يعتبر الأستاذ محمد مصطفى القباج أحد المفكرين التربويين المعدودين ليس فقط في المغرب وإنما على مستوى العالم العربي ككل.والواقع أنك تلمح من قراءة كتبه أنه يحمل على كتفيه هم أمة بأسرها وليس فقط وطنه الأصلي:المغرب الجميل. وان كان هذا الأخير يحظى بالاهتمام الأول بطبيعة الحال. يضاف الى ذلك أنك تلمح من خلال الكلمات نفسا طيبا،رصينا،محبا للخير.وهذا شيء مهم جدا.فالمثقفون ينقسمون الى قسمين:قسم يستعرض عضلاته المعرفية ولكن دون أي انغماس حقيقي بشؤون الأمة وشجونها.وقسم آخر تشعر وكأن هذه الهموم تربض على قلبه.كما وتلمح غيرة كبيرة على المصلحة العامة ورغبة حقيقية في تقدم العرب والمسلمين. وهو بذلك يمشي على خطى كبار مفكري العرب والإسلام من أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون. وهم الثلاثة الكبار في هذا العصر.هذا ما يتجلى من خلال كتابه الأخير الصادر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر تحت عنوان جميل هو: «شذرات».وهو عبارة عن نصوص ومداخلات حررت تحت الطلب كما يقول في عنوانه الثانوي.وهذا لا يقلل من أهمية الكتاب، على العكس.فنحن جميعا نجمع محاضراتنا ومداخلاتنا في الندوات والمؤتمرات بين دفتي كتاب.وأجد شخصيا أن هذه الطريقة في التأليف أقل إملالا للقاريء من الكتاب الكلاسيكي المرصوص رصا من أوله الى آخره.فأنت في كتاب «شذرات» مثلا تنتقل من فصل بعنوان التفاعل الايجابي بين الحضارات:الحضارة العربية الإسلامية نموذجا،الى فصل آخر عن النسق الفلسفي لمحمد عزيز الحبابي،الى فصل ثالث يتحدث عن العلاقة بين الدين والسياسة، وهو موضوع الساعة كما نعلم،الخ..وهذا التنقل من باب الى باب، ومن موضوع الى موضوع آخر مختلف، يزيد من شهيتك لمواصلة القراءة.باختصار شديد: التنوع ضد الضجر. أعجبني العنوان وتذوقته كما تُتذوق الفاكهة لأني أنا أيضا شخص تراثي على الرغم من كل ادعاءاتي وركضي وراء الحداثة وما بعد الحداثة! التراث مغروس في دمي وعروقي.كل من يتذوق اللغة العربية يعرف مغزى ما أقول.هناك كتاب في التراث بعنوان:شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي(1032-1089).فلنأمل إذن بأن يكون كتاب الأستاذ القباج شذرات من ذهب أيضا.لا أستطيع أن أستعرض كل الإشكالات والهموم التي طرحها على مدار 350 صفحة من القطع الكبير.فهذا يتطلب عدة مقالات لا مقالة واحدة.ولكن لنتوقف عند بعض المحطات.في الفصل الأول صفحات جميلة عن المأمون الذي يعتبر ذروة الحضارة العربية الإسلامية في العصر الذهبي أو إحدى ذراها.ومن خلال إعجابه به نفهم التوجه العام للأستاذ القباج:عقلاني مستنير رصين.لا إفراط ولا تفريط. فالمأمون كما يقول لنا تربى على يد المعتزلة فتشبع بآرائهم وأصبح مشايعا لمذهبهم.ولذلك كان يقدم العقل على النص.بل ووصل به الأمر الى حد القول بأن العقل هو الذي يؤسس الاعتقاد.وهذا شيء خطير في الواقع وسابق لذلك العصر بكثير لأن الاعتقاد يكون عادة فوق العقل أو يتجاوز العقل.على أي حال فهذه المواقف الجريئة عممت لديه روح التسامح والتحرر،ونمت ذوقه في النقاش والتناظر.بل وجعلته يبحث عن كتب الفلسفة في كل مكان بغية ترجمتها الى العربية.نفهم من هذا الكلام أن الخروج من المغطس العويص الذي وقعنا فيه مؤخرا بسبب حركات التطرف والظلام لن يكون إلا باستلهام كبار عظمائنا في الماضي وبخاصة المأمون مؤسس بيت الحكمة ومترجم فلاسفة اليونان.والواقع أن الأستاذ القباج في نهاية الفصل وبعد لف ودوران واسعين في فلسفة الحضارات المقارنة يؤكد على أن الحل لن يكون إلا باتخاذ خطوتين اثنتين:الأولى أن يقتدي حكام العالم العربي الإسلامي بالمأمون ويتخذوا قرارا باعتماد العقل والعقلانية كشرط ضروري ولازم للبناء الحضاري.و الثانية التي ينبغي أن يتخذها حكامنا فهي أن يقتدوا أيضا بالمأمون مرة أخرى ويعملوا على مأسستها على المستوى القطري والعربي ككل. غني عن القول أني أشارك الأستاذ القباج هذا التوجه.وأنا شخصيا أقترح تأسيس مركز ضخم للترجمة على مستوى العالم العربي كله يشارك فيه عشرات بل مئات المثقفين من المشرق والمغرب في آن معا. فهذه هي الطريقة الوحيدة لنقل الفتوحات الفلسفية والعلمية الى اللغة العربية،بل والطريقة الوحيدة لإنقاذ اللغة العربية نفسها.فمن الواضح أنها مهددة إذا ما بقيت لغة شعر ونثر وفقه ومواعظ دينية فقط. ولا أنكر أهمية هذا أبدا. ولكن ينبغي أن تستعيد أمجادها الغابرة وتصبح مجددا لغة علم وفلسفة وحضارة أيضا.ومعلوم أنه كانت لغة العالم المثقف المتحضر إبان العصر الذهبي مثلما أن الفرنسية كانت لغة الأنوار في القرن الثامن عشر والانكليزية لغة العالم والعولمة اليوم.بل وأقترح داخل هذا المركز القومي العربي للترجمة تخصيص جناح كامل لنقل الأبحاث الاستشراقية الى اللغة العربية،نعم الاستشراقية!وأقصد بذلك الاستشراف الأكاديمي العالي المستوى والذي قدم إضاءات غير مسبوقة على التراث.وقد آن الأوان لأن تعرف بالعربية ليس كحقائق مطلقة معصومة وإنما كفرضيات واستكشافات وانجازات تستحق النقاش والأخذ والرد من قبل المثقفين العرب. أنتقل الآن الى موضوع آخر حظي باهتمام المؤلف في الثلث الأخير من الكتاب.وهو موضوع خطير جدا لأنه يخص المقدس الأعظم أي ديننا الإسلامي الحنيف.هل نفصل بين الدين والسياسة يا ترى؟ هل نتخلى عن الإسلام؟ أعوذ بالله. مستحيل.ما إن نفكر في ذلك لحظة واحدة حتى نصاب بالذعر.الانفصال عن الإسلام يعني انفصال الروح عن جسدها،يعني خروج السمكة من الماء.من يتخلى عن تراثه،عن دينه،عن جوهره؟ أقول ذلك وبخاصة إذا كان تراثا ضخما عظيما عريقا يخترق القرون كالتراث العربي الإسلامي.يشعر المرء من خلال قراءة الفصل أن الأستاذ القباج لا يحبذ العلمنة أو اللائكية كما يقول إخواننا في المغرب عموما.انه لا يريد الانفصال الفج عن الدين على الطريقة الغربية وربما الفرنسية تحديدا.وأنا معه.فهذا يؤدي الى زلزلة الوعي الجماعي لجماهيرنا في الصميم.إنها تفضل الموت على ذلك.ولكن إذا كان الانفصال عن الدين غير مستحب وغير ممكن أصلا، فإن الانفصال عن التفسير الظلامي المتطرف للدين مستحب بل ويمثل حاجة قصوى في الوقت الراهن. وهو ممكن ولكن ليس بالسهولة التي نتصورها.ذلك أن التفسير الأصولي القديم للإسلام راسخ الجذور ولا يمكن الانفصال عنه بين عشية وضحاها.بمعنى آخر فإن التفسير التنويري للإسلام لن يتحقق إلا على مراحل متدرجة وبعد معارك وصعوبات هائلة.ولهذا السبب يركز الأستاذ القباج على مدار الكتاب على ضرورة تحكيم العقل والمناهج العلمية التربوية التنويرية لحل قضايانا المتفاقمة.إنه مدرك تماما لصعوبة المشكلة ولمدى هولها وخطورتها. لحسن الحظ هناك خطوات عملية ايجابية تحصل بهذا الخصوص وتشكر. أود التذكير هنا والتنويه بمؤتمر عقد في مراكش أواخر يناير 2016 وكانت له أصداء واسعة لدى المثقفين العرب الحداثيين التنويريين.والواقع أن المؤتمر استخدم لأول مرة لهجة جديدة غير معروفة سابقا في عالمنا العربي.فقد دعا الى القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية من أجل التصدي للتطرف والتمييز بين المواطنين.المقصود هنا:التمييز الطائفي ضد غير المسلمين.كما دعا الساسة وصناع القرار الى اتخاذ التدابير السياسية والقانونية لتحقيق المواطنة الحقة في الدول الاسلامية. وكانت لفتة ذكية جدا من المؤتمر أن دعا الى اعتماد صحيفة المدينة التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم شخصيا بغية تحقيق التعايش بين مختلف مكونات الأمة من مسلمين وغير مسلمين. إنها عبارة عن عقد اجتماعي يحقق المساواة بين مختلف الفئات معترفا حتى بحقوق اليهود الذين كانوا يشكلون أقلية وازنة آنذاك.بل وتعتبرهم الصحيفة جزءا من الأمة! «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم..»وهذا اعتراف صريح بمشروعية التعددية الدينية والعقائدية في الإسلام..فإذا كان النبي المؤسس أقر بذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فكيف يمكن لنا نحن في القرن الحادي والعشرين أن نكون مخالفين له أومتخلفين عنه إلى مثل هذا الحد؟ إنها ضربة عبقرية من نبي عبقري. ونحن لا يمكن أن نخرج على سنته ومنهاجه في الانفتاح والتعايش واحترام التعددية الدينية والمذهبية الموجودة واقعا في معظم المجتمعات العربية والإسلامية إن لم يكن كلها.هكذا نلاحظ أن إعلان مراكش التاريخي استعاد جوهر ذلك النص التأسيسي الشريف الخالد.كما واستعاد روح الأندلس وحضارتها الزاهرة التي حققت التعايش المدهش بين المسلمين والمسيحيين واليهود يوما ما.ومن هو وريث الحضارة الأندلسية في عصرنا الراهن إن لم يكن المغرب العظيم؟ كما واستعاد آيات قرآنية كريمة عديدة تحض على التسامح والاعتراف بالتعددية واحترام الآخر. وبالتالي، ففي تراثنا توجد ركائز قوية يمكن البناء عليها لتحقيق التنوير العربي الإسلامي ودحر الفكر الأسود للجماعات المتطرفة التي شوهت صورة الإسلام الحنيف على مدار الكرة الأرضية. ولكن المشكلة المطروحة علينا حاليا هي التالية: هل يمكن أن يتحقق هذا التعايش الديني الواسع بدون أن ينال الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة؟ هذا الشعب المضطهد في عقر داره لا يزال يستصرخ ضمير العالم منذ ستين سنة ولا من مغيث أو مجيب.هذا السؤال الأساسي لا يهمله الأستاذ القباج.على العكس تماما.إنه يخصص له فصلا كاملا بعنوان: «فلسطين:حسرة المثقف بين عجز العدالة الدولية وعجز العرب». بل إنه يختتم الكتاب به. فليعد إليه من يشاء.