من المسائل الطريفة المبثوثة في بطون التواليف العربية القديمة، مسألة العلاقة المتوترة بين الشعراء والنحاة، والتي كانت تقوم على كثير من الشنآن والبغضاء (1).. وكل ذلك ناتج عن تسقط النحاة الغلطات اللغوية والنحوية للشعراء، وأغلب الظن عندي أن النحاة كانوا يبالغون في الزراية بالشعراء والتجني عليهم، فأما المفلقون من الشعراء فكانوا يتغاضون، ولسان حالهم يقول ( نحن أكبر من النحو)، وأما الشويعرون بلغة المتنبي (2) فكان يحز في أنفسهم نقد النحاة لهم، فيردون الصاع صاعين، يتوسلون في ذلك في بعض الأحيان بالهجاء الجارح والقدح الخارج عن مقتضى اللياقة والحوار (3).. ومنهم من كان لبقا، ظريفا يعترف بنقصه وحاجته إلى تعلم النحو.. فهذا دماث صاحب أبي عبيدة طالع في كتب النحو، فوقف عند بابي الفاء والواو، وأشكل عليه قول النحاة أمثال الخليل، إن ما بعد الفاء والواو ينصب بأن مضمرة وجوبا، فكتب إلى عثمان بكر المازني أحد نحاة البصرة، قصيدة فيها شكوى مريرة يعرب فيها عما لقيه من تعب ونصب في قراءة النحو مع الإشارة إلى بابي الفاء والواو وهي قصيدة على المتقارب (4): تفكرت في النحو حتى مللت / وأتعبت نفسي له والبدن فكنت بظاهره عالما / وكنت بباطنه ذا فطن خلا أن بابا عليه العفاء / للفاء ياليته لم يكن وللواو باب إلى جنبه / من المقت أحسبه قد لعن إذا قلت هاتوا لماذا يقال / لست بآتيك أو تأتين. أجيبوا لما قيل هذا كذا على النصب قيل لإضمار أن: فقد كدت يا بكر من طول ما / أفكر في أمر أن أن أجن. وذهب شاعر، أورد بيتا واحدا له ابن مضاء القرطبي، دون إشارة إلى اسمه أو نسبه، في الطعن على النحاة مذهبا غريبا، عد فيه العلة أو الحجة النحوية شبيهة بنظرة فاترة ساحرة من عين امرأة.. وكل ذلك للإيهام بأن العلل النحوية لا تقوم على أساس من العقل .. يقول (5): ترنو بطرف ساحر فاتر / أضعف من حجة نحوي. والمعروف أن ابن مضاء القرطبي، حاول جاهدا في كتابه المشهور تثبيت دعائم الاتجاه الظاهري في النحو، وكان في ذلك ينزع في التفكير إلى ابن حزم صاحب الاتجاه الظاهري في الفقه.. ولهذا أجهد نفسه في محاولة تقويض العلل النحوية التي قام عليها النحو، والبحث عما يدعم وجهة نظره من شواهد شعرية.. أما بشار فقد ذهب في تعيير سيبويه والطعن عليه أبعد من ذلك، فهو القائل، وقد تردد على ألسنة الناس أن سيبويه يعيب عليه أغاليط في النحو واللغة،على الطويل (6): أسيبويه يا ابن الفارسية ما الذي / تحدثت من شتمي وما كنت تنبذ أظلت تغني سادرا بمساءتي / وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ. ومن الذين أضمروا الحفيظة للنحاة بعدما وقعوا فريسة لانتقاداتهم ،عمار الكلبي الذي قال - وقد عيب عليه بيت واحد من شعره- على البسيط (7): ماذا لقينا من المستعربين ومن / قياس نحوهم الذي قد ابتدعوا إن قلت قافية بكرا يكون بها / بيت خلاف الذي قاسوه أوذرعوا قالوا لحنت وهذا ليس منتصبا / وذاك خفض وهذا ليس يرتفع كم بين قوم قد احتالوا بمنطقهم / وبين قوم على إعرابهم طبعوا ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا / ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا. وهذا الذي كان يقع بين النحاة والشعراء حول قواعد النحو والصرف عموما، كان يقع أيضا حول علم العروض. إن تلك المناوشات دالة على أن العرب لم يكونوا ينظرون إلى الشعر باعتباره وحيا أو موهبة فقط.. بل هو فضلا عن ذلك صناعة ينبغي أن تتقن.. وإلى عهد قريب كان الأدباء والبحاث يقفون على أخطاء بعضهم البعض.. كما صنع المرحوم العلامة عبد الله كنون مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.. وكما صنع عباس محمود العقاد مع جبران خليل جبران في قصيدته الجميلة المواكب .. والشيء نفسه صنعه مصطفى صادق الرافعي مع العقاد وطه حسين. ( الهوامش ) (1) هي مسألة مازالت حاضرة عند مجموعة من الشعراء ومنهم سعاد الصباح التي تقول في ديوانها الموسوم ب «فتافيت امرأة»: يا زمان الصرف والنحو شبعنا عبثا/ وكلاما فارغا ووشايات نساء... وهي في هذا تنحو نحو نزار قباني. (سعاد الصباح- فتافيت امرأة- دار سعاد الصباح دار صادر بيروت ص: 157) (2) يقول المتنبي على الطويل: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر / ضعيف يقاويني قصير يطاول. ويسميهم في موضع آخر متشاعرين فهو يقول على الوافر : أرى المتشاعرين غروا بذمي / ومن ذا يحمد الداء العضالا ومن يك ذا فم مر مريض / يجد مراً به الماء الزلالا. - (شرح ديوان البرقوقي لعبد الرحمان البرقوقي-دار الكتاب العربي-بيروت 1986 ج1ص60 ، من مقدمة ا لشارح) (3) الشعراء الكبار أيضا وقعوا في هذا.. حسبنا بشار نموذجا في هذا المقام. (4) أورد هذه القصيدة أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي في كتاب: أخبار النحويين البصريين/نشرة فرينس كرنكو -الجزائر ص78 ) (5) ابن مضاء القرطبي، الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1982، ط2 ، ص72 (6) نجيب محمد البهبيتي، تاريخ الشعر العربي، دار الفكر ، ص 72 (7) البيت المقصود هو- على البسيط- بانت نعيمة والدنيا مفرقة / وحال من دونها غيران مزعوج. والخطأ قوله مزعوج بدل مزعج.