مقدِّمة أوّلاً: القَرن الأوَّل: الأسباب و الجُهود الأولى. أ= من أيْن جاءت كَلمة "النَّحو"؟ ب= ما هي أسباب ظُهور النحو؟ 1= الأسباب الذاتِية: 2= الأسباب المَوضوعية: = العامِل السِّياسي = العَامِلُ الْقَوْمِي = العامِل الدِّيني ت= أوّّل عمل نَظَري. ج= أوَّل عمل "تَطبيقي".
ثانِيا:القرن الثاني: البَصْرَة، كِبار النحاة، المَنهج. أ= لِمَاذا ظهَر النَّحو في البَصْرة ؟ ب= كِبار النُّحاة البصريين. 1= عَبْد الله بن أبي إِسْحَاق الحَضْرَمي (توفي سنة 117 ه / 735م) 2= عِيسَى بن عُمَر الثَّقفي (توفي 149ه / 766م) 3= يُونُس بن حَبِيب:(توفي 182ه/ 798م) 4= الْخَليل بن أحمد الفَراهدي:(توفي 175ه/ 792م)
ثالثا: سِيبَوَيْه و "الكتاب" أو قمة النحو في القرن الثاني أ= قِصة "الكِتاب" و نِسبته إلى سيبويه 1)= الدَّليل الأول 2)= الدَّليل الثاني 3)= الدليل الثالث 4)= الدليل الرابع
النحو عِماد اللغة العالِمة و الأدب و البَلاغة. بل هو عِماد الثّقافة و العلوم العربية القُحّة. فلا فِقه و لا حديث و لا علم كَلام....بدونه. فكم من فَقيه أفتى المسلمين في دينهم من كِتاب سيبوْيه. و كم من قاعدة فِقهية بُنيتْ على أساس قاعِدة نحوية. و الشبه بيْنهما لا يترُك مجالا للشّك. و المكانة التي لهذا العلم جعلتْ أحد جَهابدة العربية؛ أبي سَعيد السيرافي، رَئيس مَدرسة بغداد النحوية، في مُناظرته الشَّهيرة مع "مَتَى بن يُونس"؛(جعلته) يعتبره "مَنطق العرب" الذي يُغنيهم عن "مَنطق أرسطو". أيْ أنَّه جعَله أداة لإكتساب كل أنواع المعرِفة العربية الإسلامية. كل هذا دفعني إلى الكِتابة عن تاريخ النحو من بداياته الأولى إلى أنْ إستقام كعلم قائمة بذاته مستقل عن غيْره في نهاية القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي. لعل هذا المَقال يُفيد القراء الكِرام و يدفعهم إلى إغنائه بنقد أو بتَّصويب أو بإضافة.
أوَّلا: القرن الأوّل/ السَّابِع: الأَسْبَابُ و الجُهود الأُولى.
من أيْن جاءت كَلمة "النَّحو"؟ إذا بحثنا في القاموس نجد أنَّ الكلمة تأتي من فعل "نَحَا / يَنْحُو" بمعنى صار على طَريق مُعيَّن أي اتَّجه و توجَّه. طَريق يؤدّي إلى تعلُّم اللغة بطريقة علمية. و تُجمع المَصادِر أنَّ الكلمة الَّتي تدُلُّ على ما نحن بصدد دِراسته استُعملَت في نِقاش بيْن الخَليفة علي بن أبي طالِب و بيْن أبي الأَسود الدُّؤَلي. فالقصة الأولى الَّتي يَرويها ابْنُ خَلِّكان في كِتابه "وَفَيَاتُ الأَعْيَانِ"ج 2 ص 216 / 217. فعندما أخطأتْ ابنة أبي الأسود في حِوارها مع أبيها ذهب هذا الأخير عند الخَليفة الرابِع "علي" و روى له قِصّته مع ابنته. فخطَّ له هذا الأخير أشيَاء عن اللغة و قال له " اُنحُ هذا النَّحْوَ" و لهذا السبب سُمِّيَ هذا العلم فيما بعد بِ "النَّحْوِ". القِصة الثانية يَحكيها لنا "ابْنُ النَّدِيم" في كِتابه "الفِهْرِسْت" ص 62 / 63 . و هي نَفْسُ القِصة السابِقة إلاَّ أنَّ أبا الأسود هو من نطَق هذه الكلمة عندما استأذن من الخَليفة الَّذي شرَح له أشياء عن العربية " فاستأذنته أنْ أصنَع نَحْوَ ما صنَع" ولذلك سُمِّي هذا العلم "نَحْوًا" بعد ذلك.
و سواء كان الخَليفة "علي" أو "أبو الأسود" هو أوَّل من استعمل هذه الكلمة في هذا السِّياق الَّذي يَهُمُّنَا، فإنَّ النحو هو الطَّريق الَّذي يجب أنْ يَسير عليْه كل من يُريد أنْ يتكلَّم و يكتب عربية سَليمة.
ما هي أسباب ظُهور النحو؟ إذا كانت كُتب التاريخ تكاد تَقول لنا كل شيء عن أسباب ظُهور عُلوم الفِقه و أُصوله و عِلم الحديث و علم التاريخ...فإنَّها لا تَقول لنا شيءً له قِيمة عن أسباب ظُهور علم النحو. بل بالعكس ما تقوله لنا عن ذلك لا يُعطي الأسباب الحَقيقية و يقِف عند قِصة أبي الأسود و ابنته. ربما سُكوتها، كلها بدون استثناء، عن ذِكْرِ تلك الأسباب يرجِع إلى كونها كانت تعتبر إيجاد قواعد لللغة هو شيء أكثر من بديهي و لا يحتاج إلى إيضاح أسبابه. السُّؤال عن أسباب ظُهور النحو سيقودنا إلى تَقسيمها إلى أسباب ذاتية و أُخرى مَوضوعية. + الأسباب الذاتِية: لا يُمكن لأيِّ باحِث يهتَمّ بتاريخ اللغة أنْ يقبَل بهذا السبب الذاتِي الَّذي تُشير إليْه المَصادِر العربية القَديمة كسبب مُباشِر أدَّى إلى ظُهور التَّفكير في وضْع قواعِد لللغة العربية. فهذه المَصادِر تُجمع كلُّها على أنَّ الخَطأ الكَبير الَّذي وقعتْ فيه ابنة أبي الأسود و أدَّى إلى معنى آخر غيْر الَّذي كانت تقصِده هو الَّذي دفَع والِدها إلى عرْض المَسألة، في الغد، على الخَليفة "علي". و هذا الأخير سطَّر الأسطر الأولى في النَّحو العربي و طلَب من أبي الأسود إكمال العمل. فهل من المَعقول أنْ نخلُق قواعِد نحوية للغة ما لمُجَرَّدِ خطأ شخصي ارتكبته فتاة مَهْمَا كان هذا الخطأ كَبيرا و كانت مَكانة المُخطئ. لم نسمَع أبدا أنَّ شعبا وضع قواعِد للغته لأن هناك إنسانا يُخطِئ عندما يتكلَّم. و لكي لا نُطيل في ذلك نَقول ربما كان هذا الخطأ هو النُّقطة الَّتي أفاضتْ كأس أبي الأسود الَّذي كان قبْل ذلك يفكِّر في طَريقة تجعل الناس يتكلَّمون العربية دون أخطاء فادِحة. و قِصّته مع ابنته هي من جعله يُسرع في فعْل شيء ما. +الأسباب المَوضوعية: و هي في رأينا ثلاثة أسباب: الأول ديني و الثاني قومي و الثالِث سِياسي.
= السَّبب الدِّيني: القُرآن هو أوَّل كِتاب خطَّه العرب و قبْله لم يعرِفوا و لم يكتُبوا أيَّ كِتاب آخر. فهُم قوم "أُمِّيُون" لم يكن لهم تاريخ لا في الفكر ولا في الكِتابة. كِتابهم الأوَّل أصبح مصدر كل افتخارهم و اعتزازهم بأنْفُسِهم. و أصبح أيضا مصدر كل شيء عندهم و دفَعهم للتَّفكير في مَواضيع مُجرَّدة لم يكُونوا يُفَكِّرون فيها من قَبْلُ. و هو "مُعْجِزَةٌ" مِنْ حَيْثُ المَبْنَى( اللُّغة) و المَعنى (المَواضِيع). هذا الكِتاب هو الَّذي أخرَج العرب من "اللاَّوُجُود الثَّقافي" إلى "الوُجود الثقافي العالِم". قبل القرآن لم تكن للعرب "ثَقافة عالِمة" و هذا الكِتاب هو الَّذي سيفتَح لهم هذا الباب. في البداية كان العرب / المُسلمون الأوائل يفهَمونه ب"السَّلِيقَةِ" أي بالطَّبِيعَة. و كانوا يستعمِلونه في الرَّد على الثَّقافات الأخْرى ومُناقشتها و مُجادَلتها باعتبارها ثقافات أَرْقى من الثّقافة العربية الإسلامية. لكن مع توالي السَّنوات أصبح المُسلِمون غيْر العرب هم الأغلبية المُطلقة في الدَّولة الإسلامية الواسِعة. ولكي يتعلَّم هؤلاء دِينهم كان عليْهم أنْ يقرؤوا الكِتاب / المَرجِع الوَحيد حوْل الإسلام: القُرآن. و كان عليْهِم أنْ يستعملوه في نِقاشاتهم مع الثَّقافات الأُخْرى. لكن المُشكِلة هي أنَّ هذا القُرآن كَسِلاحٍ ثقافي يصعُب عليْهم استعماله. فمن جِهة هو مَكتوب بدون نقط الإعجام و بدون حركات. و من جهة أخرى ف"المُصْحَفُ" كما كُتِبَ في عهد عُثمان يخلُق من المَشاكِل أكثر مما يحُلُّ. فلا كلمة واحِدة فيه واضِحة الإعراب و المَعنى. كخُلاصة لهذه الفقرة نقول: أصبح المُسلمون العرب يَخافون من المُسلمين غيْر العرب على القرآن. نِهاية القرن الأول الهجري/ نِهاية القرن السَّابِع الميلادي و بداية الثامِن، كانت أغلبية المُسلِمين لا تستطيع أنْ تستعمل السِّلاح الوَحيد الَّذي تملِكه في مُواجَهة الثَّقافات الأُخْرى و السبب يرجِع إلى عدم فهم لغة هذا السِّلاح: أي العربية. إنّ العامِل الدِّيني كان مُهما في ظُهور النحو و الدّليل على ذلك هو أنَّ أوَّل إنجاز عملي في النَّحو، هو ما قام به أبو الأسود كما رأيْنا في مقال سَّابِق، كان يَخُصُّ نَقْط القُرآن. أَضِف إلى ذلك أنَّ كِبار النحاة في مُختلف الفترات التاريخية كانوا مُتخصِّصين في قِراءة القُرآن ابتداء من عبد الله بن أبي إِسحاق الحضرمي كأوَّل نَحْوِي عربي يستحق هذه الصِّفة إلى الخَليل بن أحمد الفراهيدي.
= العَامِلُ الْقَوْمِي: لم يكن هناك ما يوحِّد العرب أكثر من اللغة. أكثر من ذلك فالعُروبة كَهوية لا تعتمد لا على العِرق و لا على التاريخ بل هي هوية لُغوية تعتمد فقط على اللِّسان كمكوِّن واحِد و أوْحد. وإذا كان شاعرنا الكبير زُهيْر بن أبي سُلْمى قد إعتبر أن اللغة هي نصف هوية الإنسان في بيته المَشهور: لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ و نِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ و الدَّمِ فإن أفصح العرب، رسول الإسلام، يجعل اللسان و الهوية سواء في معرض رده على من تعجَّب من فَصاحة "صُهَيْب الرومي" و "سَلْمان الفارِسي" و "بلال الحبشي" و قُوَّة تحكُّمهم في اللُّغة، بقوْله" لَيْسَتِ العَرَبِيَّةُ بأحدكم مِنْ أَبٍ و لاَ أُمٍّ، و إنما هي اللِّسَانُ. فمن تكلّم بالعربية فهو عربي" . ألم يقل أحد العلماء المعاصرين " قل لي أية لغة تتحدّث أقول لك من أنت" العُروبة إذنْ ليستْ دَمًا يَجري في العُروق و ليستْ إِرثًا يترُكه الآباء للأبناء بل هي هوية لُغوية. و من تكلَّم العربية فهو عربي و من فَقَدَها خسِر هويَّته. بهذا الوعي أصبح التَّفكير في حِماية اللُغة العربية من الضَّياع واجِبا قَوْمِيًّا لأنَّ حِمايتها هي حِماية للهوية و للذات قبْل كلِّ شيء. من جِهة أُخرى وجَد العرب أنْفُسَهُم و سط رُقعة جغرافية قد عرفتْ أرقى الحَضارات الإنسانية إلى ذلك التَّاريخ. وسَط كلِّ هذه الحَضارات و إنتاجاتها الثَّقافية و المَادية الَّتي تدعو إلى الإفتخار. وسط هاته الأُمم الراقِية كان العرب هم الأضعف ثَقافة و حَضارة و عِلما. و لم يكونوا يملِكون شيءً يُمكنهم أنْ يفتخروا به غيْر لُغتهم. فالعربي لا يملِك شيء غيْر لُغته الجَميلة الَّتي يعشَقُها إلى حَدِّ التَّقديس خُصوصا و هي اللُّغة الَّتي اختارها الله كوَسيلة لتَبليغ آخِر رسالاته إلى الناس. هذه اللُّغة المَعشوقة إلى درجة القَداسة، أصبحت، ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني الهجري / النِّصف الثاني من القرن الثامِن الميلادي، مُهدَّدة في وُجودها. فوسط كل تلك الأقوام من أفغان و باكستانيين و إيرانيين و أتراك و أقباط و أمازيغ و إغريق و رومان و بيزنطيين... بدأتْ العربية تَضيع خُصوصا و أنَّ تعلُّمَها يتطلَّب الإقامة بيْن أهلها لأنَّها لُغة لا قواعِدَ لها. و حتى أصحابها الَّذين اختلطوا بالشُّعوب الأُخرى بدؤوا يجِدون صُعوبة في استعمالها. فهذا الخَليفة الأُموي "عَبْد المَلِكِ بن مَرْوان" كان يقرَأ القُرآن و يرتكب أخطاء كَثيرة جدًّا رغم كوْنه عربيا من قُرَيْش. و تذكُر المَصادِر القَديمة أنَّ "الحَجَّاجَ بن يُوسف" القائد الأَعلى للجيْش الأُموي، وهو عربي من "ثَقِيف"، نَفَى "يَحْيَى بن يَعْمُر" لأنَّه كان يصحِّح له أخطاءه عندما يتكلَّم أو يقرَأ القُرآن. أنْ تسيْطر سِياسيا و عسكريا على شُعوب هي أقوى منك ثقافة و حَضارة شيء مُمكن و لكن مع مُرور الوقت هذه الشُّعوب هي الَّتي ستنتصر لأنها هي صاحِبة الفكر و الثَّقافة و اللُّغة الأرقى. هذا الإحساس بالنَّقص و الضَّعف أمام الأمم الأُخرى جعَل إرادة العرب قوية جدًّا في تأسيس ثَقافة خاصة بهم و المُساهمة عن طَريقها في الحَضارة الإنسانية. هذا كلِّه يَبقى مُستحيلا بدون لُغة مَضبوطَة و منظَّمة تشكِّل وِعاء للفكر و الثَّقافة و تُعطيهما هَوِيَّتهما. لذلك أوَّل مَوضوع فكَّر فيه العقل العربي العالِم و أنتج فيه مَعرفة عالِمة هو اللُّغة. و تظْهر أهمية "التَّقعيد للغة" في عُقول المُفكِّرين العرب في تلك الفترة من خِلال عدم وُجود أيَّ تَأثير أجنبي، و لو في حَدِّه الأدنى، في البناء النحوي الَّذي أقاموه و ذلك باعتراف كل الدَّارسين بمن فيهم أُولئك الَّذين لا يتردَّدون في إرجاع كل إنتاج فِكري عربي إلى الحضارات الأُخرى و خاصة تلك الَّتي يعتقدون خطأ أنَّها أوربية غربية، و أقصِد بذلك الحَضارة الإغريقية.
= العامِل السِّياسي: مع ظُهور الإسلام كان العرب يفتخرون بإسلامهم. و لكن مع الأمويين أصبحتْ الدوْلة عربية أكثر منها إسلامِية. كل الدِّراسات التَّاريخية تُفيد أنَّ الخُلفاء الأمويين كانوا يفضِّلون العرب على غيْر العرب. بدأ ذلك عندما قرَّر الخَليفة "عَبْدَ المَلِك بن مَرْوَان" أنْ تَكون لُغة الدَّولة و الإدارة هي اللُّغة العربية فقط دون غيْرها. هذا القَرار جعَل المُسلم غيْر العربي يجد صُعوبة كَبيرة في العمل في الإدارة نظرا لحاجِز اللُّغة. و هذا ما يشرَح، و لو جُزئيا، وُجُود عرب مَسيحيين في مَناصِب سِياسية و إدارية كَبيرة في الدَّولة، و غِياب مُسلمين غيْر عرب. بل حتى أولئك المُسلمين غيْر العرب الَّذين تربَّوْا في بيئة و جَوٍّ عربي و أتقنوا العربية ربما أحسن من العرب أنفُسِهم لم يجِدوا لهم منصبا عند الدَّولة الأموية. فهذا "الحَسَن البَصْري" رغم مَكانته العلمية و تربيته في بيْت "أُمِّ سَلَمَة"، زَوْجة النبي، لم يحصُل على أيِّ مَنصِب لدى الأُمويين. لكن بمُجَرَّدِ ظُهور نَتائج الجُهود الأولى في النحو، ظهَر غيْر العرب على الساحَة الثَّقافية و الإدارية مع نِهاية الدولة الأموية و بداية الدوْلة العباسية الَّتي وصلوا معها إلى أعلى المَراتِب. يُمكننا أنْ نَقول إنَّ تعلُّم غيْر العرب للعربية، في ظِلِّ الأمويين، كان يسمَح لهم بالمُرور من "وضعية الأجنبي إلى وضعية المُواطِن" و يفتَح أبواب المَناصِب الإدارية و السِّياسية.
+ أوّّل عمل نَظَري. تذكُر المَصادِر الَّتي اهتمت باللغة أنَّ أوَّل عمل نظري في النحو يرجِع إلى أبي الأسود الدؤلي و إلى الخَليفة علي بن أبي طالِب و إنْ كانت الرِّوايات تختلف قَليلا عن بعضها. و تجنُّبا للتكرار، سوف نعرِض ثلاث رِوايات فقط حول هذا العمل النَّظَري الأوَّل. الرِّواية الأولى يرويها لنا "ابن النَّدِيم" في كِتابه "الفِهْرِسْت" و الثانية يرويها "القِفْطِي" في كتابه " إِنْبَاهُ الرُّوَاةُ عَلَى أنْبَاهِ النُّحاة" و الثالثة يرويها "ابن خلِّكان" في كِتابه "وَفَيَاتُ الأَعْيَان" 1= يَروي "ابن النَّديم" في ص63/64 عن "مُحمد بن إسْحاق" قصة يتحدّث فيها هذا الأخير عن إطِّلاعه في مَدينة "حَدِثة" (غرب العراق)، على مَكتبة كَبيرة جدا فيها كُتب نادِرة في النحو و اللغة و الأدب، كان يملِكها رجل إسمه "مُحَمد بن الحُسيْن"، حيْث رأى " فيها ما يَدُلُّ على أنَّ النَّحْوَ عن أبي الأسود ما هذه حِكايته: و هي أربعة أوراق أَحْسَبُهَا مِنْ وَرَقِ الصِّينِي تَرْجَمَتُها: هذه فيها كَلامٌ في الْفاعِل و المَفْعول من أبي الأسود، رَحْمَةُ الله عَلَيْهِ، بخَطِّ يَحْيَى بن يَعْمُر. و تحت هذا الخَطِّ بِخَطِّ عَتِيقِ، هَذا خَطُّ عَلاَّن النَّحْوي. و تحته، هذا خطُّ "النَّظْر بن شميل"" 2= يروي القِفطي في الجزء الأول ص 39 حِوارا بيْن أبي الأسود و الخَليفة "علي بن أبي طالِب" عن ضَرورة وضْع قَواعِد للعربية. ومن هذه الرواية يظهَر ما يلى: = الخَليفة يُعطي لأبي الأسود صَحيفة و قد كتَب فيها:" بسم الله الرحمن الرحيم. الكَلاَمُ إِسْمٌ و فِعْلٌ و حَرْفُ. فالإسْمُ ما أَنْبَأَ عَنْ مُسَمَّى، و الفِعْلُ ما أَنْبَأَ عن حَرَكة المُسمَّى، و الحَرْفُ ما أَنْبَأَ عن مَعْنًى ليْس بإِسْمٍ و لاَ فِعْلٍ" و بعد مَجموعة من النَّصائح، طلَب منه أنْ يُكمِل العمل. = يَقُول أبو الأسود " فَجَمَعتُ أشياء و عرَضتُّها عليْهِ، فكان في ذلك حُروف النَّصْبِ، فذكَرتُ منها: إِنَّ و أَنَّ و ليْت و لَعَلَّ و كَأَنَّ. و لم أذكُر لَكِنَّ، فقال: لِمَ ترَكتَها؟ فقلتُ: لمْ أحسِبها مِنها. فقال: بلى هي منها، فَزِدْها فيها" و يختِم القِفْطي بقوْله: " و رَأَيْتُ بمِصْرَ...بأَيْدِى الوَرَّاقِينَ جُزْءً فيه أَبْوَابٌ من النَّحْوِ يُجْمِعُونَ على أنَّها مقدِّمة علي بن أبي طالب الَّتي أخذَها عنه أبو الأسود" 3 = يَرْوِي ابن خَلِّكان الجُزء الثاني ص 216/ 217 أنَّ الخَليفة "علي" علَّم أبا الأسود " أَبْوَابًا من النَّحو منها بابَ إِنَّ، و بابَ الإضافة، و بابَ الإمالة" و أنَّ أبا الأسود اشتغل "بوضْع أبوابٍ أُخرى في النَّحو، منها باب العَطْفِ، و باب التَّعَجُّب، و باب الإِسْتِفْهام" من خِلال هذه الروايات الثلاث يظهَر عدم الإتِّفاق حوْل أوَّلِ شيْء كُتِبَ في النحو. و كذا حوْل حجْم ما كُتِبَ هل هو بِضْعَةُ أوْراقٍ أم مقدِّمة كامِلة بأبواب و تَفاصِيل. و هناك رِوايات أخرى لاتتَّفِقُ حوْل من هو أوَّل من قام بِأوَّلِ عملٍ نحوي يلخِّصها "أبو سَعيد السِّيرافي" في ص 13 من كِتابه "أَخْبَارُ النَّحْوِيِين البَصْرِيِين" قائلا:" اخْتَلَفَ النَّاسُ في أوَّل من رَسَمَ النَّحْوَ، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، و قِيل: هو نَصْرُ بن عاصِم، و قِيلَ: بل عبْدُ الرَّحْمَن بن هُرْمُز، و أكثر الناس على أنَّه أبو الأسود الدُّؤلي". و إذا كان هذا الإختلاف شيْءً طَبيعيًا لأنَّ العُلوم، عند كل الأُمَم، تبدَأ بَسيطة و تظهَر شيءً فشيءً. و لا يُعْرَف، عادة، صاحِب الخُطْوَةِ الأولى. فإنَّ الأستاذ "شَوْقي ضيْف" (ص14) يَشُكُّ عن حق في مُشارَكة الخَليفة "علي" بنفسه في العمل الأوَّل، لأنَّ رَئيس الدوْلة له مَشاغِل أخرى، خُصوصا "علي" الَّذي كانتْ فَترة حُكْمِه فيها حُروب و مَشاكِل كَبيرة. لقد ساعدتْنا مُلاحَظَته هذه على التَّدقيق في الرِّوايات الثلاث، فوجدنا فيها مُصْطَلَحات و تَعريفات دَقيقة يسْتحيل أنْ تَكونَ قد ظهرتْ في أوَّل عمل نَظَري نحوي. و ما يعزِّز هذا الإستنتاج هو أنَّ "أبا الأسود" لم يستعملها في العمل التَّطبيقي الأول الَّذي قام به و هو نَقْطُ القُرآن.
+ أوَّل عمل "تَطبيقي". إذا كان العمل النَّظَري الأوَّل كما تُعطيه لنا المَصادِر يَدعو للشَّكِّ، فإنَّ هذه المَصادِر تَكاد تُجْمِعُ أنَّ العمل "التَّطبيقي" الأول كان هو نَقْطُ أبي الأسود للقرآن. فسواء كان العمل بطلب من "الحَجَّاج بن يُوسف" أو "زِيَاد بن أَبِيه" أو غيْرهما فإنَّ أبا الأسود قال لكاتِبه، حسَب ما يَقوله " أبو عَمْرو الدَّاني" في "المُحكَم..." ص3/4 :" إذا رَأَيْتَنِي فَتَحْتُ شَفَتِي بالْحَرْفِ فانْقُطْ وَاحِدَةً فَوْقَهُ، وَ إِذَا كَسَرْتُهَا فَانْقُطْ وَاحِدَةً أَسْفَلَهُ، وَإِذَا ضَمَمْتُهَا فَاجْعَلِ النُّقْطَةَ بيْن يَدَيِ الْحَرْفِ، فَإِنْ تَبِعَتْ شَيْءً مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ غُنَّةٌ (تَنْوين) فانْقُطْ نُقْطَتَيْنِ." و كان يُراجِع كلَّ صَفحة إلى أنْ أكمل نَقْطَ المُصْحَف. و كان لوْن النُّقط مُخالِفا للوْنِ الحُروف لكي لا يختلط الأمر على النَّاس. وقد سار تَلاميذ أبي الأسود على طَريقته هذه و زادوا فيها أشياء كَثيرة. لعل هذا العمل الكَبير و العَظيم الَّذي سهَّل كَثيرا على الناس قِراءة القرآن هو الَّذي جعَل الإعتقاد سائدا أنَّ أبا الأسود هو أوَّل من وضَع النَّحو. بالفعل كان الدؤلي و تلاميذه من القراء و من أصحاب السَّليقة و لكنهم بوضع علامات أواخِر الكلمات في المُصحف يكونون قد لمَسوا "كُنْه" النحو العربي كما نعرِفه حتى اليوْم. والحَقيقة أنَّه يصعُب عليَّ أنْ أقتنع بأنَّه قاموا بكل هذا العمل دون أنْ يطرَحوا على أنفسهم أسئلة بَديهية من قَبيل كيف؟ و ما السَّبب؟ و لماذا؟ و أنَّهم لم يحاوِلوا أنْ يَجِدوا لها أجوبة و إنْ كانت بداية أجوبة غيْر كاملة و لا منظَّمة. كيف؟ و ما السبب؟ و لماذا؟ أسئلة تَقود إلى فكر منظَّم و بناء نظري و مصطلحات خاصة. هذا ما ستُنتجه البصرة و أوائل كِبار نُحاتها و هو ما سندرُسه في الفقرات التالية.
ثانِيا:القرن الثاني: البَصْرَة، كِبار النحاة، المَنهج. بإجماع المَصادِر التاريخية و اللغوية و الأدبية فإن مَدينة البصرة هي مَهد الفكر النحوي العربي. الفكر بكل معنى الكلمة أي: مَوضوع محدَّد، مَنهج للبحث، مُصطلحات خاصة. لكن هذه المَصادِر لا تذكُر سببا مقنِعا يشرَح لماذا البصرة دون غيْرها كانت مهدا لذلك. في الفقرة التالية سنطرَح السؤال و سنحاول أنْ نوجد له و لو بداية لجواب.
أ= البصرة مهد التَّفكير النحوي. لعل السبب الَّذي أهّل البصرة لكي تَكون المدينة الَّتي عرفتْ بداية الفكر النحوي هو خاصياتها كمَدينة. أقصد خاصياتها الجغرافية و البشرية و التاريخية و الثقافية. فمن حيْث الموقع الجغرافي هي مَدينة على البحر تُطلّ على ثلاثة عوالم ذات ثقافات قَديمة. فهي مَفتوحة على الشرق الهندي الإيراني و على الشمال و الغرب البيزنطي الإغريقي و كذا على الجنوب العربي و مكوِّناته. هذا الإنفتاح جعل هذه المَدينة مُلتقى للحضارات و الثقافات القديمة في المَنطقة. هذا الإنفتاح يؤكِّده الإختلاط العرقي بيْن أقوام متعدِّدة. كَثيرة هي النُّصوص العربية الَّتي تعتبر البصرة " عاصِمة عراق العجم" لكثرة الأقوام فيها. التعدُّد العرقي و الثقافي هذا جعل هذه المَدينة مَدينة الأخطاء اللغوية بامتياز. إضافة إلى ذلك فإنها مَرفأ بحري و صحراوي كان يعج بالبضائع و التجار من كل أنحاء الدُّنيا. و الكل يعرف أنّ التِّجارة ليست تبادلا للبضائع فقط بل أيضا للأفكار و الكتب و التجارب. و لذلك يُقال: "إنّ التِّجارة تفتَح الدِّماغ". هذا الإحتكاك و هذا التعدُّد الثقافي و العرقي سيجعل البصرة مَدينة العقل بامتياز. هذه الخاصِية ساهَمت فيها نوعية الثقافة العربية الّتي استقرتْ فيها. فأهم صَحابي استقرَّ فيها هو "أنس بن مالك" الَّذي أنقدته حداثة سنه في الصُّحبة النبوية من السُّقوط في "نصية الحَديث و الرواية" أي النقل. ولعل هذه الثقافة العقلية الطابَع هي الَّتي صعَّبتْ على الفكر الشِّيعي اللاعقلاني أنْ يجد له فيها موقِع قدم دائم إلى حدود الفترة الّتي تهُمّنا. أي مركز تِجاري مَفتوح ومتعدِّد الأعراق و الثقافات تغيب فيه النصية و اللاعقلانية لا يُمكن إلاّ أنْ يَكون مركزا للتجديد في كل الميادين. أليْست البصرة هي من أنتجت أوائل العُقول العربية العلمية المنظَّمة. فهي مدينة الحَسَن البَصْري المَوسوعي، و وَاصِل بن عَطَاء "العقلاني المُعتزلي"، و أبي حَنيفة النُّعمان "إمام أهل الرأي في الفقه"...ليْس غَريبا على مَدينة أنتجتْ كل هؤلاء العلماء المفكِّرين و المُبدِعين أنْ تُنتج فِكرا جَديدا و خِطابا يجعَل العربية مَوضوعا له.
ب= كِبار النُّحاة البصريين. 1= عَبْد الله بن أبي إِسْحَاق الحَضْرَمي (توفي سنة 117 ه / 735م) و هو تلميذ " يَحْيَى بن يَعْمُر" و "نَصْر بن عَاصِم". وهو من" آل الحَضرمي" وهي قَبيلة عربية قُحة و عنها أخذ لسنوات طَويلة. وقد اعتبره شوقي ضيف ص 22 " أوّل النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة...يُعَدُّ بحق أستاذ المدرسة البصرية". و قد اعتبره القِفطي ج2 ص104 "العلامة في علم العربية( أي النحو)" و لم يستعمل صِيغة المبالغة مع من ترجم لهم قبْله. وعندما سئل عنه" يونس بن حَبيب"، و ما أدراك ما يونس بن حَبيب، قال " هو و النحو سواء" (القفطي ج2 ص 105) و لكن الزُّبيْدي (ص31) يجعل جوابه " هو و البحر سواء". إذن فنحن أمام شخص "علاّمة" في علم العربية أي النحو، و لكثرة اشتغاله به اعتبر اسمه مرادفا "للنحو" و لضخامة علمه به اعتبر " بحرا" فيه. كل هذا يدفَعنا إلى التساؤُل عن إسهامه الفكري في النحو. لم يكتُب الحضرمي أي كِتاب في النحو بل اكتفى بالتَّدريس و الإملاء على تلامذته. و يذكُر شوقي ضيف أنه تكلَّم في الهمز و فصّل كل شيء فيه حتى عُمِل فيه كتاب مما أملاه. كونه "هو والنحو سواء" قد يبدو متناقِضا مع عدم تَدوينه لأي كِتابة. لكن هذه مسألة عادِية باعتبار المَرحلة الَّتي عاش خِلالها. و قد لخَّص ابن سلام مساهَمة الحضرمي النحوية في "الطبقات" ص14 بقوله " أول من بَعَّجَ النَّحْو، و مَدَّ القِيَاسَ و شَرَحَ العِلَلَ"
1= "أوّل من بَعَّجَ النَّحْوَ" : و "التَّبعيج" يَعني الفَتْقُ و النَّحْتُ. و كِلاهما يدلُّ على الخلق و الإبداع انطلاقا من مادة خامة هي اللغة المَأخوذة من مَصادِرها الموثوقة الَّتي حدّدها بشكل دَقيق. لقد كان أوَّل من "فرَّع... النحو" حسب ما أورده أبو الطيب اللغوي، و التفريع هو التَّبويب و التَّصنيف. أي أنَّه جعل النحو أبوابا متناغِمة و هذا لا يتأتَّى إلا لمن كان شَديد المُلاحظة كَثير الإستقراء.
2= " مَدَّ القِيَاسَ " أي أنّه أكثر من إستعمال منهج نظري محكَم يتأكد بواسِطته من أنَّ أبوابه و تَصنيفاتِه بعد تَجريد مفاهيمها يُمكن أن تُطَبَّق على أشياء أخرى في اللغة لم يتمكَّن من إستقرائها. فما تمكَّن من إستقرائه أصبح لديه بمَثابة "الأصل" الَّذي يُمكن أنْ يَبني و يَقيس عليه أشياء أخرى. فما لاحظه و وضَع له قواعدَ فهو "أصل" و ما لم يدرُسه فهو "فَرْعٌ" و لكي يُعمِّمَ حُكْمَ الفرع على الأصل إستعمل "القِياس" و اشترط وجود أوجه الشبه بينهما. بواسِطة هذه الآلية الذهنية الدَّقيقة تمكَّن من وضْع هيْكل أو هَياكِل نحوية و كان لا يُطيق من لا يحترمها. و من هنا نستطيع أنْ نفهم مشادّاته مع الشاعر العربي الكبير "الفَرَزْدَق" الَّتي أوصلها هذا الأخير إلى حدِّ السبِّ و التَّجريح الشَّخصييْن. و كذلك كثرة تَصحيحه لأخطاء "مُحَمَّد بن سِيرِين"؛ و هو من هو في العِلم، إذْ كانت حلقاتهما متجاوِرتيْن في المَسجِد؛ هي من دفعتْ ابن سِيرين إلى القول " لقد بَغَّضَ إلينا هؤلاء(النُّحاة) المَسجِد". لقد كان "الحَضْرَمي" أوَّل من يُطبِّق هذا البناء النظري الإستنباطي النحوي، و قد سعى إلى تَطْبيقه حتى في "القِراءة". فهو كأحد أكبر المُتخصِّصين في قِراءة القُرآن لم يكن يرى أنَّها "تواثُر" عن الرسول و الصَّحابة، بل يجب أنْ تخضَع لقواعِده النحوية، رغم إحتجاجات باقي القرَّاء، و هو ما يشرُح كوْنها اليوْم تُعْتَبَرُ من "القِراءات الشَّاذة". هذا البناء النَّظري كان يُلزم به طُلابه إذْ بعد ردِّه على سُؤال أحد تلامذته أنهى كلامه بقوله " عليك بما يَنْطَرِدُ و ما يُقَاسُ". وفي نفس الجواب عبَّر عن غضَبه من سؤال يَهُمُّ اللغة و ليْس النحو. و هذا يَعني لنا أنه كمفكِّر كان صاحِب وعي بتخصُّصِه رغم أنَّ الدِّراسات اللغوية النحوية كانت في بِداية الطَّريق. و لا نجد شهادة في حق هذا العالِم أفضل من شَهادة تِلميذه "يُونس بن حَبيب" الَّذي قال عنه سنوات بعد موته " لو كان بيْننا من هو في عِلمه لَكانَ أعْلَمَ الناسِ"
3= "شَرَحَ العِلَلَ" بعد الإستقراء و الملاحَظة و التعميم يأتي التَّعليل. أي البحث في علة الظاهرة النحوية أي في سببها. فلا علم بدون التَّكلُّم عن أسباب الظاهِرة المَدروسة. فهو لم يكن يقِف عند وضع القاعدة و التأكُّد منها بل يتعدَّى ذلك إلى شَرْحِ أسباب وجود القاعِدة نفسها. لكن شهادة تلميذه "يونس بن حَبيب" الّتي يقول فيها "و لكن إذا قال أحدنا بِعِلله لضحك منه الناس" تأتي لتقلِّل من مُساهمة الحَضْرَمي في شرح العلل. هذه الشهادة و إنْ كانت توحي بأنَّ شرْح العلل النحوية قد عرف تطوُّرا كبيرا بعد الحضرمي، فإنَّها تدفعُنا لطرْح سؤال عن أي مستوى من علل الحَضْرمي أصبح "يضحَك منه الناس"؟ هل هي العلل التَّعليمية؟ أم القِياسية؟ أم النَّظرية؟ لا يُمكن بأي حال من الأحوال أنْ يخُصّ ذلك العلل التَّعليمية لأنّ أستاذا في النحو، حتى و لو لم يكن من وزن الحَضْرمي، لا يُمكن أنْ تُصبح علله التَّعليمية بدون قِيمة بعد خَمسين سنة على الأكثر من وفاته. كيف يُمكن ذلك لمن درّس لأكبر النحاة الَّذين جاؤوا بعده مثل "يونس بن حَبيب" و "أبو عمرو بن العلاء" و " عيسى بن عمر" و نحن نعلَم أنه كان يركِّز كثيرا على العلل لأنه كان يُريد أنْ " يُمَكِّنَ لَهَا فِي ذِهْنِ تَلاَمِيذِهِ"(ضيف ص23). كخلاصة يُمكننا القول إنَّ كل من لا يُتقن العلل التَّعليمية لا يُمكنه أنْ يدرِّس النحو ولا أنْ يخرِّج التلاميذ. و الحَضْرمي هو أستاذ جيل بِكامله. إذا كنا متأكِّدين من أنَّ شهادة يونس بن حَبيب لا تخُصُّ العلل التَّعليمية، فإنَّنا شبه متأكِّدين أنّها لا تخُصُّ أيضا العلل القِياسية لأنَّ الحَضْرمي كان بارعا في القِياس ومده إلى أبعد حد حَسَبَ ابن سَلاَّم. و القِياس أصلا يحتاج إلى علة أو علتين تجمع بيْن المَقِيسِ و المَقِيسِ عليه لكي يتساويا في الحُكم لدرجة أنَّ هناك من عرَّف النحو بقوْله:" النحو قِياس يُتبع". إضافة إلى ذلك ف"يونس بن حَبيب" هو نفسه من إعتبر الحضرمي " هو و النحو سواء". ومن أصبح هو و النحو سواء أصبح هو و القِياس سواء. إذا كان كل هذا كذلك، فهل من المَعقول أنْ يثبُت قِياسه وتفسُد علله مع العلم أنَّ القِياس قائم على العلل و يسقُط بسُقوطها؟ قياسه أو قِياساته ثابتة لأنَّ علله القِياسية صَحيحة. تَبْقى العلل النظرية و هي مَجموعة من الأسئلة ذات طَبيعة فلسفية يُريد النَّحوي من خِلالها أنْ يذهَب بتَفكيره إلى أبعد مدى في شرْح قواعِده النحوية وإعطائها بعدا عقليا خالصا. في هذا النوْع من العلل يُمكن أنْ يَكون الحَضْرَمي قد غامَر ببعض الإجابات جعلت تلميذه يعلِّق عليها في شهادته الَّتي ذكرناها سابِقا. قبْل أنْ يلومني أحد، أقول إنَّ الفقرات التي حاولتُ من خِلالها أنْ أوضِّح المستوى الَّذي يجب أنْ نفهَم عنده شهادة "يونس بن حَبيب" بربطها بقولة "ابن سلاَّم" يبقى بناء نظريا نعتقد أنه منطقي. و لكننا نفتقد إلى أدنى نص تاريخي يُمكنه أنْ يعزِّز فهمنا لكل ذلك. تاريخ وفاة الحَضْرمي (117ه / 735م ) يعني أنّه عاش معظَم حياته في القرن الأوَّل الهجري، لكن إنتاجه و نسقه الفِكري ينتميان بلا أدنى شكِّ إلى الإنتاج الفكري النحوي للقرن الثاني الهجري وهو ما جعلنا ندرسه مع كِبار النحاة في القرن الثاني. مات الحضرمي ولم يترك لنا كِتابا واحِدا لكنه كوّن تلاميذ سيصبحون بعده الممثِّلين الفعليين للمدرسة النحوية في البصرة. و من أشهر تلاميذه عيسى بن عمر الثَّقفي.
2= عِيسَى بن عُمَر الثَّقفي (توفي 149ه / 766م) هو بالتَّبنِّي من عائلة الصحابي خالد بن الوليد. عاش طَويلاً في قَبيلة "ثَقيف" العربية في جنوب شرق مكة. كان " من القُرَّاء، و كان ضَريرا، و هو بَصْرِيُّ العِلْمِ و المَذْهَبِ. من الأَوَائِلِ" حسب ابن النَّدِيمِ (ص66). و قد سار على نفس طَريقة أستاذه الحَضْرمي حيث كان " يَطْرُدُ القِيَاسَ و يُعَمِّمُهُ" (ضيف ص25) على ما لم يسمَعه من كلام العرب. و كان أيضا لا يقبَل الأخطاء النحوية حتّى في الشعر. و يذكر القِفطي(ج2 ص 375) نقلا عن محمد بن سلاَّم أنه"كان يطعَن على العرب، و يخطِّئ المَشاهير منهم، مثل النابغة في بعض أشعاره و غيره" و نحن نعلَم أنّ النابغة هو "أستاذ الشعراء" و أنَّ الشعر الجاهلي يعتبِره اللغويون والنحاة أحد أهم المصادِر مع القرآن و كلام العرب. و مثل أستاذه، كان يطبِّق قواعده النحوية حتى في "القِراءة" ويفضِّل النَّصْبَ (الفتحة) في حال الإختلاف لأنه كان يعتبرها أخَفَّ و ألطف من الضمة و الكسرة. إضافة إلى كل ذلك، كان عيسى بن عمر أول من تكلَّم عن العَوامِل المَحذوفة و المقدَّرة، و هو باب سيُكمله و سيشتهر به تِلميذه الخَليل بن أحمد (ضيف ص 26). و أهم من هذا و ذاك فإنّ عيسى بن عمر هو أوَّل من دوَّن الكُتب في النحو. و كان عيسى بن عمر، حسب ما سمعه منه الأصمَعي، يقول:"لقد كنتُ أكتب بالليل حتى ينقطع سوئي أي وسَطي" (ياقوت الحموي ج 4 ص 520/ 521) يقول القِفطي(ج2 ص375) "و له في النحو نَيِّفٌ و سَبْعُونَ تَصْنِيفًا، عُدِمَتْ" دون أنْ يذكر كيف ضاعتْ هذه الكُتب. لكن في نفس الكِتاب(ص346) جاء على لسان سِيبَوَيْه " وأنَّ بعضَ أهْلِ اليَسَارِ جَمَعها و أتتْ عليْها عنده آفة(نار؟) فذهَبتْ(احترقتْ؟)، و لم يبق منها في الوجود سوى تَصنيفيْن". و رغم أن الكتابين كانا قد فُقدا على زمن ياقوت الحموي ( ما علمنا أحدا رآهما و لا عرفهما ص 519) فإنه أوْرد شهادة للمبرد يقول فيها " قرأت أوراقا من أحد كِتابي عيسى بن عمر" (ص 520) نحن متأكِّدون إذن أنّ عيسى بن عمر كتب أكثر من سَبْعين كتابا في النحو لم يبق منها إلا كِتابان في زمن سِيبويه (توفي 179ه / 796م ). هذان الكتابان هما " تَصنيفان كَبيران، إسم أحدهما "الإكمال" و الآخر "الجامِع""(القِفطي ج2ص375). و حتى وإنْ أخطأ ابن النديم في "الفهرست" في عنوان الكِتاب الثاني بجعله "المُكَمِّل" بدل " الإكمال" (ص66) فإنَّ الثابت بإجماع المَصادِر أنّ العنوان هو "الإكمال". و حسب أبي الطيب اللغوي "..هما مَبسوط و مختصَر" (ياقوت ص 519) من خِلال العنوانيْن يبدو أنّ الكتاب الّذي صُنِّف أولا هو "الجامِع" و أن كتاب "الإكمال" جاء ثانيا ر بما لإتمام الكِتاب الأوَّل. فأين هما الكِتابان؟ نحن نعرِف، بشهادة سيبويه نفسِه، أنَّ كِتاب "الإكمال" كان مَوجودا عند رجل مَعروف في فارِس(إيران). أما الكِتاب الثاني " الجامِع"، ومن خِلال نفس الشَّهادة، كان "سِيبَوَيْه" يملِك نُسخة منه، و كان يسأَل كَثيرا أستاذه الخليل عن كل ما لم يكن يفهمه في ذلك الكِتاب. سنعود للحَديث عن "الجامِع" عندما سنتحدث عن " الكِتاب" لسِيبَوَيْه. يقول الخَليل بن أحمد عن الكِتابين ارتجالا،ا وإنْ كان "ابن النديم" (ص66) ينسِب البيتين للقاضي "أبوسعيد"(ص66): ذَهَبَ النَّحْوُ جَمِيعًا كُلُّه غَيْرَ مَا أحْدَثَ عِيسى بن عمر ذاك "إِكْمَالٌ" و هَذَا "جَامِعٌ" فَهُمَا للنَّاسِ شَمْسٌ وَ قَمَرٌ.
كل النحو، بشهادة الخَليل، لا يساوي شيء باستثناء كِتابي عيسى بن عمر، لأنهما شمس و قمر يُنيران حياة الناس في النحو و لا يحتاجون غيرهما.
3= يُونُس بن حَبِيب:(توفي 182ه/ 798م) وُلِد سنة 94ه / 713م و عاش أكثر من ثمانية و ثمانين عاما. درَس على يد "الحَضْرَمي" و "عيسى بن عمر" و "أبي عمرو بن العلاء"(توفي 154ه/ 771م). حسب المَصادِر كان شَديد الإهتمام باللُّغة و التَّدريس. حفظت لنا المصادِر الكَثير عن يونس اللغوي و هو شيء سنتطرَّق له في مقال خاص عن جمْع اللغة و لم تحفَظ لنا عن يونس النحوي إلا القَليل. فهذا ابن النديم (ص66) يعتبره " أَعْلَمَ النَّاسِ بِتَصَارِيفِ النَّحْوِ" وفي نفس الإتِّجاه يذهَب القِِفطي (ج4 ص76) بقوْله:" كان يونس بارِعا في النَّحْوِ ...و له قِيَاسٌ في النَّحْوِ و مَذاهِبُ يَنْفَرِدُ بِها". من خِلال الشَّهادتيْن نعرف أنَّ صاحِبنا كان عالما في النحو و لكن كانت له آراء خاصة به لا تُوافِق لا آراء الخَليل و لا آراء سيبويه. و هذا في نظرنا يشرَح غِياب آرائه النحوية في كِتاب تلميذه سيبويه، المرجِع الوَحيد المُباشر لهذه الفترة. رغم أنّ سيبويه يذكره 230 مرة في كِتابه و لكن فقط في باب التركيب و الأقيسة أي فقط في الأبواب التي لا يختلف فيها تَقريبا مع الخَليل.
4= الخَلِيل بن أحمد الفراهدي: (توفي 175ه/ 792م) هو أول نحوي عربي نعرِف، بطريقة شبه مباشرة، تَقريبا كل آرائه النحوية بفضل "الألف" صفحة التي دوَّنها عنه تلميذه سيبويه. بل إنَّ يونس بن حَبيب عندما أطلعه "الأخفش" على كِتاب سيبويه، بعد موْت هذا الأخير، أقسم قائلا "و الله هذا مختصَر ما قاله الخَليل". إذا كان "الكِتاب" كله مختصَر ما قاله الخَليل، فكيف يمكنني في أسطر أن أكتب عن مُساهمته في تاريخ النحو؟ الحلّ الذي أقترحه هو أن نذكر نقط معينة فقط توضِّح أهم إسهاماته دون الدخول في كثرة الأمثلة: أ= هو الذي وضع الأصول و القواعد العامة للنحو و الصرف بأبوابها و مصطلحاتها التي لازلنا نستعملها حتى اليوم. ب= هو الذي وضع مصطلحات "الرفع" و "النصب" و "الخفض" للكلمات المُعربة تَمييزا لها عن مُصطلحات "الضم" و "الفتْح" و "الجر" التي خصَّصها للكلمات المبنية. ت= هو من إعتبر أنَّ "×َانِ" و "×َيْنِ" في المُثنّى، و "×ُونَ" و "×ِين" في جمع المُذكَّر السالم ، (أنّها) حروفا للإعراب مثل الفَتحة و الضمة و الكسرة في المُفرد و جمع التَّكسير ث= هو من اخترع المِيزان الصَّرفي العربي و أوزانه و تكلَّم عن المُجرَّد و المَزيد و جعله ثلاثيا أو رُباعِيا أو خُماسيا. ج= هو من جمع الحُروف الزائدة عن الجذر في كلمة "سَألْتُمُونِيهَا". خ= هو من وضع قواعد الإعلال التي تسمَح لنا الآن بتصريف كل الأفعال المُعتلّة، و ما أكثرها في العربية، بدقة متناهية تفقِدها معظم لغات العالم. د= هو من تحدَّث عن "النحت" في العربية بأمثلة بسيطة و كيف أنّ بعض الكلمات العربية أصلها كلمتان ضُمَّتا إلى بعض: لَنْ = لاَ + أنْ. قبل أنْ تسقُط الهمزة للتَّخفيف ثم الألف للإتقاء الساكِنيْن. ذ= هو صاحِب "نظرية العامِل" بعد أنْ لاحظ أنّ كل تَغيير في الإعراب لا بد له من سبب. و هكذا جمع أدوات نصب الفِعل مع بعضها و سماها "نَواصب الفعل". و أخرى لها نفس التَّأثِير على الأسماء سمّاها " نَواصِب الأسماء" و أخرى تجزِم الفِعل سمّاها "جَوازِم الفِعل" و أخرى تجُرُّ الأسماء سمَّاها " حُروف الجَرّ"....... الخليل مَذكور في "الكِتاب" 720 مرة و هذا يكفي لتوضيح مكانته في بناء الصرح العلمي للنحو العربي الذي إكتمل بشكل شبه نهائي على يديه و ليْس على يدي تلميذه "سيبويه" كما هو شائِع بيْن الناس. رجل تربَّى على يد عيسى بن عمر النحوي و أبي عمرو بن العلاء اللغوي و هما أول من لاحظا عبقريته اللغوية، فعل كل شيء تقريبا في النحو العربي و لكنه احتفظ بتواضع العالِم و المؤمن الحامل لكِتاب الله الخبير في قِراءته. فهذا رجل يسأله هل قواعده النحوية تنطبق على كل كلام العرب ؟ فيُجيب بالنفي. ولما طلب منه نفس السائل: ماذا يفعل بما لم تنطبق عليه قَواعِده؟ قال: "أسمِّي الباقي لُغات" أي لهجات. نفس التواضع يظهر مع شخص سأله عن علله، هل أخذها عن العرب ام اخترعها من نفسه؟ فأجاب بالنفي مع شرح مطوَّل أورده أبو القاسم الزجاجي ( الإيضاح في علل النحو ص 66) يقول فيه " إنّ العرب نطقت على سجيَّتها و طِباعها. و عرفتْ مواقِع كلامِها، و قام في عُقولها علله، و إنْ لم يُنقَل ذلك عنها. و اعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه. فإن كنتُ أصبتُ العلة فهو الذي التمستُ. و إنْ تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخَل دارا مُحكمة البناء،....فكلَّما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال : إنَّما فعل هذا هكذا لعلة كذا و كذا و لسبب كذا و كذا...فجائز أنْ يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها الذي دخَل الدار، و جائز أنْ يكون فعله لغيْر تلك العلة. إلا أنّ ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمَل أنء يكون علة ذلك. فإنْ سنَح لغيْري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأتِ بها"
ثالثا: سِيبَوَيْه و "الكتاب" أو قمة النحو في القرن الثاني
هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قَنْبَر البَصْري. ولد على الأرجح في سنة 140ه / 785 م في البيضاء قرب مدينة شِيراز في إيران. و كلمة "سِيبَوَيْه" هي كلمة فارسية مركبة من كلمة "سيب" و تعني "التفاح" و كلمة "بوي" و تعني "رائحة أو عطر" و الهاء في آخرها علامة الجمع. و بهذا يكون المعنى هو عُطور / رَوائح التُّفّاح" و إنْ كان المُعتاد في المَصادر إعتبارها " رَائحة التفاح". و ربما لأنه كان يُكثر من استعمال عطر مُستخلَص من التفاح. أما ما تذكره مصادر قليلة من كون الكلمة تعني "حُمرة التُّفّاح" لأن وجهه كانت تَعلوه حمرة، فإننا لم نعثر على هذا المعنى في أي قاموس فارسي إطّلعنا عليه. لا نعرف في أية سنة جاء إلى البصرة وهي عاصمة العلم آنذاك. و هو يَنوي دِراسة الحديث و الفقه و هذا يدُلّ على أنه كان يعرف العربية قبل وُصوله إلى البصرة. إلتحق بدروس "حَمَّاد بن سَلَمة" و لكن مُستواه في اللغة لم يكن يسمَح له بذلك. فأخطاؤه في اللغة كانت فادِحة بالنسبة لطالِب فِقه و حَديث. إضطرّ سيبويه إذن، بسبب ضعفه اللغوي، إلى الإلتحاق بدُروس النحو و اللغة. و تحدِّثنا المَصادِر عن تتلمُذه على "الخليل بن أحمد" و "يونس بن حَبيب" (القفطي ج 2 ص 346)، و على "الأَخْفَش الأَكْبَر"( أبو الخطاب توفي 177ه / 793م). ويذكُر القِفطي في نفس الصَفحة أنه أخذ عن "عِيسَى بن عُمَر الثَّقَفي". إلاّ أنّنا نعتبر ذلك شيء مُستحيلا لكوْن "عيسى بن عمر" مات سنة 149ه/ 766م، و هو ما يَعني أنّ سيبويه تتلمذ عليه و هو لم يصل سِنّ التاسِعة من عمره بعد. و هو ما يعني أيضا أنه جاء إلى البصرة و عُمره أقل من تِسع سنوات وهي سن مبكرة جدا خصوصا و أنَ المصادر لا تذكر أبدا أنه كان مَرفوقا بأحد أقربائه. و يذكُر ياقوت ( ج5 ص2124) أنّ لسانه كانت فيه "حُبْسَة"، أي إلتواء في اللسان كان يمنعُه من النطق بسُرعة و بوُضوح. هذا العيْب تحوّل، فيما نعتقد، إلى شيء إيجابي عند صاحبنا. إذ أنّ هذا العيْب جعَله يتّجه نحو الكِتابة حيْث كان يكتُب و ينقُل، بأمانة كَبيرة جدا، كل ما كان يسمَعه أو يقرَأه. هذه المُلاحظة هامة جدا لأنها ستساعد القارئ على فهْم بعض ما نذهَب إليه بخصوص نسبة "الكتاب" لسيبويه. و من خلالها نفهم المَصادر التي تعتبره " أتبث من أخذ عن الخليل و يونس بن حبيب". و تعزِّزها شهادة أخرى عند ياقوت (ج5ص2124) جاءت على لسان أحد ممن عرفوه "و نظرْت في كِتابه فرأيْت عِلمه أبلغ من لِسانه" وعند القِفطي (ج2ص349) "و قلمه أبلغ من لِسانه". واضح إذن أنّ "حُبْسَتَه" و تَجربته السلبية مع "حَمَّاد بن سَلَمة" جعلتا منه مدقِّقا و مُكثرا من وضْع الأسئلة و أمينا في تَسجيل الأجوبة وحَريصا على الحُصول على الأمثلة التَّطبيقية. هذا ما يشرَح تَرحيب الخليل به في مجلِسه قائلا:" مَرْحَبًا مَرْحَبًا بزَائِرٍ لا يُمَلُّ". و نحن نعرِف من شَهادة "أبي عَمْرو المَخْزُومي" الذي لازم الخَليل أنه لم يسمَعه " يَقولها لأحد إلا سيبويه"( القفطي ج 2 ص 352). بعد كل هذا نَقول إنَّنا لا نعرِف الكَثير عن سِيبَويه. فنحن لا نعرِف المدة الّتي قَضاها في دِراسة النحو و اللغة، و لا المدة الّتي لزِم فيها الخَليل. فهذا يونس بن حَبيب يقول عندما سمع أنّ سيبويه قد ألَّف كتابا في ألف و رقة، قال مُستغربا:" و متى سمِع سيبويه هذا كلَّه من الخَليل" (ياقوت ص 500) كما أنّنا لا نعرِف تاريخ وَفاتِه بالضبط، و إنْ كان الراجِح هو سنة 179 ه / 796م أو 180 ه / 797م. رغم كل ذلك فإنه قد ترَك لنا مؤلَّفا ضخما في النحو من تسعمئة صَفحة. و هو أقدم كِتاب جامِع وصلنا عن النحو العربي. و إذا كان المِخيال الثَّقافي العربي مطمئِنّ تماما إلى أنّ "الكِتاب" هو المَجهود العلمي لسيبويه، فإنّ لنا رأيا آخر في نِسبة الكِتاب له، سنعرِضه في الفَقرة التالية. = قِصة "الكِتاب" و نِسبته إلى سيبويه تردّدتُ لأكثر من سنة قبل أنْ أسطِّر هذه الفقرة، و ذلك لسببيْن: الأول أنّ ماخلُصتُ إليْه أزعجني كَثيرا، خصوصا و أنّ فُحول العربية مثل الدكتور شوقي ضيْف تفادوا، بكَثير من النجاح، الخوْض في هذه المَسألة. و الثاني أنّي كنت أريد أنْ أعزِّز ما أذهب إليه بشواهد من داخِل "الكتاب" نفسه. لكن الظروف لم تساعدني على ذلك. فرأيتُ مؤخَّرا أنْ أترُك ذلك لدِراسة لاحِقة، و أنْ أكتفي هنا بدلائل من خارِج الكِتاب. كل هذه الدلائل و الإشارات مَأخوذة من مَصادِر يثِق فيها جميع المتخصِّصين و تذهَب إلى أنّ الكِتاب ليْس من "تأليف سيبويه " و خُصوصا إذا قرأناها في ضوء بعضها البعض.
1) الدَّليل الأول: يَسوقه "ابن النديم" في "الفهرست" ص 81 و هي شَهادة مَكتوبة قرأها " بخط أبي العباس ثَعْلَب" و هو ثاني أكبر رأس في المَدرسة الكُوفية و توفي سنة 291 ه / 904 م و هو عالِم في اللغة و النحو و يعرِف عن ماذا يتحدّث. يَقول "ثَعْلَب" :" إجتمع على صَنعة كِتاب سيبويه إثنان و أربعون إنسانا منهم سيبويه" و هو ما يَعني أنه كِتاب جَماعي شارَك فيه مَجموعة من الطلاب بتَسليم ما كانوا يسجِّلونه من أفواه أساتذتهم إلى سيبويه الَّذي نظّم وهذّب، لأنّنا نستبعد إجتماع إثنيْن و أربعين شخصا في و قت واحِد لتَخطيط الكِتاب.
2) الدَّليل الثاني: يَسوقه "ياقوت الحموي" ج5 ص 2123 / 2124. مَفاد القِصة أنّ رجلا أخبر "يونس بن حَبيب" أنّ "سيبويه كتَب كِتابا في ألف صَفحة" فتعجَّب كَثيرا مما سمِعه و قال للرجل: " هات الكِتاب" و عندما أخذه و قرأه قال: " يجب أنْ يَكون هذا الرجل (سيبويه) قد صدَق في جَميع ما حكاه (نقله) عن الخليل، كما صدَق في كل ما حكاه (نقله) عني". لا أخفيكم أنّ هذه الرِّواية لم تترُك لي خِيارا في تقديمها. لأني إذا أغفلتها تَسليما بأنَّ "الكِتاب" هو لسيبويه فسيَكون عليّ أنْ أُومن أنَّ "يونس بن حَبيب"، أستاذ سيبويه، الَّذي درّس النحو و اللغة لأكثر من من ستين سنة، و الّذي كان " أعلم الناس بتَصاريف النحو" لم يَكن يعلَم أنّ تِلميذه، الَّذي لازَمه لسنوات، كان بصدد كِتابة كِتاب في النحو من ألف صَفحة. فهل من المَعقول أنْ يكتُب طالِب كِتابا في مادة ما دون أنْ يستشير أستاذه المتخصِّص في تلك المادة و هو يجلِس منه مجلِس الدرس كل يوم صَباح مساء، خُصوصا أنّ "التتلمذ" كان في تلك الأيام نوعا من الصُحبة و المرافقة المستمرّة؟
الدليل الثالث: يَسوقه القِفطي في "إنباه الرواة" ج2 ص 347 أثناء حديثه عن سيبويه عندما يَقول:" و عمِل كتابه المَنسوب إليه في النحو و هو ما لم يسبقه إليْه أحد...و قد قيل إنه أخذ كتاب " عيسى بن عمر" المُسمّى "الجامع" و بسّطه و حشّى عليه من كلام الخليل و غيره، و هو كتابه الّذي اشتغل به، فلما استُكْمِلَ بالبحث و التحشية، نُسِبَ إليه". هذا الدليل، فيما نعتقد، يشرَح عدم علْم الأستاذ، يونس بن حبيب، بتأليف تلميذه لكتاب في النحو، لأنّ كل ما كان يَقوم به سيبويه هو تبسيط أفكار عيسى بن عمر و وضْع الحواشي و التعليقات و الأمثلة الضرورية لتوضيح الأشياء الّتي يصعُب فهمها في كتاب "الجامِع".
الدليل الرابع: يَسوقه القفطي ص 347 / 348. و أقل ما يُمكن أن نقول عنه هو أنه " سيد الأدلة". إذ هو اعتراف من سيبويه في حلقة من دروس الخليل كان يَدور فيها الحديث عن كتب عيسى بن عمر، و كان سيبويه يحمِل معه كتاب " الجامع" و يَقول للخليل: " و هو هذا الكتاب الّذي أشتغل فيه عليك، و أسألك عن غَوامِضه". واضح إذن أنّ سيبويه كان يجد صُعوبة في فهم بعض الأشياء في هذا الكِتاب الموسوعي الضخم و الصعب و أنه كان مضطرا لسؤال الخليل عن ذلك. و من خلال أجوبة الخليل في اللغة و النحو، و أجوبة "يونس بن حبيب" في اللغة، زاد سيبويه الحواشي و الشروح ، و اشترك طلاب آخرون في تسجيل ما كان يُلقيه عليهم الأساتذة شفويا، و من كل هذا جاء "الكِتاب" الّذي نعرِفه اليوم و ننسبه لسيبويه. و أكاد أعتقد جازما أنّ سيبويه لم يضع عنوانا للكتاب ليْس لأنّ الموت استعجله كما تَقول المَصادِر، و لكنه لم يُرد أن ينسِب لنفسه وحده كتابا جماعيا. قد يَقول قائل: و ماذا تركتَ لسيبويه؟ أقول: هذا تساؤل لا يُمكن أن يصدُر عن شخص قرأ "الكتاب" بشكل متمعِّن، لأن من قام بذلك يعرف جيدا أنّ متن "الكتاب" يُعطي أكثر من دليل على مُساهمة الرجل الكبيرة في بناء صرْح النحو العربي. أكثر من ذلك، أقول يَكفيه شرفا أنه حافظ لنا على كل التراث النحوي الّذي سبقه.
هناك فِكرة أخرى شائعة تذهَب إلى أنّ علم النحو عرف صِغته النهائية مع "الكتاب" و مع سيبويه. أما كوْن سيبويه هو صاحِب الهيكل النهائي للنحو فهي مَقولة خاطئة و قد أثبت ذلك "شوقي ضيف" في كتابه " المدارس النحوية" حيث اعتبر، و بحق، أنّ الخليل هو من قام بذلك. لكننا لا نعتقد أن النحو وصل إلى قمته في هذه المرحلة التاريخية. الدليل على ذلك يوجد في "الكتاب" نفسه، إذ أنّه يستعمل مُصطلحات نحوية أقل تطوُّرا و وُضوحا من المُصطلحات الّتي ظهرت بعد ذلك و الّتي نستعملها إلى يومنا هذا. و كلنا يعلم مدى أهمية المُصطلح في العلوم على اختلاف أنواعها. فعلى سَبيل المِثال لا الحصر نَسوق بعض الأمثلة الّتي إخترنا أوضحها و أسهلها حتى تَكون في مُتناوَل الجَميع و ليْس المُتخصِّصين فقط: 1- يقول " هذا بَابُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الكَلِمِ مِنَ الْعَرَبية" و نعتقد أن مُصطلح " الإعراب" هو أكثر وُضوحا و دِقّة. 2- يقول " هذا بَابُ مَا عَالَجْتَ به" و لا يستعمل "إسم الآلة" 3- يذكُر مَجموعة من أوزان "إسم المرة" و لكنه يستعمل مصطلح " اسم الواحدة" 4- يستعمل "اسم موضع الفعل" و "اسم الحين" و لا يستعمل "اسم المكان و الزمان" 5- يستعمل لفظ " بنات الثلاثة" و "بنات الأربعة" بدلا من الثلاثي و الرباعي. و هي أيضا نفس المُصطلحات التي إستعملها الخَليل في مقدِّمة معجم العيْن كخلاصة، نقول إنَّ النحو العربي كعلم منظَّم بدأ فعلا مع الحضرمي واستوى على شكله شبه النهائي مع عبقرية الخَليل. ففي أقل من مئة و مع أربعة أجيال يمثلها الحضرمي و الثَّقفي و الخَليل و سيبويه إنطلق النحو من مادة خامة هي اللغة و وصل إلى علم قائم الذات له أصحابه و موضوعه و قوانينه و مصطلحاته الخاصة.