يلاحظ المتتبع اليوم من خلال الجدل الجاري حول ترسيم اللغة الأمازيغية، أن الأمر لم يعد يعتمد العقل والمنطق والتأني في قضية لا يجب أن نستهين بها، لأنها قضية وطن بكل تاريخه ومعارفه ومستقبل كل أبنائه. إن النظر في قضية مثل قضية اللغة تستوجب الترزن والبعد عن النزوع السياسي وهوى العاطفة من الجانبين معاً. ذلك أننا من خلال فورة هذا النقاش، بدأنا نلاحظ أن الأمر تعدى حدود المعرفة وأصبح شتماً في الناس والأعراض، بل تهديدا بالعنف وربما أكثر. قد نعتبر هذا الأمر تعصباً وقتياً فيه فورة الشباب و»سكر» اللحظة. ولا بأس. لكن الذي نأسف له هو القول بجهل في العربية «على أنها الدخيلة والمتطفلة والعاجزة ووو..». وفي الأمازيغية بجهل: «على أنها لغة المغاربة الأصلاء دون غيرهم، وأنها لغة واحدة غير متعددة وأنها» والتشكيك في مقدرة الحرف العربي ليكون لها خطاً، وأنه لا يستجيب لأصواتها مع أن الأمازيغ أنفسهم استعملوه وهم ملوك، وهم كبار قوم، وهم من أيها الناس. والتثبت في هذه القضية يفرض التذكير بالبديهيات الآتية دون الخوض في ترسيم اللغة الأمازيغية أو عدم ترسيها فهذا أمر آخر. فقبل الإسلام كانت اللغة العربية في لهجاتها لغة حضارة كاملة وظهرت عناصر منها منذ الألف الربع قبل الميلاد. وتألفت عائلتها من اللغات التي هي: «عروبية أُمٌّ» [سامية أم] وتفرع عنها فرع شرقي، ولغته الأكادية في فرعيها البابلي والأشوري. ولغة وسطى بين الشرقيةوالغربية، وهي الأوغاريتية. وفرع غربي، وعنه تفرعت لغات الجنوب وأهمها العربية الفصيحة وعربية جنوب الجزيرة والحبشية التي منها الأمهرية والجزعية. ولغة الشمال الشرقي الآرامية وامتدادها السرياني. ولغات الوسط بين الشمال الشرقي والشمال الغربي، وهي العمورية ثم الكنعانية التي من بناتها الفينيقية والبونيقية والعبرية القديمة وامتدادها، وتحت هذه اللغات لهجات أخرى متعددة، خصوصاً في لغات الجنوب. وكان لكل هذه اللهجات العروبية أرث أدبي وعلمي وصلتنا كثير من مدوناته نقوشاً وكتابات وصحفاً، ووصلنا علمه الراقي في كشوفات علم الفلك والهندسة الزراعية والبيطرة والطب، وقصائد رائعة في الشعر والملاحم، ونثر فيه الأخبار والسير والروايات وغير هذه. ولما ظهر الإسلام لم تعد اللغة العربية مرتبطة بالعرق العربي على الإطلاق، فقد أصبحت لغة الإسلام، إذ كانت سنة 622م فاصلا في التاريخ، بهجرة صاحب هذه الرسالة محمد (ص)، من مكة إلى المدينة، وبها دخل العالمُ عهدا جديدا جدد الدعوة الموحدة الخالدة، وبسنة 630م، سنة عودة الرسول إلى مكة، بدأت رحلة الإسلام لتنشر ظله في ربوع العالم على مدى قرون. فبعد ثلاث سنوات من هذه العودة، استثب فيها الأمر للرسول في الجزيرة، انطلقت الفتوح سنة 633م، فصار الهلال الخصيب وفلسطين وسوريا ومصر في ظرف اثنتي عشرة سنة، تحت ظل الإسلام، وبدأت أكبر القوى في ذلك التاريخ: فارس وبزنطة، تشعر بخطر أتاها من مكان لم تكن تظنه يأتيها منه أبدا، وتراءى لها أن المقبل من الأيام لن يكون هيِّناً هَنيا. وكان ما توقعت، إذ امتدت الفتوح مع الدولة الناشئة: دولة الأمويين، في اتجاهات ثلاث: آسيا الصغرى والقسطنطينية عاصمة البزنطيين، وآسيا الوسطى والهند، وإفريقيا الشمالية وإسبانيا التي صارت كاملة تحت ظل الإسلام سنة 716م. بعدها تحمل الداخلون في الإسلام من غير العرب مهمة نشر الإسلام وتداولوا لغته العربية، إذ قام بهذه المهمة الأتراك والمغول في الامتداد الأسيوي العريض، والمماليك، انطلاقا من مصر، وهم سادة التجارة، في الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ومسار اليمن والشواطئ الشرقية الأفريقية ومرافئ المحيط الهندي وبيزنطة والبحر الأسود. في حين وطد الأمازيغ (مرابطون وموحدون)، أركان الإسلام، في إسبانيا، ومدوا له في إفريقيا السمراء، فانتشر الإسلام هناك في مالي وغانا والتشاد والسودان. وأصبحت اللغة العربية لغة كل هذه الأمم، أي أصبحت لغة أجناس وقارات، بعد أن دون قوانينَها علماءٌ لا ينتسبون إلى العرق العربي أبداً، فأول من وضع دستوراً للنحو متكاملا هو إمام العربية وشيخ النحاة، الفارسي أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري، المعروف بسيبَوَيه (140ه/760 م-180 ه/796 م) الذي ولد في مدينة البيضاء قرب شيراز في بلاد فارس. ووضع في المغرب أهمَّ مؤلف في النحو: الأجرومية، أشهر نحوي في مغربنا العزيز، ذاك هو الأمازيغي محمد بن محمد بن داود أبو عبد الله ابن أجروم (672 ه / 1273 - 723ه / 1323). ولو نظرنا في تآليف اللغة والنحو والآداب العربية على اختلافها، منذ بدأ التأليف في العربية، لوجدنا حظَّ غير العرب فيها أضعافاً مضاعفة. وهذا أمر معروف لا يجب التشاح فيه. وبهذا يجب أن لا نعتبر اللغة العربية «عربية» فهي لغة علم في القديم القديم، ولغة إسلام لم يمنع صنع القنبلة الذرية في باكستان، ولا إسهام السيد فاروق الباز في البرامج الحساسة في لانازا بالولايات المتحدة. 2 البديهية الثانية: اللغة العربية لغة علم واختراع عندما انطلقت مسيرة الإسلام من الجزيرة العربية مع أول فتح، لم يكن أصحابها يملكون من الزاد الفكري إلا أخبار أيامهم وشعر معلقاتهم وأشعار قلة من الشعراء، وبعض روايات جمعت بين الحقيقة والأسطورة، وبعض مَرْوِيَّات أهل المعتقدات الذين كانوا يقاسمون العرب المكان. زادٌ أَخْفَتَ من رُوَائِه كَلِمُ القرآن المعجز وما تضمنه من أخبار لم يكونوا يعرفون عنها شيئا، وقضايا عويصةً لم يكونوا يفهمون منها إلا القدر الذي سمحت لهم به اللغة في حدود. ولهذا السبب بالذات، سيصبح الكتابُ الكريم مصدرَ علوم الإسلام في كل تنوعاتها، ما ارتبط منها بعلوم النقل وما ارتبط منها بعلوم العقل. انطلقت العلوم القرآنية من فهم لغة القرآن وفهم بلاغة إعجازه والكشف عن مضمرات أخباره. وتشعبت في استنباطات مدوناته التشريعية وقواعده الأصولية، وتعمقت في الوقوف عند ما لمح إليه من ظواهر كونية أو قضايا فلسفية وإنسانية كبرى، كلها تعيد للذهن جهود الإنسان وهو في ذرى التأمل العقلي، على مدى تاريخ هذا الإنسان الذي تلقى الوحي فطرة منذ آدم حتى كبار المفكرين، وتلقاه كَلِماً حقّاً، أو مدوناً من قبل الحواريين، في الرسالتين السماويتين السابقتين. وُضعت في البدء أسس علم التفسير لفهم جديد المعاني في لغة العرب الإسلامية، وجديد الأخبار في أيام العرب، وجديد الفكر في تأملات العرب. ثم تبعتها رسائل اللغة أو أولى مَسَاِرِدها، ليُقَّرب النص القرآني من حياة المؤمنين. ثم رافق ذلك وسايره تقعيدُ اللغة العربية التي كانت سليقة في الألسن، حماية لها مما قد يفسد فصاحتها بعد ما صارت أداة مشتركة تلهج بها ألسن كانت لها لغتها الخاصة وفصاحتها المتميزة. وهيأ تدوينُ السنة النبوية وعلم الأصول مناهجَ أخرى من التحقيق العلمي الدقيق، سيضع هو وعلم الكلام المستنبط من القضايا العقلية الواردة في القرآن، الفكرَ الإسلامي في منطلقه الحق. وكان للفرائض الدينية الجديدة هي الأخرى، حظُّها من جديد العلوم، فمفهوم التوحيد لا ينحصر في التلفظ بالشهادة، إنما هو حث على النظر فيما دعت إليه الأنبياء والرسل وكهان وعُرَّاف الشعوب جميعا، منذ آدم حتى نزول النص، في وحدانية الذات الإلهية وصفاتها. ومواقيت الفروض من صلاة وصوم وحج، وحساب الزكاة والمواريث، هي في حقائقها نظر في علوم الرياضيات والحساب والفلك، لقياس السماوات ومنازل الأفلاك من عَلٍ، أو لِعَدِّ الأعشار واستخراج الحصص من حالات أحيانا تبلغ امتناع التخصيص في حياة المؤمنين، على الأرض. ومسالك الحُجَّاج الذين ياتون «مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ». دعوة للإبداع في علم الجغرافيا الإسلامي، الذي وصف المسالك والممالك، أرضا ومخلوقات وحالات عرقية ونفسية، ونظر في سياسات الأمم وأخلاقها لأنها باقية أو لأنها مندثرة. فروض دينية حركت المسلمين في الزمان والمكان، وأشعرتهم بالحاجة إلى النظر في أحوالهم أجساما مادية تتأثر بالحركة والسكون، والحَرِّ والقَرِّ، واليُبْسِ والرطوبة، والرغبة في الإنجاب والكف عنه، وفي حال الطُّهْرِ والدَّنَس. وهذه كلها مرغبات في فن الطب الذي حوله المسلمون من وصف أحوال إلى النفوذ في أسباب العلل بأفعال. لهذه الحَوَاثّ أصبحت العربيةُ لغةُ الإسلام، لغةً للعلوم الحَقَّة التي تعدت التشريع والأخبار والسير، وأصبحت أداة تلبي حاجيات الإنسان الجسمية والغذائية والبيئية والسياسية والتدبيرية. وكما كان القرآن مصدرا للتشريع المستنبط من الفروض السابقة، كان أيضاً مصدرا لمعارف أخرى، بما تضمنه من أحداث تاريخية، وإشارات إلى نظم حكم أصابها الانهيار بعد قوة، وامتد إليها البلى بعد جدة، مع وصف الأسباب واستنتاج العبر. ومعارف مثل هته حثت المسلمين على إيجاد علوم في التاريخ والأخلاق وسياسة الدول، هي إسلامية في المضمون والمنهج. توطدت أسس هذه المعارف التي استنبتت مع بداية دولة الإسلام، بمسيرة علمية متقنة مكن لها تعريب الدواوين والنقول الأولى الإدارية والفلسفية، التي رأت النور في الدولة الأموية، في عاصمتها دمشق التي كان لها تواصل قديم مع المعتقدات والآداب والحضارات القديمة التي لفت القرآن عقول الناس إليها ولم يعتبر مجرياتها كلها شرا وحراما. وبلغت هذه المعارف أشدها في الخلافة العباسية التي أنشأت بيت الحكمة. وكانت هذه المؤسسة الفريدة التي لمت أطراف العلوم، المدخلَ الأوسع لدولة الإسلام العقلية، فبدأ عصر من أزهى عصور التاريخ قاطبة، انتقلت فيه المعارف الإنسانية من شرق الإسلام إلى غربه، حيث تم التلاقح الحضاري وتراكمت المعارف الإنسانية القديمة، فتهيأ للبشرية علم كثير، تمثلت فيه قمة المعارف النقلية والعقلية، بما في ذلك علوم هندية وسريانية ويونانية متنوعة، كانت مستعصية على العقول، وتعد من المعميات. فأسهم في نقلها وعرضها وتفهيمها أعلام من أصول متباعدة وأعراق مختلفة، مسلمون أو مسيحيون أو يهود، رعتهم الخلافة الإسلامية في مُزْهِر أيامها ومُشْرِقها، بالحنو والعطاء وتمكينهم من السيادة في غالب الأحيان. من بخارى وخوارزم وحيدر أباد في آفاق آسيا البعيدة، إلى الفسطاط والقاهرة ودمشق وبغداد، منابع الحضارات القديمة، إلى قرطبة وإشبيلية وغرناطة وسرقسطة في أعتاب أوروبا، إلى القيروان وفاسومراكش وتامبوكتو والمدن السونكاهية في امتداد شمال إفريقيا وإفريقيا السمراء. وكل ذلك بلغة عربية لا تنتسب لأحد بعد هذه الرحلة العلمية الغنية. علوم بلغت قمتها في التفاسير الكبرى ومدونات الحديث وعلوم اللغة والبلاغة والمعاجم الشاملة، ومؤلفات الخلاف في المذاهب وأصول الفقه والنحو، وترجمات علوم الهند والسريان واليونان وشرحها والتأليف فيها، حسابا وهندسة وفلكا وتنجيما وطبا وفلسفة. وبلغت قمتها في اجتهاد علماء المسلمين من بلاد السند إلى تامبكتو، فتألقت أسماء إسلامية مثل الفارابي وابن سينا والغزالي وابن الهيثم وآل زهر وابن طفيل وابن رشد وابن أجروم والمختار السوسي وغيرهم مآت، نقلوا وشرحوا وألفوا. ويكفي أن نضع في مسيرة العلم الإسلامي معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي في اللغة، و»الكتاب» لسيبويه في النحو، وقانون ابن سينا وكليات ابن رشد والمنصوري والتيسير لابن زهر في الطب، وإحياء علوم الدين للغزالي في العقائد، ومناظر ابن الهيثم في علم البصريات، وشروح الفارابي وموسوعة ابن رشد الأرسطية في الفلسفة، وخارطة الإدريسي في صورة الأرض، ورياضيات ابن البناء في قياس الأرض، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم في مقارنة الأديان، ومقدمة ابن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع، ورحلتي ابن جبير وابن بطوطة في وصف المسالك والممالك وأحوال الناس، مع علوم أخرى أرخت لها المصادر مثل الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون لحاجي خليفة وذيوله، وكثير من مؤلفات العلم ومعاجم الرجال التي عدت الحصر، وحافظت على أصولها آلاف من المخطوطات في خزائن البلدان الإسلامية والمكتبات الأوروبية، جزء منها عرف طريق التحقيق والمطابع، وكثير منها ما زال لم يحقق أو لم يعرف بعد. هذه العلوم على اختلافها بلغتها العربية غيرت مسار تاريخ الإنسانية، وكانت حجر الأساس في عصر النهضة الأوروبية التي تنكر أصحابه لأفضال هذه الحضارة الإسلامية، وجازوها جزاء سنمار في معارك وأحداث تستمر حتى اليوم في محاولة التنقيص من هذه اللغة التي كانت في يوم من الأيام «إنجليزية» العصر، وكانت دوماً قادرة على صنع العلم في وقت كانت فيه لغاتُ فلسفةٍ وعلوم عريقة، عاجزةً عن أن تستوعب مؤلفاً واحداً من مؤلفات عظماء علم الحيل (الميكانيكا) وأطباء الإسلام وفلكييهم وكيميائييهم... وهي اليوم قادرة على أن تكون أكثر من ذلك. والذين ينقصون من شأن العربية، عن جهل أو قصد، ولعله الأمر الأول، لا يفصلون بين لغة التداول ومصطلح العلم، وهذه هي: 3- البديهية الثالثة: ليس للعلم لغة استعمال اللغة الوطنية مقوم من مقومات الأمة، وخصوصاً إذا كانت اللغة تتصف بصفات اللغة العربية. والغريب أن معاديي العربية يعادونه عن جهل فظيع، ذاك أنهم يتهمونها بعدم القدرة على أن تكون لغة علم، ونحن هنا لا نريد أن نحتج عليهم بماضيها في العصر الوسيط، عندما كانت لغة العلم في عالم ذلك الزمان، فلعلهم يجهلون حقيقة تلك الفترة المزدهرة من تاريخ الإنسانية، ويجهلون أن العلم العربي الإسلامي أيامها كان هو أساس النهضة الغربية. إننا نريد أن نحتج عليهم بالمنطق ويكفي. إن اتهام هؤلاء الناس للعربية جاءهم من خلطهم بين لغة التواصل واستعمال المصطلح العلمي. وكل لغات العالم تتضمن هذين: أي اللغة العادية المركبة من حروف وأفعال وأسماء (تستعمل في صيغ فعلية اسمية)، وهذه هي أساس التواصل تستعمل في المسجد أو الكنيسة أو السوق، في صغيرات القرى أو كبريات المدن، ولا فرق بينها في كل الدنيا، ولغة العلم المنحصرة في المصطلح في المخبر أو الورشة أو الجامعة. وكل اللغات قادرة بقسمها الأول على التبليغ، وهذا هو الأساس. أما المصطلح فهو نوع من الدخيل على اللغة، ما دام المخترع المعني هو من صُنْع أمة تتكلم بغير لغة مستورد العلم، فالعالم الاجتماعي أو الإناسي (الأنتروبولوجي)، في جامعة هار?ارد ا|لأمريكية، عندما يريد أن يبحث في موضوع «البَلْغَ» المغربية، سيجد في لغته الإنجايزية عجزاً، ولا بد له في حينها من أن يستعمل لغة «السوق»، وهي هنا دخيل، لأن صناعة «البَلْغَ» لا توجد في «حْوانْت» واشنطن. وهذا الاحتياج هو احتياج كل صاحب لغة لم يصنع أهلها العلم المراد معرفته. فهل كان على العالم الأمريكي أن يترك لغته الإنجليزية ويتهمها بالقصور ويتعلم لغة السوق في منعرجات فاس أو دروب مراكش ليكون عالماً؟ إنه استعمل لغته الإنجليزية للتواصل، واستعمل لغة «السوق» للعلم. وهذا هو الطبيعي عند الأمم التي تعتز بلغتها وأصولها. ولا فرق بين اللغات، الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية أو الروسية أو الإيطالية، في هذا الوضع. إذن اللغة أي لغة، ليست قاصرة في ذاتها، إنها قاصرة بعجز أصحابها في الاختراع، وليس في الاختراع وحسب، بل في العمل في صناعة لغة العلم الذي لم تصنعه، لأنها تستطيع لو أرادت أن تفعل، ما دام المصطلح من حيث هو، لا يرتبط في غالب الأحوال بمسماه. فالذي وضع مصطلح «Mouse /Sourie» (فأرة) لم يضع في حقيقة الأمر أي مشكل لمستعمل اللغة العربية على سبيل المثال، لأن مسماه لا يرتبط أصلا بصناعة الحواسب، إنه مسمى اخترعه صاحبه من صورة قفزت إلى ذهنه حين وضْعِه المصطلح، نتيجة للأداة التي وضعها وقد اتخذت شكلها من كف يديه أكثر من الفأرة التي لم يكن لها وجود في بيته على الإطلاق. والدليل الأوكد على ما نقول أن ذلك التصور الذي وضع من أجله المصطلح لم يعد قائما في الحواسب الحديثة، فلمس سطح الحاسوب يقوم بنفس مهمة ال» Mouse /Sourie» ، ومع ذلك لم تتغير التسمية . ولو كانت هذه الدعوى، دعوى هجران اللغة لندرة المصطلح، سليمةً، لكان العالم على غير ما هو عليه اليوم، ولكانت الحضارة العربية محض ادعاء، ولتأخرت حضارة النسبية والصواريخ والذرة والحواسب وعلم «الجينات»، وغير هذه من العلوم. ذاك أن بنية أوروبا العلمية كلها مبنية على العلم العربي. والعلم العربي، عندما بدأ خطوه لم يهجر لغته لعدم وجود المصطلح المناسب، فلم يتخذ له مثلا اللغة السريانية أو الإغريقية، لغة استعمال، عندما لم يجد مصطلحات كان في حاجة إليها. إن استعمال اللغة الأم منطق طبيعي لا دخل له في تقدم العلم أو تأخره. واللغة الأم المؤهلة هي المستعملة في تدريس العلوم عند الأمم الطبيعية، وفيهم أمم لم تُعَانِ لغتها من العلم العُشُرَ مما عانته لغتنا عندما كانت إنجليزية العصر. 4 البديهية الرابعة: الأمازيغية لغة كل المغاربة رفض المغرب الوثنية منذ القديم، وفتح الأمازيغ قلوبهم وعقولهم للأديان السابقة ثم للإسلام ولغته، وتجاورت اللغتان الأمازيغية والعربية دون أن تضر إحداهما بالأخرى، واندمج العنصران في وحدة متكاملة مع الإسلام، وأسهم كل المغاربة عرباً وأمازيغ في نشر الإسلام فيما وراء الأبيض المتوسط وما وراء الصحراء. وهذا سر نجاح هذه الحضارة الأمازيغية العربية في غرب إسلامي وفي إفريقيا، كان له في بناء الحضارة الإنسانية الحظ الأوفر، من صناعة الآلة إلى حقوق الإنسان. وهذه ميزة المغرب، لأن فيه «شَرْفَا» [شُرَفاء] من أصول نبوية انتشروا في كثير من جبال السوس والأطلس، قِدْماً، ولم يتكلم أحفادهم إلا لغة واحدة، هي الأمازيغية، ومع ذلك كانوا يسمون «مولاي ...»، وكانوا يحرثون ويزرعون ويَتَشَيَّخُون، ويسمون «أَمْغَارْ». ومن يستطيع اليوم تمييزهم بالعد والعدد؟ ولأن في المغرب أمازيغ انتشروا في كل سهول المغرب، وكانوا معجزة في حفظ القرآن والأحاديث ومعرفة الشرع، وخُصُّوا بمعرفة غريب اللغة العربية دون غيرهم حتى صاروا فيها رواة لا فرق بينهم وبين رواتها في سالف عهدها في الجزيرة العربية. ورحم الله من قال «سبحان من عَرَّبْ دُكَّالَة وشَلَّحْ مَسِّيوَة». ومن يستطيع اليوم تمييزهم بالعد والعدد؟ ولأن في المغرب أمازيع وعرباً تكلموا كلهم لغة واحدة سنة 1930، عندما أراد الاستعمار أن يصنع من اللغة والأصول أقفاصاً يحبس فيها هؤلاء وهؤلاء. وكانوا أقدر على استعمال لغة البيان التي يتألف كَلِمُهَا من حب الوطن والتربة والأصول المشتركة الموثقة بالتاريخ والدين ولحمة الأنساب المندمجة المتوحدة. وهؤلاء معروفون، لأنهم كل المغاربة. 5 البديهية الخامسة: اشتراك العربية والأمازيغية في الأصول اللغة الأمازيغية تشترك واللغة العربية في الأصول العريقة البعيدة في التاريخ، وفي المهد المحتد منطلقاً ومستقراً، وفي أساليب التطور الطبيعي للغات، تبعاً لحركيتها وكمونها، وفي هذه الحالة تجب الحيطة من الاجتهاد، خصوصاً إذا كان المجتهد من غير أهلها، وفي ظروف لها مقاصد وخلفيات. والأمازيغية إذن بما هي عليه من ثبوت القدم في المحتد، وبما هي عليه من غنى في الحمولة الفكرية المكتسبة بحكم التاريخ، وإمكانيات الموقع الجغرافي الذي تخيله القدماء «ذيل طاووس» لجماليته، ولموقعها في نقطة الملتقى الطبيعي في مجمع البحار، لا بد لها أن تعود إلى إرثها الغني الذي لم تبتعد عنه في يوم من الأيام، وهو ذاكم الموطن الكبير الذي أشرنا إليه أعلاه، وهو اشتراكها مع تلك العائلة اللغوية التي لا يعجبنا أن نسميها «حامية سامية» لأنها «عروبية أمازيغية» في المعنى الحضاري الواسع، وبحكم الرحلة التي تقطع الأبيض المتوسط جنوباً وشمالا، وغرباً وشرقاً ذهابا وإياباً. وقد عرف المغاربة كلهم كيف يسبِكون خلال كل تاريخهم، من تفرعات ذاكم الأصل على مدى شساعته، وحدةً متراصة لصنيع اختاروه هم أنفسهم عندما تحدث العربي القح الأمازيغيةَ في جبال الوطن ولم يعد يعرف غيرها، وعندما صار الأمازيغي القح راويَّة لغريب اللغة العربية لم يتفوق عليه عيره فيها، وربما لم يعرف غيرها، وعندما صار للابن أب من الأمازيغ وأم من العرب أو العكس، ومنهم من حافظ على لغته ومنهم من أضاعها منه وضْعُ الحال على كل حال. ومن يستطيع فينا الصعود في شجرة نسبه من الأصول إلى الفروع؟ ذلك لأننا في تاريخنا الطويل هذا، لم يضع كتبا لأنساب كل مغربي على حدة، خصوصاً بعد ما وقع من انتشار القبائل عربية أمازيغية في كل أنحاء المغرب، وبعد أن سبك الزواجُ لحمةَ وسدَى الوطن من هذه القبائل وتلك. 6 البديهية السادسة: الأمازيغية اختارت الحرف الحضاري الحي منذ بدأ التاريخ المكتوب اجتهد أسلافنا، وهم على رأس دول كبرى، كدولة الموحدين، في ملامسة قضية كتابة الأمازيغية بالحرف العربي في هدوء، وكانت المرشدة لابن تومرت، وكانت ترجمات النصوص الإسلامية الأساسية، مثل الأحاديث النبوية وكتب التشريع، وربما بعض الكتب التعليمية اللغوية وغيرها مما هو من حياة الناس، رائجةً بالخط العربي، بين أيدي طلاب العلم والقائمين على أمر الدولة، كما يفرض ذلك منطق الظرف وأوضاع الأمة. وعلى الرغم من هذا الاستعمال الطبيعي، فإن القطع في أمر علاقة الحرف باللغة عندها لا يفهم إلا إذا نظرنا بعمق في خفايا ما جاء في كتاب «أعز ما يطلب». ففي ثنايا الكتاب ومضمونه تكمن النتائج والأهداف التي خطط لها القائم بأمر الدولة في قضية اللغة والكتابة، وإن كان الأمر تضميناً. وما كان بالإمكان أبدا أن تكون عندهم قضية الكتابة «مسالة». ولم تنقطع كتابة النصوص الأمازيغية بالحرف العربي خلال كل تاريخ المغرب، كما يدل على ذلك ما تحتضنه الخزائن المغربية العامة والخاصة، وكما تدل عليه مؤلفات شهيرة مثل «الحوض» في الفقه المالكي لأحمد أوزال و»بحر الدموع»، المجموع الشعري، لنفس المؤلف الذي عاش في مراكش السعدية. وما نظن حي بن يقظان والإنتاج الأدبي الرفيع للرايس بلعيد، إلا مدوناً بالحرف العربي عند محبي الأدب الأمازيغي. إن تحويل قضية الأمازيغية، لغة وكتابة، «مسألة»، كان نتيجة لمنهاج معرفي اعتمد التاريخ والأركيولوجيا وعلم الإثنيات (الأنتروبولوجيا) وعلم السياسة والمصالح الظاهرة والباطنة. وكلها بحوث لم ننتجها نحن في الأصل، إنما تتلمذنا فيها على غيرنا بما هي عليه من علم، وبما هي عليه من إديولوجيا. وطلبُنا المعرفي في حد ذاته ليس عيباً. ولم تصبح مسألة الأمازيغية، لغة وكتابة، قضيةً في إطار وطني مغربي محض، إلا في العقد السابع من قرننا الذي ودعناه قريبا. وكانت أيضاً هادئة عند ذوي الترزن. إذ نجد من بين علمائنا الأستاذ الأكاديمي محمد شفيق، يكتب كتابه دروس النحو الأمازيغي ومعجمه الأمازيغي الكبير، الذي وضعه في إطار أكاديمية المملكة المغربية، باللغة العربية. وما كان الكتاب والمعجم ليُعرفا، سواء في المغرب أو غير المغرب، في الغرب أو الشرق، لولا تحريرهما باللغة العربية. وما كان لترجمة ميثاق حقوق الإنسان إلى الأمازيغية، أن تعرف لولا كتابتها بالحرف العربي، لأمر طبيعي جداً، هو أن الأمازيغ كلهم، باستثناء بعض البحاثة، (يعدون على رأس الأصابع) لا يعرفون الأمازيغية إلا بهذا الحرف. هذه حقيقة. ولم تكن مسألة النطق الأمازيغي والحرف الذي يكتب به أمراً عائقاً في كل هذه الأعمال المذكورة، رغم وجود أصوات أمازيغية لا يعبر عنها الحرف العربي بما هو عليه، فَعَمِل أسلافنا وعلماؤنا قدر الإمكان، لإيجاد المقابل المُرضي. ولم يعتبر غياب الرمز الموالم للصوت، مانعاً للكتابة بالحرف العربي لأسباب، منها: -أن لغات هندو أوروبية، مثل الفارسية و(الأردية)، وبعض لغات إفريقية، احتضنت الحرف العربي منذ القديم، واستطاعت مع الأيام أن تجد حلولا للمشاكل الصوتية بما استحدثته من رموز تخصها، بالرغم من عدم وجود البرمجيات الحاسوبية التي تمكن من إيجاد الرموز الموالمة للخصوصيات الصوتية إذ ذاك. -أن الأمازيغية أمازيغيات، تختلف أصواتاً ومخارج حروف، مما يدعو إلى تعدد الرموز وإيجادها تبعاً لتعدد اللهجات، فنكون في هذا الوضع بين أمرين، إما أن نوحد أصوات الأمازيغية في المغرب، شمالا وجنوباً ووسطاً، وهذا أمر لا يمكن أن يكون صناعياً، لأنه يقتل الموروث ويُعَفِّي عن آثاره. وإما أن نعدد الكتابات بِخَصِّ كل أمازيغية برموزها، وهذا أمر لا يمكن من النهضة بهذه اللغة، وهو المرغوب الأسمى عند الغيورين على هذه اللغة ونحن منهم. هذه عقبات قائمة لا محالة. والعقبات في هذا الباب قائمة حتى في اللغة الواحدة عندما يتحدث بها أبناؤها المهاجرون، أو أبناء بلدة معينة في نفس الوطن، عندما يختصون بنطق معين. ونأمل أن يفهم طرحنا لهذه النقطة بالذات، على أنه طلب للتنوير من المختصين، لا انحيازاً لوجهة أو دخولا في جدل. وأنه عرض لواقع استطاع فيه الحرف العربي أن يوفر إمكانيات استفاد منها أجدادنا ومعاصرونا، وحسناً فعلوا، فرأبوا الصدع بعبقرية متميزة، لأنهم كانوا يعرفون أن وشائج القربى قد تسهل من المأمورية. والعربية والأمازيغية، تشتركان في كثير من الوجوه، وقد شعروا بذلك رحمهم الله وجزاهم خير الجزاء. فهل اختيار حرف تيفناغ قدر محتوم يجب أن تبقى عليه الأمازيغية اليوم؟ 7 البديهية السابعة: حرف تيفناغ صالح من الوجهة الأكاديمية الجامعية، معرقل من وجهة نشر اللغة الأمازيغية تعددت اختيارات الكتابات الأمازيغية في مغرب اليوم وكانت ثلاثة: الكتابة بالحرف العربي الكتابة بالحرف اللاتيني والكتابة بالتيفناغ. أشرنا إلى الكتابة بالحرف العربي، ويبقى القول في الاختيارين الآخرين: 1- الكتابة بالحرف اللاتيني لن تستجيب لكل متطلبات أصوات اللغة الأمازيغية بالأولى والأحرى، لأنها أبعدُ ما تكون من وجهة النسب، فهي أخص بالعائلة الهندو- أوروبية، التي استعارت هي نفسها من كتابة هي أم الكتابات وهي الأقرب إلى اللغة العربية والأمازيغية في النسب. ولأنها تبعاً لذلك لن تحل المشاكل الصوتية. فهذه اللغة التركية التي تخلت عن الحرف العربي وتبنت اللاتيني- وهي في إطار النسبية أقرب إلى الهندو أوروروبية- وجدت نفسها تلهت وراء رموز لا وجود لها في الحرف اللاتيني الذي ظنت فيه النجدة، فعقدت أمر لغتها وهي تريد التسهيل والتخفيف. فالمسألة هَمٌّ علمي قبل كل شيء. ولا أرى ضرورة للحديث الطويل عن هذا الاختيار، فهو اختيار في نظرنا غير مفيد، وعلى كل حال أبعده أصحاب الأمر في الأمازيغة وحسنًا فعلوا. 2- والخيار الثاني هو حرف تيفيناغ. وقد قر رأي القائمين على أمر الثقافة الأمازيغية بعد مخاض، على اختيار هذا الحرف، وأصابوا في السياق الذي يعملون داخله من أجل تحريك المشهد الأمازيغي وهو كُلٌّ، واعتبارا من أن المسألة هي مسألة ثقافية وليست سياسية في مغرب اليوم الذي يرى حقيقته في وحدة مختلفة مؤتلفة، وباركت الاختيارَ أعلى سلطة في البلاد. إنه اختيار سليم من حيث منطق الأشياء، ومن حيث ربط اللغة بأداتها التاريخية، إذا كان الأمر ينحو نحو الجهد الأكاديمي الذي يريد أن يؤسس لاتجاه معرفي متكامل البنيان لا يفصل بين المضمون والشكل في وعي يسعى إلى الإحاطة بالموروث المغربي في كل تنوعاته الغنية التي تبرهن على وحدته في أصوله ومبتغاه، ولا تريد أن تقطع جزءاً من تاريخه، على الرغم من كون حرف تيفناغ لحد الآن، لم ينقل إلينا تراثاً متعدد الأشكال الأدبية والصور البلاغية والنتاج المعرفي الذي يتصور ويحيط بحاجيات الإنسان في صناعاته والعناية ببيئته وجسمه وماله. فما بين أيدنا اليوم نقوش معدودة وفقيرة، وكيف ما كان الحال، فنحن على يقين بأن الأمر سيتطلب اجتهاداً وجهداً وطول معاناة وزمان. ذلك أن تيفيناغ، وهي الحرف الأمازيغي التاريخي، ذو أصول متينة مثبتة بالنسب والتواتر. وهو الأقرب إلى أُولَى الألفبائيات في التاريخ، وهو الأحق بالاجتهاد إذا كان لا بد من اجتهاد في تطوير الكتابة والحرف الأمازيغي، في المفهوم الأكاديمي الواسع الذي لا يرتبط بحساسية الظرف القائم. لكن ما حرف تيفيناغ الأمازيغي الذي نشغل به أنفسنا ونشغل به الناس؟ ذاك ما يستحسن أن نذكر به في هذه المناسبة، القارئَ من غير المختصين. فما محل كتابة تيفيناغ من قصة الكتابة؟. انتشر الحرف الفينيقي لطفرة في التبسيط، منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد، في الأراضي التي أصبحت تعرف فيما بعد بسوريا ولبنان وفلسطين إلى قبرص. ومنذ القرن الثامن قبل الميلاد، امتد العمل به في أراضي الأناضول وسردينيا وما بين النهرين واليونان وإيطاليا وأسبانيا ومصر والمغارب. وكان بالإضافة إلى ذلك، هو أصل الحرف الآرامي والعبري والنبطي والسرياني والعربي الجنوبي، في تنوعه السبئي والحميري، والعربي والخط الحبشي. وهذه كلها من اللغات العروبية. ومن المعلوم أن أسماء الحرف العربي اليوم هي بمعانيها العروبية، ألف: ثور. باء (بِيت): بَيْت. جيم: ج[مل]... وكان الحرف الفينيقي أيضاً أصلاً لحروف أسرة لغوية لا علاقة لها أصلا بأسرتنا اللغوية العروبية، مثل السنسكريتي والتامولي والهندي. وأصبح الحرف الفينيقي بالأخص، أصلا لكتابة اللغة الإغريقية واللاتينية. فما علاقة الحرف «تيفيناغ» بالحرف الفينيقي؟. إنها العلاقة كل العلاقة، فهو الأشد قرباً من كل هذه الألفبائيات التي تحدثنا عنها، إلى الحرف الفينيقي وإلى اللغة الفينيقية، إذا ما وضعنا الأمازيغية ضمن الفرع الكنعاني، وإذا ما وضعناها في الصُّنافَة «الحامية» (اللغة الحامية)، مع أن هذا التصنيف لا يعتمد أي مرتكز تاريخي. وإنما نستعمل نحن المصطلح تقريبا للفهم لا أكثر. وجود حرف يفترض ضرورة وجود لغة، واللغة هي أداة التواصل تلك التي تعرف اليوم ب «تمزيغت». وزاد عمرها عن الألفي سنة. وطرأ عليها من التغيير ما يطرأ على كل لغة ينتقل أصحابها من مكان إلى مكان، توسيعاً لرقعتهم، أو بحثاً عما يقيم أَوَدَهُم، أو حملا لتجارتهم، أو فراراً من مكروه يهدد حياتهم. وفي هذه النقلة يموت من اللغة الأصلِ ما يموت، لغيابه في المكان الجديد، أو يولد فيها ما يولد لغيابه في المكان القديم، أو يدخلها دخيل، لفظاً وبنية تركيبياً أو صوتاً. ومما يطرأ عليها بالأولى اكتساب رمز به تخلد بنات أفكار المتحدثين بها لينتصروا على الزمان ويَخْلُدُون. وهذا الرمز الحرف هنا، هو تيفيناغ. ومن الأكيد أنه تعرض هو بدوره لكثير من التقلبات. وهذه التقلبات هي الأصل في البحث عن أصوله. وترددت الفرضيات بين أن يكون أمازيغياً محضاً، فهو إبداع من أصحاب اللغة محلي. وأن يكون من أصول فينيقية. وأن يكون خليطاً من المحلي والمتأثر بالفينيقي، أو يكون مجهول الأصل بالمرة. وقبل أن نرجح نحن إحدى الفرضيات، نشير إلى أن خط تيفيناغ عَمَّر زمناً طويلا يتعدى ما افترضه المفترضون، وهو القرن السادس ق.م. وأنه انتشر جغرافياً انتشاراً واسعاً. إذ أصوله اللوبية الأقدم تفرعت إلى شرقية وغربية. وامتدت الغربية على طوال ساحل الأبيض المتوسط، من «لقبايل» إلى المغرب فالجزر الكنارية. والشرقية من قسطنطينة إلى الأوراس فإفريقيا (تونس). وقد ساعدت النقوش من الفرع الشرقي، على استخراج الحرف «التيفيناغ» ورسمته في 22 حرفا (من 24). ويرجع الفضل في هذا الاستخراج إلى النقوش المزدوجة اللغة: اللوبية- البونية. وأقدم النقوش التي وصلتنا يعود تاريخه إلى 139 ق.م. وهو نقش يخلد بناء للملك ماسيناسا. وظلت تيفيناغ تخط الكَلِمَ الأمازيغي في شمال إفريقيا حتى القرن السابع الميلادي، في اتجاه هو من الأسفل إلى الأعلى أفقياً. وبقيت حية مستعملة في كتابات الصحراء والطوارق بصورتها القديمة، ثم عادت في خضم المسألة الأمازيغية في العقود الأربعة الأخيرة من القرن السابق، خطاً مستحدثا في اجتهادات الأكاديمية الأمازيغية التي اعتمدت تيفيناغ الطوارق في رسمها الذي أصبح يستعمل في كتابات الأمازيغية اليوم. هذا مختصر لمسيرة الكتابة «تيفيناغ» منذ القديم وإلى اليوم. والحديث عن المسيرة لا يعفي من العود إلى الأصل. وأصل تيفيناغ في نظرنا هو الخط الفينيقي لأسباب منها: أن الاسم «تيفيناغ» هو الدليل الأقوى، فهذا اللفظ لا يعني إلا «تفينيقت» وهي الصيغة الأمازيغية للفظ «فينيقية». ولا نرى صوابا لمن أرجع لفظ «تيفيناغ» ل «تيفي»= وجد، و»إناغ» = نحن، ( نحن وجدنا). يريد بذلك أن الأمازيغ هم الذين أوجدوا هذا الحرف فهو لهم. «تفي إناغ» لا معنى لها مطلقا إذا لم تكن في سياق. ولا توجد لغة بدون سياق منطوق أو مومئ إليه أو يدخل في ضرب من المجاز المقبول. وخلاصة القول أولا، إن حرف تيفيناغ هو أكثر الحروف قاطبة شبها بالحرف الفينيقي، وأن علاقته بهذا الحرف علاقة طبيعية تستوجبها الأصول اللغوية المشتركة، والتاريخ المشترك، والجغرافيا المشتركة. وأن الحرف الْأَوْلَى باللغة الأمازيغية، في إطار العود إلى هذا التراث المغربي، من الوجهة الأكاديمية، وفي إطار الفعل الثقافي المُؤَصِّل، هو هذا الحرف العريق، ويكون من المخجل استعمال الحرف اللاتيني أداة لكتابتها، لأن الحرف اللاتيني نفسه «فُرَيْع» من الأصل الفينيقي، ولأنه لا يحل أي مشكل من مشاكل الكتابة التي هان أمرها اليوم بوجود البرمجيات. وإلا فإن الحرف اللاتيني نفسه في لغة أصحابه، عائلة لاتينية أو جرمانية-أن?لو سكسونية، أو في العائلة السلافية، لم يعد كاف لنقل المعارف الجديدة بما استحدثته من رموز في الجديد من العلوم، فقد تساوى الكل، وفاز من وفر الأسباب للبحث العلمي. هذا فيما يتعلق بالبحث الأكاديمي الجامعي وفي النقوش، أما فيما يتعلق بالكتابة الجارية والمناهج التعليمية اليوم لمن يريد، فالخط العربي هو الأولى من جميع الوجوه. وحرف تيفيناغ، إذا ظل هو المستعمل، فسيقضي على كل الموروث الأمازيغي، لأنه يحكم على المدونة الغنية التي ورثها المغاربة في أمازيغيتهم المختلفة المتعددة، في شمال ووسط وجنوب وأطراف المغرب، والتي كتبت بها كل الآثار التي أشرنا إليها أعلاه، منذ عصر المرابطين، بل منذ الدولة الإدريسية منطقياً بالموت البطيء، ويعوض بها لغة منتقاة صناعية هي الأمازيغية المخبرية التي صنعتها ثلة من اللسانيين. ونتساءل هل يمكن للغة صناعية وحرف تاريخي لم يصلنا معه أي موروث أدبي وعلمي غزير، الحفاظ على الموروث والتراث الأمازيغي الذي نعتز به ونفتخر ونتباهى، في صوره النطقية المختلفة، وفي معجمه المعبر عن كل بيئة وكل جهة من جهات المغرب، وفي مخزونه التراثي الذي هو تراكم لإبداع ومُسْتَعْمَل من عشرات القرون؟ هل تستطيع الأجيال المقبلة من الأمازيغ أن تطلع على هذا الإبداع بعد أن تنتهي الأجيال الحاملة لهذا الإرث بالتواتر والنقل؟ وهل يوجد مبرر لاستعمال حرف تاريخي استخرج من مهشَّمَات النقوش التي عُرفت منذ فترة الاستعمار، وهو بلا تراث مدون أدبي وعلمي متنوع مكتوب يغطي فترة زمنية كافية، في مقابل حرف أثبت جدارته واحتفظ لنا بالإرث الأمازيغي الديني والفقهي والأدبي، على الأقل منذ الفترة الموحدية؟ وما حقيقة ما يشاع عن اكتشاف تراث أمازيغي غني مكتوب بحرف تيفناغ سيظهر للوجود؟ ومن هم المختصون في علم الآثار من الأمازيغ الذين سيقرأون هذا الإرث المكتشف إذا كان حقاً موجود؟ 8 البديهية الثامنة: استحالة إيجاد الأطر التي تعلم تلاميذنا بهذا الحرف إذا افترضنا بأن المغرب قادر على إيجاد كل الموارد الضرورية لتلبية حاجة تعليم الأمازيغية بحرفها التيفيناغ، فهل وضعنا في حسباننا القوة البشرية التي عليها أن تقوم بذلك؟ إن عدد تلاميذ المرحلة الأساسية الأولى فقط هو ل2،980،814 تلميذاً في 4،349 مدرسة، وما يحتاجونه من تأطير، قياساً على عدد العاملين في هذه المدارس اليوم، هو 98،489 معلما، (إحصاء وزارة التعليم، آخر تحديث 13 أبريل 2011). فكم نحتاج من سنين لإعداد هذا الجيش من المعلمين لتتحقق طوباوية نعيش سكرتها في هذه اللحظة، ولا نحسب ما وراءها من خَرْطِ القَتَادِ. 8 البديهية التاسعة: طوباوية لا تنبني على أساس نعيش طوباوية مضحكة، ونناقش «قضية مزيفة» كما يقول الفرنسيون، فبدل أن نجتمع معاً من أجل الدفاع عن لغة وطنية نقتحم بها مخابر العلم والمحافل الأممية، -ولتكن في ذلك أمازيغية قادرة ومسندة- دون أن نكون عالة على لغة لا هي من دمنا ولحمنا، نناقش قضية لا علاقة لها بواقع وضعنا اللغوي الذي يجب أن يكون. فالقضية الأحق بالنظر اليوم من قبلنا جميعاً، لا تتعلق بالصراع بين لغتين أو مسألة ترسيم هذه أو تلك. إن المسألة في واقع ما نحن عليه، هي تغييب اللغة الوطنية، المسنَدة بروافد اللغات المشاركة معها في مسيرة التاريخ والوطن، القادرة على صنع المعرفة وتسجيل براءات الاختراع وتدبير شؤون الأمة، في الشبيه من الظروف التي تستعمل فيها الأمم ذات الأنفة والإباء، لغاتِها الوطنية، بوصفها لغة سيادة، ولغة مرجعيات، ولغة تدبير، ولغة منتديات دولية. وباختصار لغة أمة لا تستعير لغة غيرها مثلها مثل فقير محتاج ذليل، مع أنها تملك لغة ذات تجربة في صناعة العواطف والعلم. أما حب المغاربة لأمازيغيتهم فهذا من باب السماء فوقنا.