يقدم نيقولا كارNICOLAS CARR مقالا عن الفيلسوف الألماني نيتشه الذي تمكن سنة 1882 من اختراع آلة كاتبة من أجل تجاوزصعوباته البصرية التي صار كان يعاني منها ، وقد مكنته هذه الآلة فعلا من تجويد خط كتابته التي تدهورت بسبب كثرة تركيز نظره على بياض الصفحة الورقية . غيرأن هذا الإختراع سرعان ما أسهم بشكل لاواعي ومن غير قصد في التأثير على أسلوب نيتشه وتغيير نمطه الكتابي حسب رأي أحد الأصدقاء الفلاسفة النقاد. إن كتابات «نيتشه» النثرية ذات الخصوصية المتفردة صارت بعد هذا الإختراع أكثر إيجازا ، تشبه إلى حد ما رسائل البرقيات التلغرافية الموجزبل يضيف هذا الناقد الفلسفي أن إستعمال الآلة الكاتبة قد ساعده على بلورة خطاب نيتشي ذي رؤية وملمح جديدين . وخلاصة هذا المثال «النيتشي» المتميز أن أية آلة كاتبة بالرغم من مظهر وجودها المحايد واستقلالها التام عن المادة النصية التي تسهم في خلقها فإنها الآلة تمارس بشكل خفي تأثيرها المباشر في شكل بل ومحتوى النص الأدبي أيضا... ومن جانب آخر إن هذه التقنية قد أحدثت تحولا جليا في عمق الفلسفة النيتشية حسب رأي أحد أخصائيي الميديا (فريديريك كيتليرFRIEDDRICH KITTLER) الذي وصفها في جملة واحدة (براهين قوية من شذرات وأفكار هامة من خلال اللعب بالكلمات) إن هذه الجدلية بين الفن وأسانيده تستحق منا اليوم بكل تأكيد مساءلتها من جديد خصوصا في عصر بات فيه الكتاب ينعطف وبلا رجعة نحو مستقبل الرقمية بامتياز. منذ بداية سنة 2000 صار هناك تآصر بين الكتاب المطبوع والكتاب الرقمي الذي يسمى كذلك الكتاب الإلكتروني أو(الإيبوك e-book ) الذي تم إختراعه بفضل التزاوج بين إختراعين تقنيين هامين هما : المعلوميات التي أتاحت إمكانية القراءة على شاشة الحاسوب والعنصر الثاني يتعلق بالإنترنت . هذا الإختراع غير المسبوق الذي دشن سنة 1998 حيث إخترع كل من (جاك أتالي Jacques Attali) و(إيريك أورسينا Erik Orsenna) ال (سيبوك Cybook) كأول جهاز خاص بقراءة الكتاب الإلكتروني الذي لم يلق وقتئذ رواجا تجاريا كما كان متوقعا . غير أنه مع إنتشار شبكة الويب web وخصوصا الويب في نسخته الثانية web2.0 التي أغنت الشبكة العنكبوتية بفضل مواقع التواصل الإجتماعية مما أدى إلى استفادة الكتاب الإلكتروني من تجويد تقني وترويج تجاري ملفت للنظر. ومما لاشك فيه وحسب بحث أجراه مجلس التحليل الإستراتيجي في فرنسا فإن الكتاب الإلكتروني لم يحقق سوى 1 % من رقم المعاملات . إن هذا الرقم الهزيل مرتبط أساسا بحجم السوق الفرنسي الواعدة حيث لايتعدى معدل عدد الكتب الإلكترونية سوى 1 من 10 على العموم . أما في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعتبرأول سوق للكتب الإلكترونية في العالم فإن المعدل قد انتقل من 1,2% مع نهاية 2008 إلى 1,8% مع نهاية 2011. أما ابريطانيا فإنها تبقى البلد الأوروبي الوحيد حيث يسجل أقوى تحول للكتب الورقية إلى كتب إفتراضية . ففي سنة 2012 بيع مايناهز13% من الكتب في صيغة ملفات Files . وحسب توقعات المؤسسة الأوروبية للميديا والإتصالات المعروفة اختصارا ب IDATE فإن هذه الأرقام قد عرفت تصاعدا في المدى القريب لكي تصل المعدلات إلى 35% في الولاياتالمتحدةالأمريكية و21% في ابريطانيا في سنة 2015 . إذا كان فعل القراءة والكتابة الرقمية في أولى سنوات ولادته التكنولوجية فإن كل المؤشرات تؤكد نموهما وتقدمهما في المستقبل بكل تأكيد . هناك عديد من الأمثلة التي تثبت أن هذه المفارقة الحركية بين فعلي الكتابة بعضو(اليد) والقراءة بعضو(العين) قد تؤثر في العملية الإبداعية أيضا وكمثال على ذلك فالكاتب (فرانسوا بون François Bon ) يحكي في شهادة له نشرها في موقع المكتبة الوطنية الفرنسية BNF تجربته الأدبية بالكتابة على الحاسوب . يقول فرانسوا بون (إن معالجة النص معلوماتيا يعتبر طقسا كتابيا جديدا لامثيل له في السابق وهو يختلف عن معالجته على الورق ويضيف بأن أول شيء تم التخلص منه نهائيا هو ركام أوراق المسودات . لم يعد النص المكتوب بتلك المساحة التي تقطعها جرات الأقلام أو التي نقصها ونستثمرها أو نتصفحها وإنما النص هنا في هذا الفضاء المعلوماتي صارهو كل هذا الذي يعبر أمامنا على شاشة الحاسوب .) لقد إنتهى زمن التسويد والمسودات وبانتهائه إختفت بعض الطقوس المتعلقة بعملية التشفيروالأكودة لكن في المقابل طفت على السطح مخاطر أخرى يضيف (نيقولا بون) : لقد تبدى الخطر منذ البداية لأننا كنا نكتب تحت قواعد الكتاب الورقي إذ لا يمكننا تصحيحه بعد صدوره في المكتبات ، لكن المفاجأة بعد ذلك كانت قوية تتعلق بطفرة جديدة من الوسائل الإبداعية المتاحة للكاتب منها شساعة المساحة الرقمية بل لامحدوديتها مقارنة مع محدودية الورق والتصحيح الأوتوماتيكي الفوري للأخطاء الإملائية والنحوية والتركيبية وسهولة تعديل النص من دون تشطيبات وإنجازعملية نسخ لصق (copy-paste ) وبالإضافة إلى كل هذا هناك عادات جديدة لم نعهدها من قبل ، ففي الماضي كنا نحمل معنا كراساتنا ومخطوطاتنا الورقية غيرأننا اليوم بمجرد ما نفرغ من عملنا الأدبي بعد مراجعته النهائية نقوم بتسجيله أوحفظه في قرص أو مفتاح التخزين (يوسبي USB) Universal Serial Bus وأينما تنقلنا أوسافرنا ترافقنا كتاباتنا وإبداعاتنا ووثائقنا المعروفة أو السرية وباختصار شديد فإن تغيير السند قد حطم كثيرا من الأنماط الكتابية التقليدية وخلق أخرى حديثة ... إن هذه الطقوس المعلوماتية الجديدة قد أسهمت في تغييرعمل الكاتب بل إنها جاءت بإنتاجية أكثر خصوصا عندما يكون الكاتب مرتبطا بالإنترنت حيث يمكنه إنجاز كثيرا من البحوث من دون أن يكون مرغما على التنقل إلى المكتبات العمومية أوالخاصة . من جانب آخر فالكتابة في نهاية المطاف تصير نتاجا لهذا العمل . إن الكاتب هنا يكتب عمله بنفسه ، وبالتالي علينا أن نطرح السؤال التالي : إلى أي حد يؤثر السند الجديد في النص الأدبي ، في شكله كما في محتواه ؟ وإذا كان الإنتقال إلى سند الكتاب الإلكتروني e-BOOK يثير كثيرا من التخوف لدى عديد من الكتاب فإن جلهم في المقابل قد صار لديهم هذا الكتاب مصدر إلهام وتطوير لكتاباتهم ومن بين هؤلاء الكاتب (وليام جيبسون William Gibson) ففي حوارأنجز سنة 2007 مع شركة أمازون تحت عنوان (الكتابة في عصر جوجل ) تمحور حول كتابه الأخير الموسوم ب (صفر قصة Zero History) يثير فيه مثالا عن شريط فيديو حول البطاريق الطائرة (Flying Pinguins ) الذي عثر عليه في موقع التواصل الإجتماعي اليوتوب Youtube والذي أوحى له بمشاهدة بعض المدن وأمكنتها والإطلاع على تفاصيلها السياحية ثم قام بإدراجها في كتاباته بوصف دقيق مع أن الكاتب لم يسبق أن زارها في واقع الأمر وهذا ما اصطلح عليه (جيمس بريدل James Bridle) ب (واقعية الشبكات الإجتماعية ) التي لايمكن إنكار تأثيرها الحقيقي في الأسلوب السردي كما في الحبكة : وهذا يعني أننا لم نعد نكتب نفس القصص على شاشة الحاسوب المتصل بالإنترنت كما كنا نكتبها على الورق من قبل ... إن أشكال الكتابة تتغير وتتحول هي أيضا على غرار ما عرفته بعض الأجناس الأدبية الجديدة التي استلهمت خصوصياتها من الكتابة على (الأون لاين online). (*) ملخص بحث أريان مايير تحت إشراف ألان بوسون