يعتبر ماكيافيلي، بالنسبة للكثير من الدارسين، الاسم الذي اسهم بشكل كبير في ابتكار شكل جديد للوجود السياسي. لم يعد يهمه، كما كان الامر لدى الاغريق (ارسطو مثلا)النظر الى الجماعة السياسية باعتبارها طبيعية، كما الانسان نظر إليه من طرفهم في طبيعته باعتباره كائنا حيا سياسيا، أصبح الاهم بالنسبة للمحدثين بدءا من ميكيافيلي، الانشغال بالحفاظ على البقاء بالنسبة للإنسان، الابقاء على الذات واستتباب الامن وهو الانشغال الذي يحدد بالنسبة لهم المرور من حالة طبيعية الى الحالة الاجتماعية. أصبح الشأن السياسي متعلقا بالضرورة، أكثر من تعلقه بالغايات الكبرى، وعوضت الحداثة السياسية بدءا من ميكيافيلي «واجب الوجود»، بالحقيقة الفعلية Veritaeffetuale، للسياسة على خلفية الشرطية التي تتحكم فيها الضرورة والتي داخلها يعيش الناس. يحدد عالم السياسية ليو ستراوسLeo Strauss في كتابه [موجات الحداثة الثلاث]، عنصرين اثنين، يكشفان القصد العام لصاحب [الامير]، وينطرحان كأساس للفلسفة السياسية الحديثة. يشير العنصر الاول، حسب ستراوس الى اختلاف ماكيافيلي مع الكتاب الذين سبقوه، حول كيفية الحكم على ما يجب أن يكون عليه سلوك الامير. يعلن ماكيافيلي بأنه لا يريد سوى معرفة الحقيقية الفعلية، وأنه لا ينشغل بالتخيلات التي نسجت في الماضي، ويدحض تبعا لذلك، النزعة المثالية ليتبنى فقط المقاربة الواقعية للشيء السياسي. ذاك ما يصرح به في [الامير] قائلا: [ مادام قصدي كتابة أشياء مفيدة لمن سيفهمها، يبدو أن الاكثر ملاءمة هو اتباع الحقيقة الفعلية للشيء، بدل تخيله] (1). لا يكتفي ماكيافيلي بوضعية الملاحظ أو المحلل ، بل يزعم اكتشاف قواعد السلوك السياسي عبر المعالجة المباشرة، والدراسة المتفحصة لما هو كائن، وانطلاقا من هذا فإنه. يمحو المسافة التي حافظ عليها كثيرا سواء الفيلسوف الكلاسيكي أو اللاهوتي، بين معطيات التجربة المحسوسة وواجب الوجود، وتبعا لذلك فإنه لا يلغي كلية الاخلاق من حيز السياسة، وينظر لهذه الاخيرة فقط كتقنية. راجت فكرة التصور التقنوي للسياسة هذه كثيرا لدى دراسي ماكيافيلي ومؤوليه، حتى صارت رأيا مشاعا، وهو ما قاد بعضهم الى الحديث عن «غياب الفكر « لديه، واعتبار» الحقيقة الفعلية» التي أبرز من خلالها واقعيته، بمثابة فكرة يطرحها «مهندس». يعتبر ماكيافيلي بأن الدولة والسلطة والشعب والخضوع، كل «ينطرح من تلقاء ذاته»، كما أو وضوحه الواقعي تمثل أيضا، في عدم طرح أي أفكار أو تأملات حول كل ذلك. انطلاقا من تجارب سياسية عديد لأمراء وإمارات في بداية العصر الحديث، يفرز ماكيافيلي بطريقة تجريدية «نموذجا» عقلانيا، يشيده باعتباره الحقيقة الفعلية لكل سياسة. يختزل هذا النموذج أو التجريد السياسة، في المجهود الذي تبذله السلطة للحفاظ على وجودها، وعلى المجال الذي تسود فيه وبه توجد، كما لو أن السلطة موجودة عموما خارج كل التحديات التاريخية، وكما لو أن هذا المجال هو نفسه، سواء كان مأهولا بنعاج ينبغي جز صوفها، أو مواطنين يجب التحكم فيهم أو سكان تلزم إدارتهم، وكأن الخضوع هو نفسه، سواء تعلق الامر بمدينة إغريقية أو بإمارة أو بدولة حديثة. يلزم الحذر إزاء الفكرة الرائجة التي لا ترى في ماكيافيلي، سوى التصور التقنوي للسياسة، باعتباره مؤسس علم موثوق منه ودقيق يمنح نوعا من الوضوح في الرؤية للمجتمع وأشياء العالم، ويرنو الى اجتثاث الفكرة التي تفترض وجود فضيلة في ذاتها، عدالة في ذاتها، تشكلان معا، حتى ولو صعب أمر تحققهما، معيارا للسلوك الانساني والتنظيم الاجتماعي. يختزل ماكيافيلي عكس المفكرين القدامى، الفضيلة والعدالة في مجرد أثرين من آثار الضرورة، لان الفن السياسي لديه يشتق من معرفة الضرورة، معرفة يوجهها الفحص المتمعن لحالات وأوضاع قصوى. أما العنصر الثاني الذي يراه ليو ستراوس ضروريا في الفهم فهو ذاك المتعلق بسلطة الحظ، إذ يعمل صاحب [الأمير] على إحداث قطيعة مع التقليد الكلاسيكي، عبر التأكيد على أن الانسان بإمكانه الانتصار على الحظ، الذي يشبهه في الفصل الخامس عشر من [الامير]،بامرأة يمكن ترويضها عبر القوة، وهي الصورة التي تنهض على فكرة حداثية جديدة تؤكد على القدرة الانسانية ، وعلى القوة التي تسمح بالهيمنة على الطبيعة .سيصبر الانسان تبعا لدلك سيد كل شيء .لم يكن ماكيافيلي مفكرا سياسيا ،الا في الاطار الدي كان فيه بدءا رجل سياسة، بحيث يتمكن الممثل السياسي، عبر توتر العلاقة بين الفكر والممارسة، من أن يفضي، عبر تجاربه من الفهم والحكم على مجال الشؤون الانسانية الى بلوغ ذكاء الشيء السياسي، ومع ذلك فإن ما يستوقف النظر ويشد الانتباه عند ماكيافيلي، هو تموقعه بالذات في التقاطع بين انشغال عملي للغاية، واهتمام بالتأمل في اشكال سياسية وليدة عند منعطف التاريخ الغربي. لم ينطرح ماكيافيلي باعتباره مؤرخا «موضوعيا «ولا منظرا تأمليا، بل رمى الى تعليم كل من الامير من جهة والشعب من جهة أخرى ،وتعويد نظرتيهما على إيلاء الاهمية القصوى للفعل، لتجنيبها أوهام التخييل الضارة، التي تنجم عن التباين بين الرغبات والواقع وفتحهما على إمكانيات الحاضر. إحدى الاطروحات الهامة التي طرحها ماكيافيلي، ودافع عنها بقوة الفكر والبرهان، هي تلك التي تعتبر الشقاق والصراع والقلاقل ملائمة للحرية بل وضرورية لممارستها. يناقض هذا الطرح أغلب ما ذهب اليه المفكرون السابقون، الذين اعتبروا القلاقل والنزاعات والحرب الاهلية التي قد تخترق مجتمعا ما، أحد الشرور الكبرى التي لا فائدة ترجى منها. في الوقت الذي رأى فيه الفلاسفة السابقون عليه ممن فكروا السياسة، أن الهم الاساس هو استتباب أسباب الوفاق والانسجام السياسي والاجتماعي، من أجل وضع تعاقد مثالي يضمن نظام حكم لا يفرق بين الافراد، عمل ماكيافيلي من جهته على شرعنة العنف واعتباره مؤسسا ومكونا للجماعات، وذهب الى حد اعتبار أن القوانين المناسبة للحرية، لا تولد الا من التعارض بين الكبار (علية قوم) والشعب. تتعاظم دينامية المجتمع، حسب ماكيافيلي، كلما تم الابقاء على حالة التوتر تلك وتغذيتها. ما دام الناس على ما هم عليه، فوحدهم أولئك الذين يمارسون الواقعية النظرية لخدمة المدينة التي اليها ينتمون وتسييرها، يصيرون الجديرين بحكمها. يقوم ماكيافيلي، باسم هذه الواقعية النظرية، بمديح القلاقل والفتن المنجبة للحرية، وهي القلاقل والصراعات التي كانت روما مسرحا لها في أوقات معنية. ترد الاطروحة المشار اليها بنفس الشكل والمحتوى تقريبا، في الفصل التاسع من [الامير]، (2) : [وذلك لآننا نعثر في كل مدينة على طبعين متعارضين، لأن الشعب لا يحب أبدا أن يتحكم فيه ويقمع من طرف من هم أكبر منه، وهؤلاء الكبار يميلون الى التحكم في الشعب وقمعه. انطلاقا من هاتين الرغبتين : (الميلين) يولد في المدن أثر من هذه الآثار الثلاثة: إما الامارة أو الحرية أو الفساد]، وفي الفصل السابع من [خطاب حول العشارية الاولى لتيت ليف] (3) : [نجد في كل جمهورية فصيلتين اثنتين : فصيلة الكبار وفصيلة الشعب، وكل القوانين الملائمة للحرية لا تولد الا من تعارضهما.] ينبغي القول بأن ماكيافيلي لا يحيل أبدا على مشهد بدائي يجسد خروج الانسانية من الهمجية، بفضل حدث مؤسس تتخلص عبره الانسانية من مخاطر التشتت والتفرقة وتنشغل بأمورها بدعة، وتعمل على الحد من مخاطر السلطة السياسية. لا ينشغل ماكيافيلي بهذه الرؤية المثالية الحالمة، التي تلغي بجرة قلم الواقع الاجتماعي الاكثر استمرارية ودواما، واقع الانقسام والشقاق والصراع، الذي لا يمكن مداراته ولا تجاوزه، بين من يريدون الهيمنة ومن يرفضونها، والذي يطرح العنف الذي تعيشه كل مدينة كضرورة. ورد القول الاول المأخوذ من (الامير)، معرض الحديث عن «الامارات المدنية» أو الجمهوريات. تنبغي الاشارة الى أن التنافر بين الطبعين والرغبتين والمنافسة الشديدة بينهما، يشتغل حسب معياري القيادة والقمع، أي أن الصراع الطبقي بين الكبار والشعب، لا يتأسس على تعارض ذي طبيعة اقتصادية. لا يرغب الشعب في شيء آخر عدا التمتع بحريته وبالأمن، وإذا ما احتاج الى حكومة ما، ففقط في الاطار الذي تتضمن فيه هذه الاخيرة التمتع الآمن بهذه الاشياء الأساسية (الحرية، الأمن، الممتلكات). لا يقمع الشعب نفسه لان رغبته لا تصدم أحدا، لكن أولئك الذي يضطلعون بتأمين هذا التمتع بالأمن، يلفون أنفسهم بالضرورة في وضع مخالف بالمقارنة معه: (الشعب)، إذ يكون بمقدورهم، عبر ممارسة السلطة، الاستفادة من هذه الوضعية وتحقيق مصالحهم الخاصة، وقمع الشعب تبعا لذاك. إذا كان من غير جدوى، الحلم بغياب سلطة تعمل على احترام القانون، فغير مجد أيضا الحلم بمالكي سلطة لا يضطلعون بالرغبة في القمع. يؤكد هذه أحد الادلة الواردة في الكتاب الاول من [خطاب حول العشرية...]، حيث يقوم ماكيافيلي، دون تبني موقف معين، بالموازنة بين المزايا المقارنة لكل من إسبرطة وروما، ملاحظا أن عظمة هذه الاخيرة لم تنتج أبدا عن تشريع حكيم ما، يل تشيدت تبعا للأحداث. يوحى ماكيافيلي بأن صلاح دستور ما، لا يكمن بالضرورة في المبادئ التي تحكمت في وضعه، وأن الزمن لا يكون أيضا عاملا من عوامل إفساده. لذا يرجع الاحداث السعيدة التي استفادت منها روما، الى الصراعات التي كانت بين مجلس الشيوخ والعامة، ليكشف فيها بالذات عناصر عظمة الجمهورية، ويقوم بمديح الشقاق والصراع وإبراز فضائلهما، ويخالف الرأي الشائع مؤكدا أن أولئك الذين ينددون بالصراع و بالقلاقل التي يتسبب فيها النبلاء والعامة، يدحضون السبب الاول الكامن وراء الحرية التي يتمتعون بها، ويهتمون أكثر بضجيجها وغضبها، أكثر مما ينشغلون بالآثار الايجابية الناجمة عنها. يقوم ماكيافيلي بقلب الاطروحة التقليدية، التي ترى التجسيد الامثل لحكمة القوانين في فاعليتها وصرامتها لاحتواء رغبات العامة، لأنه يعتبر هذه الرغبات ايجابية إذا ما ميزت شعبا حرا، إذ نادرا ما تصير ضارة والقمع وحده هو الذي يسهم في ايجادها وخلق ضررها وجعلها كذلك، أو الشك في إمكانية وجودها. لا علاقة لفكرة القانون إذن بالقياس، ولا تنجم أبدا بالضرورة عن تدخل مستوى عقلاني ما. يتجلى القانون على العكس في ارتباطه باللاقياس، الذي يوجه الرغبة في الحرية، رغبة غير قابلة للفصل عن ميول المقموعين الفطرية التي ترفض القمع، والتي تنعلن كرغبة في الوجود لا في التملك. ضد تيت ليف يعمل ماكيافيلي على اعادة الاعتبار لحشود العامة، في اخر فصول الكتاب الاول من [خطاب حول العشارية]، حين يؤكد بأنها أكثر حكمة ودواما من الامير. يوضح ماكيافيلي إذن آليات التقسيم الاجتماعي، حين يتكلم عن كبار القوم ( النبلاء أو الخاصة) وعن عامتهم (الشعب)، وهو التقسيم الذي يعثر على أساسه في التعارض القائم بين رغبتين، الأولى متحكمة وقامعة والثانية متحكم فيها ومقموعة، وهو التعارض المعبر عنه باصطلاحات سياسية بينة. إنه ينظر نوعا ما للشكل الذي اتخذته في عصره العلاقات الاجتماعية، والذي لا ينفصل حتما عن تفكيره في السلطة، لأن مآلية التقسيم الاجتماعي، تنلعب حسب النمط الذي يكتسيه تقسيم السلطة والمجتمع المدني. لا ينشغل ماكيافيلي في العمق بالطبيعة الانسانية في ذاتها، بقدر ما ينشغل بهذا التقسيم / التعارض بين الرغبتين، الذي لا يجد تعبيره إلا داخل الحالة الاجتماعية أو الحالة السياسية تحديدا، أي التعارض بين القمع ورفضه. يحكم رغبة كبار القوم الميل الى التملك والتحكم، بينما يقود رغبة الشعب الميل الى الوجود بكل حرية. يتحدد المستوى الاقتصادي، داخل هذه التقسيم انطلاقا من المستوى السياسي، ويتحدد الوضع الاعتباري للسلطة، انطلاقا من هذا التمزق الذي يطال / يشتغل داخل الرغبتين. ليس هناك من أصل متعال أو مثالي للسلطة، لأنها لا تتخلق بشكل فعال إلا داخل هذا التقسيم الذي يحكمها، عبر آلياته وديناميته. إن علاقات السلطة كما تنعلن داخل النظرية الماكيافيلية، متعلقة جذريا بطابع التقسيم الاجتماعي هذا، وبتحديد المصدر الذي منه تمتح الطبقة المهيمنة قدرتها على الاستمرار في الهيمنة، وبالتالي فإن مآلية الدولة نفسها تنتج تبعا لذلك عن العلاقة التي تتأسس بين السلطة والتقسيم الاجتماعي، وهو ما يفرز تداخل الصراع السياسي مع الصراع الاقتصادي. [إن القوانين الجيدة هي ثمرة القلاقل والصراعات التي تولدت عنها، والتي يعمل الكثيرون على إدانتها دون اعتبار]. (4) لنشر في هذا السياق الى أن ماكيافيلي لا يعمد الى أمثلة الشعب، بل يرى أن ما يتحكم في سلوكه هو الحسد والكراهية، وهو ما يخفيه التصور الديمقراطي التقليدي، بكن الشيء الوحيد المميز لرغبته هو ألا يقمع من طرف الاخرين (النبلاء)أي ألا يقمع الحاكمون (الخاصة) المحكومين (العامة). ينظر ماكيافيلي إذن للتقسيم الرغبوي كتقسيم اجتماعي ولأن السلطة مشروطة في تمثيلها وممارستها بالوجود الاساس لهاتين الرغبتين، فإنه لا يمكن عقلنتها، ولأن الرغبة نفسها لا تتحقق في سقف عقلانية ما ولا تحوز بشكل نهائي موضوعها، فلا رغبة كبار القوم من النبلاء والارستقراطية ولا رغبة الشعب بإمكانهما التحقق والاكتمال. يروم النبلاء دوما في ميلهم الى التملك والتحكم، امتلاك أكثر ما يمكن من الامتيازات والممتلكات ليظلوا دوما كبارا، بينما يرنو الشعب من جهته، الى نفي الهيمنة والتحقق في تخيل سياسي اسمه القانون/ والدولة التي تتأسس انطلاقا منه وفي أفقه. إن التعارض الأولي الذي يراه ماكيافيلي، متعلق باقتصاد الرغبة وهو تعارض تتحكم فيه الرغبة نفسها. ضد تصورات النزعة الانسانية إذن وضد التقليد السائد، يؤكد ماكيافيلي فضائل الشقاق désunion، أي دور الصراع الاهلي أو الحرب الاجتماعية من حيث هو محرك، يسهم بفاعلية في خلق دولة حرة وقوية، وهي الفكرة التي استخلصها من الاحداث التي شهدتها ايطاليا، بصدد الاصلاح الزراعي الذي نجم عنه صراع قاد الى سقوط الجمهورية. يرتبط مصير الدولة عند ماكيافيلي عميقا، بالعلاقة القائمة بين السلطة والشعب. إن ما يعمل على إبرازه بقوة، هو الوظيفة التي يلعبها الصراع كعامل للتغيير التاريخي، أي كيف يتمكن مجتمع ما من أن يصير مجتمعا تاريخيا، وكيف تتحدد الشروط المساعدة على ذلك، في تعارض مع المجتمع المحافظ. لا يمكن لمؤسسات الجمهورية الاستمرار طويلا والاقتصار فقط على ضمان مصلح الطبقة المهيمنة وحمايتها، لأن ثمن المبالغة في ذلك هو التخلي عن قوة الدولة ومنعتها وتفككها. لابد تبعا لذلك، من كبح جماح جشع النبلاء (البورجوازية الكامبرادورية والمنتفعين بالسلطة من أصحاب الثروات الكبيرة) من الفئات المحظوظة، وإضفاء طابع الحق على رغبات الشعب وشرعنتها. [حين نتأمل كل هذه الظروف، نرى أن مشرعي روما امتلكوا وسيلتين لضمان الامن والجمهورية، إما منع الشعب من الانخراط في سلك الجندية كما فعلت سلطات البندقية، أو اغلاق الباب أمام الاجانب كما فعلت سلطات اسبرطة. لقد اختار مشرعو روما عكس ذلك، وهو ما دعم قوى الشعب، وتسبب في عدد لا نهائي من القلاقل والصراعات. لكن حتى ولو كانت الجمهورية أكثر هدوءا فقد يؤدي ذلك ضرورة الى أن تكون الأضعف، وأن لا تحوز الوسائل السانحة لبلوغ ذلك الحد الاعلى من العظمة الذي بلغته، بمعنى أن اجتثاث جذور الصراع في روما هو في الآن ذاته اجتثاث جذور قوتها. ذاك مآل الاشياء الانسانية، إذ لا يمكن تفادي عقبة ما دون السقوط في أخرى] (5). يطرح ماكيافيلي إذن مسألة الصراع والقلاقل والشقاق كدرس، يلزم فلورنسا التي اشتغل في بلاطها كمستشار تعلمه من روما التي بنت مؤسساتها على وقع الاحداث التي عاشتها، أي الغليان الاجتماعي والسياسي الذي تعارض مع طموحات الطبقة الحاكمة، ودفعها للبحث عن سلامتها عبر التنازلات لصالح الطموحات المشروعة للفئات الشعبية، إن فن السياسة شبيه بفن الحرب، بالرغم من عدم اختزاله في هذا الاخير، لأنه يفترض بالضرورة تحديد العدو / الاعداء واختيار معسكر ما، واستعمال الحيلة والقوة، حسب ما تتطلبه الظروف والسياقات. ينبع الفن السياسي من معرفة الضرورة ، الناتجة عن التمعن العميق في حالات وأوضاع قصوى. إن الاهم هو تدبير الاختلافات باسم «مبدأ الحرية». إن التعبير عن الميولات والرغبات السياسية والاجتماعية، ضروري لانبجاس قوانين عادلة وضامنة للمساواة، كما أن الصراع بين المواطنين والشرائح الاجتماعية، مفيد لازدهار الحرية. إن الاهم هو تصريف مختلف أشكال الصراعات والأحقاد بطريقة عادية، تسهم بشكل أو بآخر في إخصاب المدن والدول، وإذا لم تجد هذه الأحقاد والصراعات مخرجا عاديا، فإنها تتبنى العنف وتدمر الجمهوريات. لا شيء إذن يجعل الجمهورية قوية ومتينة ومضمونة، سوى منح هذه الصراعات والأحقاد التي تحرك الدولة سمات قانونية. إن المجتمع الانساني مهما بلغت درجة انتظامه وتناسقه، لن يقدر أبدا على محو الشراسة والخبث الطبيعيين اللذين يميزان الانسان، وحتى لو تمكن دستور جيد ما من التخلص من تقلبات العنف البدائي وآثاره، فليس بإمكانه أبدا أن يدعي محو كل عنف وتغييب أسبابه نهائيا. هوامش: Machiavell, la prince et autres textes, folio-Gallimard, 1980. P.98. Ibid. p. 74 Ibid. p.163 Ibid. p. 164 Ibid. p. 169