إن الحديث عن أعمال متكاملة لتجربة شعرية، هو حديث عن أزمنة جمالية متعددة، تضم بالضرورة مستويات متعددة من الحضور أو الغياب داخل النص، أو داخل المعيش، ويجعلك بالتالي أكثر قربا من نبض الهوية النصية والهوية الكاتبة ومن نداءاتهما الداخلية. إنك كقارئ/كمتلق، تصبح مُلِمًّا بمختلف أشكال ونماذج البوح، الصادرة عن جسد القصيدة، وأكثر إلماما بالمسارات المتعددة، التي تجترحها هوية الشاعر. إن الرائي المتميز بثراء مخزونه البصري والمعرفي، وفي سياق تواجده على عتبة ما يُتوقع كتابته، كثيرا ما يحدث أن يصطدم بذلك القذىً المفاجئ، الذي يحُولُ دون رؤيته لتلك التفاصيل اللانهاية المنتشرة أمامه، والمتسمة بتعدد مشاهدها التي يقترحها عليه ضوء الذاكرة أو ضوء الرؤية، علما بان انحباس الرؤية ذاتها، لا يعود بالضرورة إلى إصابة آلياتها بخلل ما، قدر ما يحمل دلالة تمنُّعِ المؤمَّل رؤيته عن الظهور، والحالتان معا، بمثابة إشكالين جديرين بالتفكير، والتأمل. فحيث يتضاعف اكتساح دبيب الحيرة لأوصال السؤال، في ما ينبغي اختياره بفعل تتالي بنية الكثرة، وتراكمات تفاصيلها، وحيث يعز على العين الرائية أن تتملك هذا دون ذاك، فإنها تبادر بفسح المجال أمام الأنا النصي، كي يمارس سلطة الحسم، بالنظر إلى وعيه الطبيعي، بما هو مطالب بإنجازه من أدوار، كما بالأفق الذي هو معني باستشرافه. إن اضطلاعه بهذه المسؤولية، لا يستند على توجه عشوائي، ولكن من منطلق إخضاع فضاءات الكثرة المنتشرة على متاهة الانتقاء، لفعل التكثيف والتجريد، بغاية تحقيق مختلف أنواع التماهيات، التي يراهن الأنا عليها، في قلب تلك المسارات المتشعبة، التي تساهم بالتباساتها العفوية والمبيتة، في إفقاده قدرته على الاختيار، وعلى التموضع في المكان الملائم. جمالية هذا التجريد وهذا التكثيف، هي التي تؤدي إلى نمذجة الكينونة التي تخفف نسبيا من محنة الإحساس بالتضاؤل القاسي الذي يعاني منه الكائن أمام هول تداخل العناصر وغموضها، كما تسمح للتلقي بإمكانية تحقيق تماهيات مضاعفة مع مواقف ومقامات، ما كان له أن يحظى بمعايشتها، لولا سلطة الكتابة المسكونة بهاجس إعادة صياغة كتاب الكون، على ضوء قوانينها التي تضع التلقي، باتجاه عتبة كون آخر، قد يكون منفصلا تماما عن الكون المعيش، وقد يكون في نفس الوقت، موازيا ومحايثا له . إنها إذن حالة من الاستضافة السخية، المتبادلة عادة بين هوية الأنا النصي، وبين هوية المتلقي، خاصة وأن طبيعة الشعر تتميز بدعوتنا كذوات خارج نصية، إلى الاندماج في تجربة تشاركية وتقاسمية، كلما توافرت شروطها، والمجسدة عادة في أهليتنا نحن أيضا لممارسة فعل هذا الاندماج. ضمن هذا السياق، تقتضي الإشارة إلى ضرورة التمييز بين مستويين من مستويات الاستضافة، حيث يتجسد المستوى الأول في القراءة التي يحدث أن تكون عابرة، بفعل اقتصارها في علاقتها بتجربة شعرية ما، على محض إطلالة تفقدية، قد تخلقها صدفة لم تكن متوقعة من قبل أو زيارة مقصودة، وموجهة سلفا، نحو استخلاص رؤية جزئية، عن بنية معلومة، أو مكون مخصوص، فيما يتجسد المستوى الثاني، وهو الأكثر تقدما، في جمالية الإقامة الطويلة المدى بين مختلف الفضاءات المتعددة، التي يمكن أن تتميز بها التجربة ذاتها، وهو تعدد، يسمح بمصاحبة مختلف ما يطبعها من تحولات واختلافات متقاربة كانت أو متباعدة، ذلك أن تجربة شعرية ما، لا يمكن بحال أن تتفاعل مع القراءة / القراءات تفاعلا متكاملا، إلا ضمن هذه العلاقة، أي ضمن سخاء الاستضافة المتبادلة والطويلة المدى. فالقراءة تستضيف مسارات التجربة التي يحدث أن تجسدها عدة أعمال، في قلب رحاباتها التساؤلية والتأويلية، كما أن التجربة الشعرية وفي الإطار ذاته، تكون بصدد تحقيق استضافة القراءة إلى رحابات انتقالاتها، وأسفار انمحاءاتها، وانكتاباتها في تضاعيف قول، يَعِد دائما بجديد أصواته وجديد أصدائه. ومع اعترافنا المسبق بأهمية المستوى الأول من القراءتين، والذي يحدث أن يكون ذا طبيعة اكتشافية أو بالأحرى تمهيدية لمشروع علاقات /قراءات، واستضافات مستقبلية، إلا أن المستوى الثاني يظل الأكثر قربا من دم التجربة ومن روحها، ومن اختياراتها أيضا. إنه المستوى الذي يغتبط بتورطه في ذلك الميثاق اللآمعلن، بين سؤال القراءة وسؤال الكتابة، واللذين يكونان معا في هذا السياق،مسكونين بأسئلة الوجود التي لا يمكن بحال فصلها عن زمن الكتابة، باعتباره زمنا تكوينيا، لا يتنازل عن سلطته، في صياغة علاقات الكائن بكينونته. في قلب هذه الاستضافة الاستثنائية، المتميزة عادة بطول مدة تفاعلها، يتم رفع الكلفة تماما بين القراءة، وبين الكتابة الشعرية. ذلك أن الحديث عن أعمال متكاملة لتجربة شعرية، هو حديث عن أزمنة جمالية متعددة، تضم بالضرورة مستويات متعددة من الحضور أو الغياب داخل النص، أو داخل المعيش، ويجعلك بالتالي أكثر قربا من نبض الهوية النصية والهوية الكاتبة ومن نداءاتهما الداخلية. إنك كقارئ/كمتلق، تصبح مُلِمًّا بمختلف أشكال ونماذج البوح، الصادرة عن جسد القصيدة، وأكثر إلماما بالمسارات المتعددة، التي تجترحها هوية الشاعر. إنه إلمام بالأحوال الكائن بمفارقات المكتوب. بحالات سكر الكتابة الطافح، والناتج عن طول التمرس، بمجالساتها ومؤانساتها. إن استعدادك المسبق لتمديد الإقامة في هذا الفضاء المتعدد الأفياء والمقامات، يعود إلى تجاوزه لحدود السكن الرمزي إلى مستوى كون كامل، آهل بمجراته وكواكبه، وكائناته الدلالية المتعاقبة والمتحولة. إنه كون المتعة الجارفة، والقسوة الجارحة في آن، والذي يقترح عليك أكثر من إمكانية، للتماهي مع ما يضمه من مصائر وأحوال. في قلب الامتدادات المتعاقبة لتجربة الكتابة الشعرية، يمكن أن يطمئن الأنا النصي إلى حضورنا، فيكاشفنا بأسئلته الإشكالية، كما بحميمية نزقه، الذي يمكن اعتباره هو أيضا، أحد المطالب الأساسية لكل من العقل والحكمة. في قلب الحميمية ذاتها، سيكون بوسع الأنا النصي أن يكاشفنا بحضور تلك الانقلابات العميقة،التي يحدث أن تعصف ببياض الصفحة، كما ببياضات مرجعياتها الفكرية والجمالية، وهو ما يساهم في تقريب الهوة بين القراءة والكتابة، كما سيساهم في التخفيف من حدة تلك التحفظات التي لا يتردد التلقي في إبدائها،كلما استغلقت عليه دلالات المتخيل الاحتمالي،التي يستند عليها الشعري في صياغة جمالياته. إذ في قلب حميمية التفاعل، يتوحد أفق القراءة بأفق الكتابة، الذي يصبح تبعا لذلك قابلا لأن يتحول إلى أفق حياة معيشة، ومتبناة من قبل الطرفين معا، مؤكدا بذلك على إمكانية نزوله من مدارات الاستحالات المتعالية التي تنتشي الكثير من الكتابات بادعاء انتمائها المجاني إليها، علما بأن مصدر تشكل هذه المدارات،يعود إلى هوس الانفلات من بؤس الواقع، ومن مأساويته، بفعل إمعانه في انحرافاته الفادحة، المدبرة عادة من قبل أعداء الحياة. إن استفحال حالة البؤس في الواقع، بما يعنيه هذا البؤس من انعدام للحرية، ومن تردي الشروط الموضوعية، الكفيلة بتفعيل حركية الفكر والقول، هو ما يؤدي إلى تقليص مساحة الممكن، وبالتالي إلى توسيع مساحة الاستحالة التي تعتمدها الكتابة في تأسيسها لمتخيلها كبديل ممكن ومحتمل لشراسة الواقع وضراوته. وليست الاستحالة هنا سوى المقابل الموضوعي للزمن للافتراضي، وقد تتحول إلى سكن رمزي يؤوي حيرة الكائن واغترابه، حيث ما من شيء في متناوله، خارج مدار التملك المؤجل، بدءا من الهموم الفادحة التي ترشح بها مسامات الجسد، وانتهاء بالنداءات المتفاقمة التي تحترق بلهيبها ألسنة الرغبة. إن كتابة الشعر، والعيش فيه، من أجله، وتحت سمائه، وعلى أرضية ما يدعونا إليه من عشق للحرية وللجمال، ومن تبَنٍّ لأسئلة الوجود بمختلف تجلياته البسيطة والمركبة، ومن رفض عنيد ومبدئي لقوى التسلط والقهر، كلها قيم مندرجة ضمن قناعة الممانعة، التي ليس من الضروري أن تكون مقترنة بأي توجه إيديولوجي جاهز ومسكوك، قدر ما تكون مقترنة بالجوهر الفعلي للكتابة الشعرية، والذي يتحول معه الشاعر ومن وجهة نظر السلط الرقيبة، إلى كائن مشبوه، بسبب امتلاكه العفوي والتلقائي لقدرة طبيعية على الإشارة إلى مكامن الخلل، وإلى بؤر الإفساد، وأيضا بسبب انتباهه اليقظ إلى القوانين السرية التي تشتغل بموجبها الأنساق البشرية والكونية، وحدسِهِ الثاقب بمواقعها، وبتوجهات نواياها وآليات اشتغالها. وأكثر من ذلك، بفعل تملكه لخيمياء ألوان المقامات والأحوال دون إنكار احتمال تعرضه الدائم إلى أعطاب الرهافة المدمرة، وحالات العبث التي يمكن أن تتقاطع مع حالات الجنون، لأن الأمر في نهاية المطاف لا يتعلق بأنا مثالي ونموذجي، ومنزه عن اختلالاته. إنه الأنا المنذور لتعدد أبعاده، والجاهز دائما للتماهي مع مختلف تلك الأحوال الملتبسة، المقيمة داخله وخارجه في آن، وهو ما يعبر عنه بتعدد المقامات الشعرية، والفكرية التي تزخر بها المسارات المتشعبة لنصوص الشاعر، كما يُعبَّر عنه بتنوع استراتيجيات الكتابة لديه، وتباين خصوصية المنابع السرية التي تتدفق منها أعماقها مياه هذه الكتابة، وكذلك طبيعة المختبرات النظرية والفكرية، التي يتم فيها اختراع تلك الأدوات الرهيفة، التي تتشكل منها إيقاعات الأكوان ودلالاتها. في قلب هذه الرحابة الإبداعية إذن يمكن للتلقي أن يعيش عن قرب، مفارقات بناء الأنا الشعري للكون، ومفارقات إعادة تشكيله، بالصيغة المغايرة التي تعوَّد على التمظهر بها، دون أن تشعر بحضور أية مسافة فاصلة بين أفقها الخاص، وأفق ما هي بصدد تمثله ومعايشته، شأن كل استضافة سخية وتواصلية.