واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    اعتقال موظفين ومسيري شركات للاشتباه في تورطهم بشبكة إجرامية لتزوير وثائق تسجيل سيارات مهربة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستشراق عبر البوغاز : عن رحلة دولاكروا وماتيس إلى شمال إفريقيا

منذ المنتصف الأول من القرن التاسع عشر، مع أوجين دولاكروا Eugène Delacroix (1798-1863)، ظل المغرب الفضاء المدهش الذي يستدعي التنقيب والاستكناه من لدن الفنانين الأوروبيين على وجه الخصوص، التواقين لملامسة الاستشراق الذي كشف عن سحر البلدان المشرقية من ذي قبل، كما يتضح ذلك من خلال الحس الغرائبي الذي تثيره أعمال الفنان الفرنسي فيفان دينون Dominique Vivant Denon (1825-1747) الذي رافق الحملة الفرنسية على مصر العام 1798، وكما عند غرو Jean Antoine Gros (1771-1835) الذي يعتبر من مؤسسي الاستشراق في فرنسا.
(فنان تشكيلي وناقد فني)
طنجة بعين دولاكروا
في عهد الملك لويس فيليب، كان لمُمَثِّلِه الكونت دومورناي Mornay قنصل فرنسا لدى المولى عبد الرحمان (1822-1859) الفضل فيما أنجزه دولاكروا في المغرب. فبناء على دعوة صديقه مورناي، كان ساحل طنجة على موعد مع قدوم دولاكروا في 24 يناير 1832 ضمن البعثة الفرنسية ذات الطابعين العسكري والديبلوماسي(1)، بعد أن تم تسليط الضوء على منطقة شمال إفريقيا التي أمست تستقطب اهتمام الغربيين، وأضحت تشد عقول ومخيلة الأدباء والفنانين المهووسين بولع «الشرق» وخاصة الفرنسيين منهم.
تزامنت هذه الرحلة مع المرحلة التي كانت فيها «المملكة تفتخر باستقلالها الذي توليه عناية قصوى، بينما تنظر إلى بسط جنودها بعين حذرة» (2)، العين الحذرة التي امتدت إلى الأوساط الشعبية، إلى الحد الذي جعل دولاكروا يعلن عن تضايقه من ظروف الاشتغال الصعبة واستحالة الحصول على الموديلات (النساء المسلمات خاصة): «إن لديهم أحكاما مسبقة ضد نبل الفن المتعلق بالتصوير «La peinture يقول بعد أن بات بنشمول يردّد: «لا ينبغي أن ترسم هنا سنيور دولاكروا»، استجابة للمحرمات الدينية، وإكراهات التقليد، والرفض العنيف الذي يواجهه هذا الشعب مقابل تمثيل أية صورة (3). ومما زاد من حدة هذا الرفض، تلك الأجواء التي ظلت سائدة وقتذاك، حيث اتبع المولى سليمان (المتوفى في 1822) سياسة الاحتراز بموافقة الفقهاء والعلماء ودعمهم، بعد التخوفات التي خلفتها حملة نابليون على مصر العام 1801، لذلك انبنت هذه السياسة على اتخاذ الحيطة والحذر من كل ما هو قادم من الغرب، لإضعاف نفوذ الأوروبيين الذين يمهدون لجعل البلاد تحت سيطرتهم، فكان من البَدَهي أن يحتفظ الاحتراز بتأثيره القوي حتى خلال تولي المولى عبد الرحمان الحكم لينهج سياسة الاحتكار الموصوفة باحتكار المخزن لكل المجالات، وخاصة ما يتعلق بالتبادل التجاري. من ثمة يمكن أن نقترب من ملامسة طبيعة التهديدات التي كانت تلاحق دولاكروا لمجرد ظهوره على الشرفة في مكناس، الشيء الذي كان يجبره على إطلاق الأعيرة النارية في الفراغ أحيانا.
بالرغم من صعوبة هذه الظروف التي تضع الفنان أمام العراقيل التي تحول دون إنجاز بحوث تشكيلية تتناول المسلمين وأنماط حياتهم، فإن دولاكروا لن يتعثر في إيجاد الحلول، فيبادر بالتقاط قِوام الشخوص بذهن يقظ، ويختطف تقاسيم السحنات بخفة حادة، ويلتمس المساعدة من جاك دولابورت نائب القنصل الذي كان يتيح له مقابلة بعض الأشخاص الذين كان يعمل على دعوتهم لهذا الغرض. وفي الوقت الذي عمل فيه على أن يتخذ من كل الرجال الذين صادفهم أصدقاء له. وفي طنجة، تَمكّن من ربط علاقات صداقة مع عدد من العائلات اليهودية المنفتحة التي مدت له أواصر التواصل، خاصة وأن اليهود يعملون كمترجمين ويشتغلون في المجال الديبلوماسي لكونهم يتحدثون باللغات الأجنبية، ويعتبرون معاونين أوفياء للسلطان. من ثمة استطاع الفنان تحقيق رغبته في تصوير موديلات أنثوية باهرة على حد قوله: «اليهوديات مبهرات، أخشى ألا يكون صعبا فِعلُ شيء آخر غير العمل على تصويرهن» (4).
يوم واحد بعد وصوله إلى طنجة في 25 يناير 1832، كتب رسالة لِبييري J.B.Pierret ، يتحدث فيها عن انطباعاته وهو يجوب المدينة: «في هذه اللحظة، تجدني مثل الرجل الذي يشاهد الأشياء التي يخشى أن يراها تفلت منه»(5)، خاصة والعين اللاقطة في طور التأقلم مع سطوع النور الذي غيّر لديه المرئيات الموصوفة بانعكاسات لونية خاصة، الضوء الذي يتدَرَّج ليقفل النهار بسحر غروب الشمس، فيما الضواحي تلبس مناظر الطبيعة الجديدة التي خَبِرها دولاكروا عبر العديد من رسوماته السريعة المفروشة بألوان الأكواريل السّخيّة. وظلت الشخوص تمثل لديه اللغز البصري المُمتع من خلال اللباس الذي وصفه في سياقات مختلفة: «قبل كل شيء، كنت مندهشا من لباسهم البَسيط للغاية، وفي نفس الوقت، من التنوع الذي يعرفون منحه لترتيب القِطع التي يتألف منها»(6)، مضيفا أن «الرّداء منسَّق جدا، وبسيط جدا، غير أن بِطريقته المختلفة في التوضيب، فإنه يتّخذ خاصِّيَتَي الجمال والنبل اللَّذَيْن يناسبانه»(7)، مِمّا يجعل «الجمال يجتمع في كل ما يفعلون». والشخوص ذاتها لا يمكن أن تُثير دلالاتها كاملة إلا من داخل فضاءاتها التي تؤثث المدينة بديكوراتها المعمارية التي لم يسلم من وقعها، إذ يرى أن بمقدور المرء صنع لوحات في كل ركن من أركان الزُّقاق»(9)، بينما يعبر عن حسرته في مراسلة لصديقه ديبونشيل Ch.E.Duponchel (طنجة، 23 فبراير1832) عن عدم قدرته إعطاء فكرة وافية عن التفاصيل الرائعة لتصوير بنايات المغاربة والتناسب الرائع لمعمارهم، مؤكدا على أن شعب هذا البلد شعب مختلف، يتميز برعاية كبيرة ويختلف عن الشعوب المحمدية (10).
وفي البحث عن النماذج والأجواء الأكثر حيوية، والأكثر دينامية، كان من المرتقب أن تشدّ بصره مناظر الفروسية الخلابة، وإيقاعات الخيول وحَرَكيّتها المثيرة التي طالما ألهمت مخيلة المستشرقين وغيرهم من المصورين Les peintres. من ثمة فقد شكّلت الفروسية موضوع دراسة واهتمام كبيريْن، إذ خَصّها بالعديد من الرَّسيمات Croquis واللوحات التي فتّقت خياله الجامح إلى الحدّ الذي دفع به للقول وهو في غمرة مشاهدة الأحصنة وهي تتعارك: «رأيت هنا، وأنا واثق من ذلك، كل ما بلغه غرو Gros وروبنس Rubens من خيال أكثر غرابة وأكثر خفة» (11).
في فضاءات طنجة، رسم دولاكروا وصَوَّر نغم الطبيعة وحركة الناس الفطرية وتجمعاتهم في الأسواق، ولامس أسرار حياتهم وأشكال مبانيهم الإسلامية، ورصد إيقاع الخيول وفرسانها، إلى أن وصل إلى مكناس (15 مارس 1832) التي صور فيها موكب السلطان والحرس، والحريم والعبيد وبذخ القصور... لينهي رحلته بزيارة وهران ثم الجزائر العاصمة في أواخر يونيو 1832.
بمجرد أن وطأت قدماه بلاد المغرب، وبدافع خلاّق، وجد نفسه مرغما على ديمومة الاشتغال بين الرسم والتدوين، حيث ظل ينجز يوميا رسومات أوَّلِية وتصاوير الأكواريل المصحوبة بالتعليقات والشروحات على شاكلة مفكرات Carnets ، ولعل الوضعية التي واجهها دولاكروا في مقاومة الزمن، أمام الكم الهائل من المشاهد والمواقف والأفكار والتأملات التي يُمليها الغنى البصري والاستكشافي للعالم الجديد، كان من وراء بناء أسلوبه المبتكَر والقائم على تصوير المشهد العام واللمسات السريعة دون الاهتمام بالجزئيات والتفاصيل التي تتطلب المزيد من الوقت، وقد تُفقِد العملَ خصوصيته التي لا تتوخى النقل الصِّرف: «لم أبدأ في عمل شيء له أهمية إلا ابتداء من رحلتي إلى شمال إفريقيا، وابتداء من اللحظة التي نسيت فيها التفاصيل الصغيرة، ولم أعد أتذكر في لوحاتي إلاّ الجانب المثير والشاعري، وحتى ذلك الوقت كنت مهتما بحب الدقة، تلك الدقة التي يعدّها كثير من الناس الحقيقة بعينها»(12). هذا النزوع نحو تجاوز دقائق الواقع المرئي وربط إيقاع العمل بترجمة خلجات الوجدان (الذي يلقى الاعتبار الأوفر في الرومانسية)، هو ما سارت عليه المدارس الفنية الحديثة فيما بعد، فصار اللون يتخذ قيمته الجمالية في حدّ ذاته: « روما لم تعد في موضع روما، والقديم ما عاد فيه ما هو جميل. الألوان مرتعشة، والضوء المتفجر يحركها بعمق، ويدفع إلى حماس استخدامها كعنصر أساسي لكونه مسبقا على سطح صفيحة الألوان Palette»(13). فقيمة اللون إذن، أمست مقرونة بدرجة حيويته، الحيوية التي استطاع دولاكروا قبضها من خلال الإنجاز المباشر، خارج عتمة المرسم، تحت سلطان الضوء الطبيعي الساطع والجدير بتعرية اللون وكَشْف نورانيَته. ولذلك رأى هربرت ريد أن التصوير كان «مثل أي عنصر آخر بالنسبة إليه، وربما لم يوجد سوى روبنز من قبله وماتيس بعده اللذين استخدما التصوير بالطريقة المباشرة نفسها، بمعنى أنهم استخدموا التصوير لا باعتباره وسيلة إلى نقل الفكر بطريقة واعية، وإنما باعتباره نشاطا غريزيا مصاحبا لعملية الفكر نفسها» (معنى الفن)، بينما أكد الشاعر بودلير على أن أعمال صديقه دولاكروا المغربية بلغت الحد الرفيع الذي فاق حدود الفنانين السابقين كلهم.
بعد عودته إلى فرنسا، بقيت انجازات دولاكروا التصويرية مشدودة إلى الأسلوب والأجواء التي طبعت أعماله المغربية، وظل تأثيره يمس ليس الكثير من الفنانين الأوروبيين فحسب، بل مسّ العديد من الكتاب الذين تستهويهم الحياة العربية التي تستجيب لحسهم الرومانسي، خاصة وأن دولاكروا «شاعر النور واللون» كما ينعته بيير غراسييه، كان مغرما بالأدب، إذ نظم الشعر في شبابه، وكتب قصصا ومسرحية، فضلا عن الرسائل والمذكرات والمقالات الخاصة بآرائه وتأملاته حول الفن. وأيضا كان محبا للموسيقى منذ نعومة أظافره، مما جعله دائم القرب من صديقه الموسيقار فريديريك شوبان (14).
طنجة بعين ماتيس
في خضم الانفتاح الذي شهده العالم في بداية القرن العشرين، والتطور الملحوظ الذي لحق سيرورة الفن المعاصر، وقد شكلت فيه الانطباعية Impressionisme المنعطف الذي فتح أفقا فنيا رحبا، تضاعفت من جديد بوادر المنافسة الإبداعية التي دفعت بالكثير من الفنانين إلى اختيار الترحال باعتباره حافزا من حوافز البحث وتجديد الرؤى والتصورات. من ثمة أضحى المغرب قبلة للعديد من المصورين Les peintres خلال هذه الحقبة، لنسجل إقامة ألبير ماركيه Albert Marquet بين 1911 و 1945، فرانسيسكو إطورينو Francisco Iturino بين 1912 و 1915، هنري ماتيس Henri Matisse بين 1912 و 1913، شارل كاموان Charles Comoin بين 1912 و 1913، جامس ويلسون James Wilson بين 1912 و 1913 ، دارك وُوثر Dirk Wouters في 1913، ثم راوول دوفي Raoul Dufy في 1925...، وفيما نلاحظ اجتماعهم في نفس السنوات تقريبا، نجد مُعظم هؤلاء الفنانين، حطوا الرحال بطنجة الدولية، البوابة التي تفتح على أوروبا، والمدينة التي تمتلك باستمرار وسائل الإغراء والإغواء لاحتواء المبدعين على اختلاف مشاربهم.
في أبريل 1912، وصل هنري ماتيس(1869-1945) Henri Matisse إلى طنجة ليحصل فيها على ترخيص يمكنه من الاشتغال في فيلا بروك Brooks، الملكية القريبة من فندق فيلا فرنسا الذي يقيم فيه، حيث اتخذ من نافذة غرفته بِرْوازا أوليا لتأطير مشاهده التي اعتمدت الإطلالات المتبدِّلة على المدينة التي غلفته بسحرها، إذ تتحول فيها كل النماذج والفضاءات المعمارية إلى موضوع انشغال إبداعي: القباب، المزارات، الصوامع، الأزقة، الأبواب، القصبات...هذه الموتيفات المتنوعة، صارت تتناسل وتتكرر عبر أكثر من ستين رسما، كأنه يعمل على شحذ المخيلة لتمتلك القدرة على سبر أغوار المدينة ليس الشكلية فقط، بل الروحية أيضا، إذ يقول ناقد ومؤرخ الفن جاك كوارت Jack Cowart بصددها: كان يمتلك ماتيس الإحساس بكونه يستطيع «نيل الحيازة» من الطبيعة الروحية للموضوع، غير أن اللون إبدال لمجال الأحاسيس. إن أي عمل غرافيكي - يضيف كوارت- يسمح لنا وبشكل أفضل، الإقتراب من الإحاطة بالعلائق الروحية التي حافظ بها ماتيس على مواضيعه المغربية (15).
ساحة الدروب، القصبة الغرائبية، المدينة العتيقة، مزدانة بنشاط ناسها الذين يضفون عليها صبغة الحركية، الدينامية الإنسانية التي صاغها ماتيس عبر نماذج الرجل الطنجي المعروف بطابعه الجبلي الريفي، وعبر الفتاة الطنجية التي اختزلها في موديله المتعدد «زهرة Zohra» التي عمد على تنويع لون لباسها.
وفي طنجة يقول ماتيس: «اشتغلت، كنت ألاحق نفس الهدف باستمرار. في العمق، كنت ألاحق بحثي الخاص من خلال نماذج مختلفة»(16)، البحث الذي عمّق لديه الإحساس الجمالي باللونين الأزرق والأبيض، وشكَّل لديه الأسلوب الذي يقوم على البساطة والاختصار والإقلال، ويظهر ذلك جليا في لوحته المسماة «مقهى» (لعلها كافي مور Café maure) التي أنجزها خلال سفره الثاني، باعتبارها اللوحة الأكبر من حيث المساحة، الأكثر تجريدا، والأكثر تأملا فيما يتعلق باللوحات المغربية، حيث اعتاد الفنان معالجة العديد من النماذج التي كان قد استغلها خلال رحْلَتَيْه، فلوحة المقهى إذن تعبّر عن تصوير حُلمي، حيث الشخوص المسطحة بدون سحنات ويحيط بها هدوء متناهٍ (17). إلى حدود هذه المرحلة احتفظت أعماله بالنبرة الوحشية Fauviste حيث الصِّباغ يفقد صفاءه لصالح الرمادي الملون، والشكل الموحي غير المكتمل، غير الدقيق، ليتضاعف الاختزال في اتجاه التركيز على الشكل الهندسي المحايث لقواعد التكعيبية Cubisme بين 1914 و 1917. مثل هذا التحول، لا يمكن أن يكون مستقلا عن البحوث التصويرية التي أنجزها في طنجة، باعتبارها البحوث التي رسّخت تميّزه، وشكّلت تقدّم أسلوبه الإبداعي الموسوم باحتفالية شيِّقة تنسج محطات رحلة مزاجية وتحاكي حلقات سيرورة انفعالية توّاقة لعجائب «الشرق».
في الحقبة ذاتها، عرفت طنجة إقامة العديد من المصورين الأجانب، مثل شارل كاموان صديق ماتيس، جامس ويلسون، ألبير ماركيه... إلى أن حل منتصف القرن العشرين لتحتضن العديد من الفنانين التشكيليين المغاربة: المرحومان محمد الحمري (1930-2000) وأحمد اليعقوبي (1932-1987)، ثم عبد الباسط بندحمان، محمد إدريس الرايس الفني، عبد الرفيع الكدالي، موح الهاشمي...وعلى غرار التشكيل، ظلت طنجة المشهدية تمنح الفوتوغرافيين والسينمائيين كل المواضيع والمواقع والمشاهد والديكورات الممكنة والمحتملة.
هوامش:
(*) يتعلق الأمر- في الأصل- بالمداخلة التي ساهمت بها في الندوة الدولية «طنجة المشهدية» بإشراف مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لجامعة عبد المالك السعدي وجامعة أبريسويث بالمملكة المتحدة وجامعة معهد لندن بباريس، فندق شالة، طنجة، 8-9-10-11 فبراير 2007.
(1) بعد الاستعمار الفرنسي للجزائر العام 1830، تم إرسال البعثة لتدارس موقف المولى عبد الرحمان من إمكانية وضع منطقة الحدود الجزائرية المغربية تحت النفوذ الفرنسي. وفي توالي الأحداث التي واكبت لجوء الأمير عبد القادر الجزائري إلى المغرب العام 1944 (معركة إسلي)، انصب اهتمام الأوروبيين على منطقة شمال إفريقيا، مما زاد من حدة الأحداث السياسية التي دفعت بالعلاقات الفرنسية المغربية نحو المواجهة العسكرية العام 1844، فيما اشتدّ الصراع والمنافسة بين فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا على المغرب مع مطلع القرن 20، لينتهي الأمر بإقرار الحماية الفرنسية على المغرب في 30 مارس 1912، واحتفاظ إسبانيا بنفوذها على منطقة الشمال.
(2) Maurice ARAMA, Le Maroc de Delacroix, eds du Jaguar, Paris, 1987, P18.
(3) Ibid ، ص: 31.
(4) Ibid ، ص: 39.
(5) Ibid ، ص: 140.
(6) Ibid ، ص: 161.
(7) Ibid ، ص: 29.
(8) Ibid ، ص: 89.
(9) Ibid ، ص: 81.
(10) Ibid ، ص: 162.
(11) Ibid ، ص: 162.
(12) محمد المهدي، «ديلاكروا يوميات الفرشاة في المغرب»، جريدة الفنون، ع 68، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، ص 59.
(13) Ibid ، ص: 59.
(14) تم الاعتراف بأهمية دولاكروا العام 1822، فيما تم تعيينه مشرفا على تزيين القصور والمباني العامة في الثلاثينيات، لينجز تصاويره على جدران متحف التاريخ في فيرساي، وعلى سقف إحدى قاعات اللوفر، وعلى جدران وسقف مبنى بلدية باريس القديمة (احترق في 1871).
- رينيه لينت، مجلة الشرق الأوسط، ع 436، 8 نونبر 1994.
(15) Matisse au Maroc (Pierre Schneider, Jack Cowart, John Elderfield, Albert Kostenevitch, Laura coyle), ed Adam Biro, Paris, P.101
(16) Ibid ، ص: 101.
(17) Ibid ، ص: 92.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.