هل يفوز برشلونة بدوري أبطال أوروبا؟ .. الذكاء الاصطناعي يجيب    بالأرقام.. وزير الفلاحة يفند مزاعم "المعارضة" بشأن استنزاف الفلاحة السقوية للثروة المائية    "كان" الفتيان.. كوت ديفوار ثالثا    القنصل العام الفرنسي يزور مركز التقاء الشباب بحي القصبة بطنجة ويؤكد استعداده لدعم التعاون الثقافي والاجتماعي    تكريم عمر أمرير بمعرض الكتاب.. رائدٌ صان الآداب الأمازيغيّة المغربية    مغربية الصحراء تكتسب زخما دوليا غير مسبوق    مستشار الرئيس الأمريكي: واشنطن تتحرك لإغلاق ملف الصحراء وإعادة العلاقات بين المغرب والجزائر    الشارقة تضيء سماء الرباط: احتفاء ثقافي إماراتي مغربي في معرض الكتاب الدولي 2025    المغرب يسير نحو طفرة عسكرية نوعية عبر اقتناء دبابات K2 الكورية    يتسع ل5000 طالب.. أشغال بناء المركب الجامعي بالحسيمة تصل مراحلها النهائية    جمارك بني انصار تحبط محاولة تهريب كمية من مخدر الشيرا    احتفالية "رمز الثقافة العربية ل2025" تكرم الشاعر بنيس والفنان الفخراني    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    هل يقود مغربي سفينة "الملكي"؟ أنس لغراري الرجل الخفي الذي قد يرأس ريال مدريد سنة 2029    مدرب شباب قسنطينة يشكر المغاربة على حسن الاستقبال قبل مواجهة بركان    الناصري ينفي التهم الموجهة إليه في قضية "إسكوبار الصحراء" ويكشف تفاصيل عن لطيفة رأفت وتاجر المخدرات "المالي"    احوال الطقس .. امطار وثلوج مرتقبة بمنطقة الريف    عمر مورو: مشاريع البنيات التحتية لكأس إفريقيا 2025 تسير بوتيرة متقدمة بمدن الشمال    وفد رفيع من سفارة رومانيا بالمغرب يزور ENCG طنجة ويوقع بروتوكول تعاون أكاديمي    حين تصبح معلوماتك سلعة .. من يحمي المغاربة من تسريبات البيانات؟    الأبيض والأسود من تقرير دي ميستورا: إن موعدهم نونبر؟ -3-    عمر هلال: العودة إلى الصحراء المغربية مشروطة بالإحصاء الإسباني لعام 1974    الحوامض المغربية تلج السوق اليابانية    مقتل صحراويين في مخيمات تندوف : ائتلاف حقوقي يطالب بتحقيق دولي ضد الجيش الجزائري    شرطة البيضاء توقف مواطنا نرويجيا    حادثة سير مميتة تودي بحياة شخص بإقليم الدريوش    خلال 2024.. المركز الجهوي للاستثمار بجهة الشمال وافق على مشاريع استثمارية بقيمة 85 مليار درهم قد تخلق حوالي 70 ألف فرصة شغل    ناصر بوريطة يواصل جولة دبلوماسية ناجحة لتعزيز دعم أوروبا لمغربية الصحراء    من الرباط.. السفير الصيني بالمغرب لي تشانغ لين : الصين تعتزم عقد مؤتمر عالمي جديد للمرأة خلال هذا العام    وفاة الفنان المصري سليمان عيد    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    بيان توضيحي لولاية أمن أكادير بشأن ادعاءات واهية لمنظمة    مهرجان "جازابلانكا".. 26 حفلا موسيقيا يحييها 180 فنانا    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    "حماس" تدعو إلى إنهاء حصار غزة    دعم إنتاج الأعمال السينمائية.. الكشف عن مشاريع الأفلام المستفيدة برسم الدورة الأولى من 2025    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    واشنطن بوست تدق ناقوس الخطر: البوليساريو شريك لإرهاب إيران في إفريقيا    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    شي جين بينغ وهون مانيت يتفقان على تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وكمبوديا    الارتفاع العالمي لسعر الذهب ينعكس على محلات المجوهرات في المغرب    إطلاق الشعب المتخصصة في فنون الزجاج بالمعهد المتخصص في الفنون التقليدية بمكناس، في سابقة على المستوى الوطني    شركة للطيران تمتنع عن نقل ثلاثة جثامين لمغاربة مقيمين بهولندا    الدورة التاسعة إياب من بطولة القسم الوطني الممتاز لكرة السلة : .ديربي محلية بالعاصمة بين الفتح والجيش    أولمبيك خريبكة يوضّح واقعة محاولة انتحار أحد لاعبيه    رغم التأهل.. فليك غاضب من أداء لاعبي برشلونة أمام دورتموند ويطالب بمزيد من الانضباط    روبيو: على أوروبا أن تقرر ما إذا كانت مستعدة لإعادة عقوبات إيران    ممثلون عن اليهود في بريطانيا يدينون العدوان الإسرائيلي في غزة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    مهرجان "تيم آرتي" يختار مواهب الراب الشابة في دورة جديدة    مجلس الأمن يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة في السودان    استشهاد 15 فلسطينيا في غارة إسرائيلية جديدة على غزة    توظيف مالي لأزيد من 46 مليار درهم من فائض الخزينة    وزارة الصحة تخلّد اليوم العالمي للهيموفيليا وتطلق حملة تحسيسية وطنية لمكافحة هذا المرض    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد زفزاف منتشيا كعادته بالصحو


لم أجلس إليه، إلا ثلاث مرات..
لم أتحدث معه طويلا في أمور الأدب والفن، إلا مرة واحدة..
كان في الجلسات الثلاث قليل الكلام، كثير التأمل، يحدق في شيء ما يراه (ربما) لأول مرة.. عيناه مغمورتان بالدهشة العصية على الفهم والقبض، ويده اليمنى تداعب لحيته «الهوشيمينية» (نسبة إلى هوشي منه، وقيل إنها تشبه لحية دوستويفسكي)، والكوفية الفلسطينية تحيط بلطف بعنقه.. لا يجيب إلا إذا سألته، وإذا أجاب لا يثرثر في الكلام...
وكان في المرة الوحيدة، التي تحدثنا فيها عن الأدب والفن، دائم التردد في ما يقول.. يوجز مواقفه في جمل قصيرة جداً.. كأنه لا يثق في ما تلفظه الكلمات من معاني، أو كأنه يدرك استحالة التعبير عن الإبداع بما تلفظه الشفاه من أصوات... كان يتكلم عن قلق المبدع وتوتره، وعن الواقع الأصل ونسخه، وعن... وفجأة، شاهدته وهو يرمق صديقه الحميم/ الحكيم الغيلم الذي يدب نحوه ببطء..
هو والغيلم يختزلان حياة الأفضية والأقبية.. يختزلان حياة الداخلين والخارجين والعابرين شقتهما.. يختزلان حكاية مشيتهما البطيئة... يمشيان ببطء في المسافة بين الواقع والخيال.. السرد يغفو عندما يدخل الغرباء شقتهما، ويصحو عندما يختليان ببعضهما.. ولا يصحو السرد إلا في تلك المسافة التي تنتصب بينهما، وتكاد لا تنقضي رغم أنها قاب قوسين أو أدنى...
ينبثق السرد من المشي البطيء.. ويكون حادا وحارا ومقرورا، تماما مثل الحياة والموت.. وفيه (أي المشي) نرى الكون المبسوط على سطح الأرض: غجر في الغابة، بيوت واطئة، بائعة الورد، أرصفة وجدران، الثعلب الذي يظهر ويختفي، الديدان التي لا تنحني، بيضة الديك، ملك الجن، و... ونرى ضمير المتكلم لا يظهر ولا يختفي، يفتح زجاجة النبيذ الأحمر. يتذكر قولة جيمس جويس «النبيذ الأبيض يحرك الأرجل، أما الأحمر فيحرك الرؤوس».. يضيق ضمير المتكلم عينيه قليلا، يمرر أصابع يده اليمنى على لحيته، ويتناول قنينة النبيذ الأحمر ليريق منها جرعتين في الكأس، ثم يصب الجرعتين مباشرة من الفم إلى الحلق، وبعدها يسري الأحمر في شرايين الجسم...
الغيلم يسوح في الغرفة الثانية المؤدية إلى الشرفة المطلة على الزقاق وعلى المدرسة.. الغيلم، كصديقه ضمير المتكلم، اعتاد على صخب الأطفال في أوقات الدخول وأوقات الاستراحة وأوقات الخروج.. ينام الغيلم ويستيقظ، ويودع صاحبه عند الخروج، ويستقبله عند الدخول قائلا: ويا أيها الضمير المتكلم ، ماذا فعلت؟.. آه.. ماذا فعلت؟:
الكتابة عن شخص واحد. هذا شيء صعب. فليكن بلوم أو فليكن قدور. شيء بشع أن يقضي الإنسان على القيام بشيء آخر غيره».
وكان رأسهما يدور (رأس الغيلم ورأس ضمير المتكلم)..
وكم كان ضمير المتكلم هذا، بعد أن خرج من شقته وأنهى مشيه من الزقاق إلى الشارع المؤدي إلى وسط المدينة، منتشيا في حانات المدينة البيضاء والمدينة البحرية التي في الجنوب أو التي في الشمال! كم كان منتشيا كعادته بالصحو في كل مكان!
(باريس: 25 دجنبر 2010)
المغرب و طنجة من خلال رواية «مطالب الكونط ضون خوليان»
كتب خوان غويتيصولو هذه الرواية سنة 1970 . يطرح الكاتب من خلال هذا النص مواضيع ذاتية و تاريخية انطلاقا من فضاء مغربي يتمثل في مدينة طنجة.
غويتيصولو و طنجة
حل خوان غويتيصولو بطنجة سنة 1965 ومكث بها لمدة خمس سنوات قبل أن يرحل إلى مراكش. كان اختيار المدينة المغربية يرجع لأسباب سياسية وذاتية. فقد قرر الكاتب آنذاك وضع قطيعة بينه وبين الماضي؛ فتخلى عن الحزب الشيوعي الإسباني وبدأ مشروعا أدبيا جديدا لايمت بصلة إلى كل ما نشره قبل 1964. يتمحور هذا المشروع الأدبي الجديد حول فكرة قراءة التراث الإسباني بعين ناقذة ومن مسافة جغرافية تسمح بذلك. وقد بين الكاتب أكثر من مرة سبب استقراره بالمغرب كما جاء في مقال صدر باللغة بالفرنسية سنة 1969 تحت عنوان «Pourquoi le Maroc » (لماذا المغرب؟) يبين فيه مدى حبه لهذا البلد وكيف تبناه كبلده الأصلي.
ضون خوليان بين الأسطورة والطرح التاريخي
رغم أن «مطالب الكونط ضون خوليان» ليست رواية تاريخية، فإن خوان غويتيصولو يستغل في هذا النص شخصية أسطورية وتاريخية : ضون خوليان. إنه حاكم مسيحي لمدينة سبتة (682-715م). تتضارب حول هذه الشخصية الروايات التاريخية والأسطورية التي تتغذى من الأشعار والذاكرة الشعبية. يُحكى أن بنته الحسناء فلوريندا تعرضت لمضايقات جنسية من طرف الملك ضون رودريقو بطليطلة. فراسلت أباها واشتكت من ذلك الأمر مما دفع الكونط إلى الانتقام لشرف بنته بأن ساعد موسى بن نصير وطارق بن زياد على غزو الأندلس والإطاحة بمملكة القوطيين. وهناك رواية أخرى تقول إن ضون خوليان لم يكن إسبانيا بل بربريا من قبائل غمارة الريفية ويدعى أوليان الغماري.
لكن الكاتب يتبنى الرواية الإسبانية لأنها مشحونة بدلالات رمزية كالشرف والجنس والخيانة التي تخدم مشروعه النقدي تجاه المجتمع الإسباني. فالراوي والكاتب يتموقعان في الفضاء الذي ارتكب فيه ضون خوليان خيانته العظمى. لذا تتحول طنجة إلى زاوية رؤية خاصة. ويصير النص تعبيرا عن نظرة طنجية وإفريقية للمجتمع الإسباني.
ترجع كل الروايات الشعبية والرسمية في إسبانيا المسيحية سبب سقوطها في قبضة المسلمين إلى زلة جنسية: العلاقة غير الشرعية بين الملك القوطي وفلورندا بنت الكونط ضون خوليان. هذا الإصرار على التفسير الميتافيزيقي للكارثة الوطنية الإسبانية هو في الواقع، وكما نستشف من تعليقات الراوي، إدانة صريحة لكل علاقة جنسية وممارسة عاشقة. إن الحب المتهور واللامسؤول، المجرد من كل رابطة دينية وأخلاقية، يعتبر السبب الحقيقي لسقوط إسبانيا.
هذا التفسير للواقعة التاريخية يقودنا إلى التأويل الآتي: إنه عبارة عن صياغة تاريخية لواقعة دينية تتمثل في واقعة الخطيئة الأصلية وما تبعها من طرد من الجنة حسب الرواية المسيحية. فالشيطان هو فلورندا الفاتنة وآدم المغلوب على أمره ليس سوى صاحب الجلالة الملك ضون رودريقو الذي انساق وراء أهوائه ونزواته الجنسية. أما المورو، أي المسلم المغربي فهو الخطيئة والشر معا، أي تلك المصيبة التي حلت بإسبانيا. هذا الطرح رسخ في ذهنية الإسباني العادي والمثقف، الحاكم والمحكوم، صورة شيطانية وعدوانية للمورو، ذلك الإنسان الذي يرتبط ذكره بممارسة الاغتصاب والوحشية.
إن الراوي شخص مجهول يتأمل السواحل الإسبانية من طنجة ويتقمص شخصية ضون خوليان. هرب من صفوف الجيش الفرنكاوي وعمره 40 سنة ويرغب في إعادة احتلال إسبانيا لمدة ثمانية قرون أخرى. هذا المشروع المعادي للمصالح الوطنية والقومية الإسبانية يضفي طابع الخيانة على شخصية الراوي و ينزله منزلة الخائن التاريخي ضون خوليان.
يقوم الراوي الكاتب في هذا النص بعملية هدم ممنهجة لكل رموز النظام الفرنكاوي القائم على النقاء العرقي المسيحي ومعاداة الآخر ، وخصوصا المغربي المسلم (المورو). و تشمل هذه العملية عدة مستويات :
أ. المستوى اللغوي وقواعد الكتابة :
يستعمل الراوي قاموسا لغويا خاصا يخترق من خلاله كل قواعد ومفردات اللغة الأكاديمية. ويتهكم أحيانا من تحجرالأكاديمية اللغوية الإسبانية ورفضها للانفتاح والتجديد حيث يصفها أحيانا وهو يتهكم بالقديسة. من جهة أخرى، يحررالكاتب نصه الروائي بشكل فوضوي حيث تتداخل الفقرات مثلا، أو ينعدم استعمال الحروف الكبرى عند بداية أي جملة، الخ ...
ب. المستوى الأخلاقي :
يتهكم الراوي من كل المعايير الأخلاقية المسيحية ويضعها في خانة النفاق الممنهج. و يدافع عن قيم التسامح والفطرة التي يتحلى بها المغاربة المسلمون. في هذا الإطار يصبح الجنس أمرا طبيعيا وليس عملا شيطانيا كما تصوره محاكم التفتيش والأساطير الإسبانية المفسرة لنكبة 711 م.
ت. المستوى التاريخي :
تتمثل الرغبة القصوى للراوي في إعادة احتلال إسبانيا وقلب مجرى التاريخ.
في الصفحات الأخيرة من الرواية يتوجه الراوي بنداء مباشر إلى كل المغاربة ليعيدوا فتح إسبانيا من جديد. لكن هذا الخطاب ليس موجها في الحقيقة إلى مغاربة القرن العشرين وإنما لأولئك المغاربة المسلمين الذين فتحوا الأندلس في بداية القرن الثامن الميلادي. إنه نداء ذو طابع استفزازي للذاكرة الجماعية الإسبانية. إنه موجه بالأساس ضد النظام الفرنكاوي المتسلط ولكل العقول المستلبة التي تكن العداء التاريخي للمسلمين المغاربة.
الفضاء الطنجي بين الرمزية
والواقعية
تدور أحداث الرواية في طنجة. فالوصف الدقيق للأماكن والشوارع يوحي بنص واقعي. وضع الكاتب تصميما وخطاطات لمدينة طنجة قبل الشروع في كتابة رواية مطالب الكونط ضون خوليان، لدرجة أن أحد النقاد وصل إلى بيت الكاتب انطلاقا من فضاء الرواية. هناك في النص عدة إشارات واقعية تظهر من خلالها طنجة كمرجعية واضحة : إشارة إلى بقعة أرضية معروضة للبيع و إشارات إلى بعض الأمكنة و الشوارع التي تشكل الفضاء الطنجي : باستور، السوق الداخل ...
لكن هذا الانطباع الواقعي سرعان ما يترك مكانه لفضاء رمزي ومتخيل. فالنص الذي يتصدر الرواية، وهو قولة للكاتب الفرنسي جان جنيه، يوضح ذلك:
Je songeais à Tanger dont la proximité me fascinait et le prestige de cette ville plutôt repère de traîtres
( كنت أحلم بطنجة، ملجأ الخونة، التي كان قربها وسمعتها يغوياني)
إذن يختار غويتيصولو طنجة كمدينة للمنفيين والمنبوذين من المثقفين في أوطانهم الأصلية. وتظهر في هذا الفضاء الروائي نماذج بشرية متنوعة: المتسولة العجوز، والعجوز الأعمى، والباعة المتجولون. أما السياح فيظهرون كمخلوقات من عالم آخر زج بها المرشد السياحي في مكان مجهول وهو يتحدث بلغة إنجليزية هجينة. كلامه يلخص خطابا يرسخ في عقولهم كل ما جاؤوا من أجله. وفي وصف مفصل لحلقة الحية الراقصة التي تأخذ عيون وعقول السواح يقوم الراوي بتصوير نهاية مأساوية للمشهد حيث تلسع الأفعى المروضة إحدى السائحات. هذه الصورة تحيل على مجموعة من الرموز التي ينسجها الكاتب في العديد من النصوص حول هذا الحيوان: الجنس، الخطيئة والخيانة.
لكن الراوي والكاتب لا ينتميان إلى الفئات البشرية التي تؤثث فضاء الرواية. إن الراوي-الكاتب لا يعتبر نفسه سائحا رغم كونه إسبانيا وينتمي إلى نفس المجموعة التي تتحلق حول منظرالأفعى المروضة بل يعتبرالراوي نفسه «مهاجرا» و»خائنا» و»مغتربا». فغويتيصولو يعترف كمثقف أنه يشعر بالغربة أينما حل وارتحل: قشتاليا في كطلونيا، فرنسيا في إسبانيا، إسبانيا في فرنسا، لاتينيا في أمريكا الشمالية، «نصرانيا» في المغرب، ومسلما في كل مكان. لكن، نسجل أن في هذه الرواية تتطابق رؤية الراوي مع رؤية المورو المغربي وخصوصا المهاجر. يقوم الراوي و هو يجوب شوارع طنجة باستحضار كل الخطابات الإسبانية المعادية للمغاربة المسلمين ليرد عليها و احدة تلو الأخرى.
طنجة فضاء للدناءة:
تكتسي طنجة أهمية قصوى بالنسبة للراوي لأنه من خلال فضائها وبعض رموزها يقوم برحلة تاريخية تمكنه من النبش في ثنايا الذاكرة الفردية والجماعية. في طنجة يرجع الراوي إلى طفولته ويظهر رفقة طفل آخر يقوم بدور المرشد ليذهب به إلى القصبة وأماكن أخرى. يختفي الطفل المرشد دون أن يأخذ أجره ودون أن يدرك الراوي إن كان هذا الطفل حقيقيا أم هو فقط من صنع خياله. بعد ذلك، يأخذ الراوي في تناول الشاي، يشعل سيجارة يستمتع بنكهتها ويغمض عينيه منتشيا ليظهر له الطفل المرشد من جديد. شيئا فشئا ندرك أن الطفل تلقى تربية مثالية في إسبانيا في ظل الحكم الفرنكاوي. فالطفل السائح والطفل المرشد هما نفس الطفل. لكن كيف يتحول هذا الطفل المثالي إلى خائن وناقم على أرضه وأهلها؟
في طنجة تعرف شخصية الراوي الكاتب انفصاما حقيقيا ويتجلى ذلك في انقسام خطابه بين ثلاثة ضمائر مختلفة: أنا، أنت، هو. «أنا» هو الكاتب في طنجة سنة 1965 بكل مكوناته الشخصية. «هو» يحيل على الطفل والماضي الشخصي قبل سنة 1965 ، أي قبل أن تتأزم الحالة النفسية للراوي الكاتب ويتخذ قرار القطيعة مع الماضي. أما «أنت» فهو الآخر والذات أيضا، ذلك الإسباني الذي يظل سجين أفكاره وأحكامه الجاهزة عن المورو. إن ضمير المخاطب يمكن الراوي البطل من توجيه خطاب عنيف إلى ذاته وإلى الآخر أيضا، على اعتبار أنه شخصية انفصامية ومركبة.
لهذا، نلاحظ أن الراوي الكاتب يغادر إسبانيا ويتموقع في الضفة الأخرى، متخذا لنفسه مسافة جغرافية وتاريخية ونفسية تمكنه من محاسبة الذات وتوجيه اللوم والعتاب دون حرج أو رقابة إلى ذوي الرحم وبني الجلدة. طنجة هي المكان المواتي لهذا الغرض، فمن هذه الأرض انطلقت شرارة الخيانة التاريخية التي مكنت المورو من احتلال إسبانيا وفي هذه الحاضرة يلتقي منبوذو العالم ومثقفوه المهمشون.
نستنتج مما سلف أن طنجة، كرمز تاريخي و فضاء روائي، ترتبط لدى خوان غويتيصولو بمجموعة من الاقتناعات :
* في رواية «مطالب ضون خوليان» طنجة فضاء واقعي و رمزي.
* في هذا الفضاء يسترجع الراوي طفولته لينبذ عائلته وكل القيم التي تربى عليها في ظل النظام الفرنكاوي.
* إنه فضاء يقوي لديه من جهة إحساسا بالاستيلاب تجاه النفاق الرسمي للمجتمع الإسباني المتقوقع على ذاته، ومن جهة أخرى تعاطفه مع المسلم المغربي.
* يستغل الكاتب أسطورة ضون خوليان كخيانة عظمى ليصب كل غضبه على مقومات الحضارة والرموز الرسمية الإسبانية.
استنتاجات
من خلال هذه القراء الخاطفة في كتاب وقائع إسلامية و رواية مطالب الكونط ضون خوليان، يبدو أن الكاتب يتبنى استراتيجية تاريخية وثقافية ترمي إلى تكسير كل الكليشيهات التي ترسخت في ذهنية الإنسان الإسباني:
* يرى خوان غويتيصولو أن المعاينة المباشرة للواقع المغربي لاتخلف لدى الإسباني تغييرا جذريا في تصوره للآخر.
* الشخصيات التي تتحرك في فضاء طنجة وفاس ومراكش ليست مغربية من لحم و دم، وإنما هي أشباح تشغل بال الإنسان الإسباني ومخياله.
* تبقى الثنائية إسلام/غرب شيئا قارا في هذه النصوص
* كل هذا الخطاب العنيف موجه أحيانا للإنسان الإسباني والغربي.
وعلى العموم، يمكن التأكيد على أن خوان غويتيصولو لا يكتب نصوصا روائية عن المغرب والمغاربة، بل يتخذ من الفضاء والشخصيات المغربية نماذج ترعب المخيال الجماعي الإسباني ليرد على كليشيهات مترسخة في الذهنية الإسبانية. ويشكل هذا الطرح الجديد للسرد مناسبة لإعادة قراءة التاريخ الإسباني ومحاسبة الذاكرة الجماعية. فالمغاربة ليسوا موضوع روايات خوان غويتيصولو وإنما ذريعة تاريخية وراهنة يستعملها لطرح أسئلة على الذات.
تعتبر نصوص خوان غويتيصولو أنجع وسيلة لإنتاج الخطاب المضاد للهيمنة الحضارية الغربية، ليس فقط لأنه نابع من أهله ولكن لأنه خطاب يستعمل سلاحا أدبيا فعالا: السخرية و»الغروطيسك». وتبين هذه النصوص أن ما يسمى صراعا بين الشرق والغرب ليس بالضرورة صراعا حضاريا، لأن الصراع الحضاري يقتضي معرفة جيدة بالآخر قصد تجاوزه أو إقصائه، بل تؤكد على أن هذا الصراع يقوم أساسا على الجهل بالآخر. إنه فقط صراع جهل و ليس صراعا حضاريا.
المراجع
BENREMDANE, Ahmed : » Juan Goytisolo y la cultura marroquí « (Entrevista) en Revista marroquí de Estudios Hispánicos, n2, 1991.
ENKVIST (Inger) & ngel SAHUQUILLO : Los múltiples yos de Juan Goytisolo, Instituto de Estudios Almeriense, Diputación de Almería, 2000.
GOYTISLO, Juan : Makbara, Barcelona, Seix Barral, 1980.
GOYTISLO, Juan : Reivindicación del conde don julián, México, Joaquín Mortiz, 1970.
GOYTISOLO, Juan : » El Arcipreste en Xemaá El Fna «, Quimera, n?201, 2001.
GOYTISOLO, Juan : Crónicas sarracinas, Ruedo ibérico, La Coruna, 1981.
GOYTISOLO, Juan : Juan sin Tierra, Barcelona, Seix Barral, 1975.
VV.AA : » Juan Gotisolo en Nueva York «, Quimera, n 179, 1999.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.