، ومادام أن الحاضر ذاته بمثابة عدم ما لم يتجسد كتجربة للإنسان، فهذا الإنسان هو علة الحاضر، وبالتالي فليس هناك حاضر مفارق أي خارج دائرة الوجود الإنساني، نعم هناك حاضر للوجود المطلق، بما هو أبدية مطلقة. ولكنه حاضر لا يتزمن، لا يتبدد، فهو بمثابة الشكل الفارغ للزمان، وبما أن الإنسان يعرض في الوجود كتبديد لأبديته المطلقة وكانفصال ينتج الزمان، فإن الإنسان هو هذا الحاضر ذاته الذي يحين تجربة الإنسان في الوجود، وينتج العالم. إذن فالإنسان من خلال منظورنا هذا ليس شيئا سوى «العلة التأسيسية». لا يعني هذا المفهوم أن الإنسان علة ضرورية بوصفها مطابقة للوجود المحض، فالإنسان وجود ولكنه ليس هو الوجود، أي أنه المعلول الطارئ في الوجود، ولكن هذا المعلول الطارئ يغدو في الانفصال مؤسسا لتاريخ كينونته الخاصة في خضم الوجود، وبالتالي فهو أساس تأسيس العالم، فهو يتعين كعلة بحيث يكون شيئا ما يتخارج منسوبا إلى شيء ما يكون هو علته، إن التأسيس بما هو فعل جوهري هو خاصية الإنسان الأصلية، فهي ما يجعل وجوده الخاص وجودا بالفعل وليس وجودا بالقوة، فوجوده بالفعل هو الوجود في - وبالزمان باعتباره أساس الحاضر، أو العلة التي يرتكز عليها الزمان ليصير شكلا متعينا يبدد الأبدية في التخارج. أما وجوده بالقوة فهو وجود غفل مفرغ من الكينونة، وجود مستغرق في عتمة أبدية الوجود المطلقة، شأن الإنسان الطبيعي (الحيوان البيولوجي) الذي لم ينفصل عن الطبيعة، وشأن الإنسان اللاتاريخي (الماضوي) الذي لم ينفصل عن ثقافة التنميط المعطاة سلفا، والذي يعجز بتاتا عن تأسيس نمط وجوده الخاص، ويظل مرتبطا بشروط عصر بائد، يمتلك قداسة مطلقة في ذهن الإنسان اللاتاريخي تجعله سيدا يمارس سطوته على الحاضر، فتحول دون تعينه أي ترجئ حدث تطابقه بالإنسان، ما دام أن هذا الكائن مجرد كائن غفل، كائن بدون حاضر، وما دام كذلك فإن نموذج كائن كهذا لا يمكن أن يكون علة تأسيسية، وسيظل كائنا لا تاريخيا معاديا للحاضر ذاته، وبالتالي معاديا للحياة وللإنسان. العلة التأسيسية ترتكز على البدء، فهي ليست تأسيسية باعتبار ما ثم تأسيسه سلفا (المنجز المؤسس)، ولا باعتبار استمرارية الموجود داخل نسق مغلق تشميلي لا يسمح بإحداث الفجوة الضرورية التي تولد حركة التخارج باتجاه تأسيس جديد لمنظور نسق مغاير يستعيد تاريخية الموجود ويصيره علة تأسيسية. يقترن ظهور العلة التأسيسية بالبدء المؤسس لحياة الانفصال، بدء يولد حركة في جسد الكائن المنفصل، حركة تصير التأسيس تاريخا بما هو استعادة للحاضر الحي، فوحدها البدايات هي الأروع كما يقول «هيدغر»، ومعنى ذلك أن البدء بما هو استئناف لزمنية الموجود ،هو إمكانية للتخلص من هيمنة المعطى التي تتجلى كميتافيزيقا للوحدة المطابقة للكلية التي تتلف الحاضر لصالح سلطة الحضور الميتافيزيقي حيث لا يغدو وجود الإنسان داخل هذا الحضور سوى كائن معلول، مفصول عن القوة وعن إرادة التأسيس، وهو يعني تطابقه مع العجز، حيث تنخر العدمية كيانه وتصيره موجودا بدون حاضر، وهذا الموجود يشكل أكبر إعاقة للتاريخ، لأنه يحول دون بدء حركة التغاير والانفصال، ما دام أنه لا يعيش إلا وفق إرادة مسلوبة تنتج طغيان الكلية وتمنحها سلطة الحضور.