ارتبط اسم السياسي والديبلوماسي والكاتب الايطالي ماكيافيللي بعنوان كتابه الأشهر »الأمير« في شكل طغى تماماً على مؤلفات هذا المفكر الأخرى، ما جعله يبدو وكأن همه الأساس كان تبرير الحكم الفردي ومسألة الخداع في السياسة وأساليب إدامة سيطرة »الأمير« على مقدرات البلد والناس. لكننا نعرف ان لماكيافيللي مؤلفات أخرى، بينها روايات ومسرحيات. ولكن من بينها ايضاً نصوصاً أقل شهرة بكثير تجعلنا قراءتها ندرك ان كتاب »الأمير« لم يأتِ من عدم، كما انه لم يأتِ »فقط« من تأملات الكاتب / الديبلوماسي في أحوال الإمارات والمقاطعات الايطالية التي يبدو لنا انه كان يعرفها أكثر من أي مكان آخر. ارتبط اسم السياسي والديبلوماسي والكاتب الايطالي ماكيافيللي بعنوان كتابه الأشهر »الأمير« في شكل طغى تماماً على مؤلفات هذا المفكر الأخرى، ما جعله يبدو وكأن همه الأساس كان تبرير الحكم الفردي ومسألة الخداع في السياسة وأساليب إدامة سيطرة »الأمير« على مقدرات البلد والناس. لكننا نعرف ان لماكيافيللي مؤلفات أخرى، بينها روايات ومسرحيات. ولكن من بينها ايضاً نصوصاً أقل شهرة بكثير تجعلنا قراءتها ندرك ان كتاب »الأمير« لم يأتِ من عدم، كما انه لم يأتِ »فقط« من تأملات الكاتب / الديبلوماسي في أحوال الإمارات والمقاطعات الايطالية التي يبدو لنا انه كان يعرفها أكثر من أي مكان آخر. والحقيقة ان هذه النصوص التي نتحدث عنها هنا هي في الأساس نصوص ديبلوماسية تحدث ماكيافيللي فيها، عن أوضاع مناطق اخرى من العالم رصدها إما في شكل ميداني خلال زيارات، ديبلوماسية دائماً، لها، وإما في شكل رصد من بعيد من طريق كتاب ومحللين آخرين. وربما تكمن أهمية مثل هذه النصوص على ندرة حضورها لدى القراء - في كونها مهدت السبيل امام صاحب »الأمير« لوضع كتابه هذا، ما يعني حقاً ان هذا الكتاب لا يجب اعتباره نصاً ايطالياً خاصاً، بل نصاً شاملاً لا ينظر فقط الى ما يجب ان يكون الحكم »الصالح« عليه، بل يتحدث عن تجارب ميدانية في الحكم، وفي الحكم القوي، عاشتها مناطق أوروبية بخاصة في زمنه او في بعض الأزمان السابقة عليه. ومن بين هذه النصوص واحد كتبه عن أحوال المانيا، والثاني عن أحوال فرنسا. والواقع ان قراءة كل من هذين النصين بالتزامن مع قراءة »الأمير« تكشف عن حضورهما الحاسم في هذا الكتاب. ولا بد من ان نشير هنا، منذ البداية، الى ان ماكيافيللي كتب النص »الألماني« عام 1508 والنص »الفرنسي« عام 1510، غير ان اياً من النصين لم ينشر خلال حياته، بل نشرا للمرة الأولى معاً عام 1532، أي بعد موت كاتبهما بما لا يقل عن خمس سنوات. يحمل النص الأول عنوان »تقرير حول شؤون ألمانيا«. وهذا النص الذي قال ماكيافيللي انه، في الأصل، كتبه لنفسه وربما لأصدقائه أيضاً، لم يكن أكثر من جمع لانطباعات المؤلف التي عاد بها من مهمة ديبلوماسية كلف بأدائها في انزبروك في ألمانيا، لدى الامبراطور ماكسيميليان. صحيح ان زمن المهمة لم يكن طويلاً... لكن ماكيافيللي تمكن مع ذلك من ان يرصد بدقة أحوال عدد من المدن الألمانية التي مر بها ذهاباً وإياباً. ويبدو واضحاً من خلال ذلك الرصد والتعبير عنه، ان الديبلوماسي الايطالي فوجئ بالغنى الفاحش الذي تنم عنه أحوال تلك المدن. ويلفت ماكيافيللي هنا انتباهنا الى ان هذا الثراء لم يكن ناجماً لا عن ازدهار الصناعة ولا عن ازدهار التجارة، بل عن فضيلتين أساسيتين لاحظ ان الشعب الألماني يتمتع بهما: انه شعب دؤوب ويحب الإدخار. غير ان ماكيافيللي يلاحظ في المقابل، ان هذا كله لن يكون قادراً على ان يؤمن وحدة حقيقية لهذه الامبراطورية. والسبب التناحر القائم من ناحية بين المدن الحرة والأمراء (الاقطاعيين)، ومن ناحية ثانية بين المدن والأمراء، والامبراطور نفسه. وهذا ما يجعل ماكيافيللي يصل الى استنتاج كانت له أهميته في ذلك الزمن: ان سلطة الامبراطور ليست سلطة حقيقية في الجوهر، بل هي سلطة ظاهرة فقط. وينتقل الكاتب في القسم الاً في الحديث عن محاسن هذه الفنون وعيوبها. والحقيقة ان في وسع قراء الكتاب عن »فن الحرب« الذي وضعه ماكيافيللي عام 1526، ان يجدوا اصداء اساسية لهذه الصفحات من تقريره عن ألمانيا، في الكتاب. ويحمل النص الثاني صيغة عنوان الأول نفسها »تقرير حول شؤون فرنسا«. وفيه يستعيد الكاتب نصاً آخر كان وضعه سابقاً. أما النصان معاً فإنهما يهتمان برسم صورة قلمية باهرة الى حد كبير للجغرافيا السياسية لفرنسا الذي كانت البعثات الديبلوماسية التي أخذت الكاتب اليه قد أتاحت له ان يتعرف عن كثب، وبشيء من التفصيل، على أوضاعه بأفضل مما كانت بعثاته الألمانية أتاحته له بصدد ألمانيا. حيث من الواضح في هذا النص »الفرنسي« ان ماكيافيللي كان على اطلاع كبير على احوال فرنسا. اما الشيء الذي لفت نظر ماكيافيللي أكثر من غيره فكان »قوة التاج وسلطته«، إذ يفيدنا ان هذا التاج المركزي تمكن من ان يربط به معظم الاراضي الفرنسية الغنية وإخضاع كبار الاقطاعيين له تماماً. لماذا؟ لأن معظم هؤلاء كما يفيدنا ماكيافيللي هم من دماء ملكية بمعنى انهم لا يتبعون التاج من ناحية سياسية او من ناحية المصالح المشتركة فقط، بل بخاصة من ناحية القرابة العائلية ورابطة الدم. ومن هنا، يؤكد لنا ماكيافيللي، »قوة هذا البلد ومنعته اللتين تمنعان أي جار من الحاق أي تهديد جدي به«. واذ يتحدث عن هذا الأمر بشيء من التفصيل، يجد ماكيافيللي لزاماً عليه ان يقف ليتحدث، بشيء من التفصيل ايضاً، عن البلدان المجاورة لفرنسا... من وجهة نظر علاقتها بهذا البلد. وهو هنا كديبلوماسي بارع يتحدث عن كل بلد موضحاً امكاناته السياسية والإستراتيجية ذاكراً الأسباب التي تدفعه اما الى صداقته لفرنسا، وإما إلى الوقوف موقفاً عدائياً تجاهها. واذ يضعنا الكاتب في هذه الصورة، يعود الى فرنسا، كي يقول لنا ان وضعها المستقر »مدين لشجاعة النبلاء الفرنسيين وقوة شكيمتهم في المعارك والحروب«. ان »فضائل نبلاء فرنسا هي التي تساهم مساهمة اساسية في منعتها، حتى وإن كانت هذه الأخيرة لا تملك من السلاح ما يوازي الأسلحة التي تملكها بلدان مجاورة مثل اسبانياوألمانيا وسويسرا«. وبالنسبة الى ماكيافيللي لا يكفي امتلاك السلاح وحده لتوفير المنعة والقوة، بل يجب ان تواكبه شجاعة بينة وخصوصاً، حوافز مشجعة وواضحة. وهو يرى في هذا الاطار ان بلداً مثل فرنسا، من أجل الدفاع عن وجوده ومكتسباته في وجه جمهرة من بلدان معادية تحيط به، يتمتع أهله بالشجاعة والحوافز المطلوبة لحيازة القوة التي تحميه. وفي هذا الإطار لا يفوت ماكيافيللي التشديد على الدور الذي يلعبه في قوتها كون فرنسا بلد انتاج زراعي كثيف ومزدهر. فهذا الثراء الزراعي العريق يوجد قوة في التراتبية الاجتماعية تجعل كل فرد، من أصغر مزارع - يعمل لحساب الاقطاعي- الى أهل البلاط، مدركاً دائماً ان حمايته للوطن تشكل حماية شخصية له ولرزقه، بصورة لا يكون الدفاع عن البلد مجرد الدفاع عمن يبدو ظاهراً انهم هم الذين يملكون البلد (الملك والنبلاء والاقطاعيين). وماكيافيللي لا ينهي هذا التقرير، من دون ان يتوقف طويلاً وفي إسهاب عند المهمات الأساسية التي تقوم بها الدولة المركزية في فرنسا، وعند المالية العامة، ودور الكنيسة وما الى ذلك، ما يجعل من هذا النص، كما أشرنا، مرجعاً صالحاً لفهم اوضاع فرنسا في ذلك الحين (بداية القرن السادس عشر) مرسوماً من وجهة نظر خارجية واضح انها تريد ان تتعلم مما تكتب عنه. ولسوف نرى كذلك اصداء لهذا كله في »الأمير« الذي كتبه ماكيافيللي بعد سنوات من تقريريه »الألماني« و »الفرنسي«. نيكولا ماكيافيللي (1469-1527) هو، كما نعرف، الكاتب والديبلوماسي والمستشار الايطالي الذي عاش ورصد وكتب في ذروة عصر النهضة في تلك المنطقة من العالم. وكان غزيراً في الكتابة بحيث خلّف نصوصاً كثيرة تجعل منه في الوقت نفسه باحثاً استراتيجياً وفيلسوفاً ومؤرخاً. غير ان الأهم والأشهر بين مؤلفاته، يبقى »الأمير« الذي لعن وندد به مرات ومرات، من جراء ضروب سوء الفهم التي بنيت من حوله طوال مئات السنين لا سيما اذ صيغت من اناس لم يقرأوه، او قرأوه سطحياً، وعلى ضوء زمنهم وموبقاته، وليس على ضوء الزمن الذي وضعه ماكيافيللي فيه. ومن هنا الحاجة الماسة الى العودة الى قراءة »الأمير« في كل مرة من جديد، على ضوء زمنه كنص تفصيلي، وعلى ضوء كل الأزمان كنهج في التحليل من حول مسألة السلطة.