ارتبطت الرواية المغربية، وترتبط الآن، منذ نشأتها وعلى مدى ما يقارب ثمانية عقود من عمرها الأدبي - الفني - الجمالي، سواء منها المكتوبة بالعربية أو بلغات أخرى، داخل المغرب وخارجه، بجملة قضايا وأسئلة وإشكالات في ضوء التراكم الكمي والنوعي الذي يفوق ما كانت عليه هذه الرواية طيلة العقود الأخيرة من القرن الماضي. وهو التراكم الذي يعمل البحث الجامعي كما النقد الأدبي الموازي لهذا البحث، بالمعنى السوسيولوجي والثقافي، على إبرازها في ضوء ما تقترحه مناهج تحليل النص والخطاب الروائيين مشفوعين بأفق التنظير والتأويل، وفي مقدمة هذه القضايا والأسئلة والاشكالات قضية التكون la) genese)، أي ما يجعل هذه الرواية، في حدود أصول نشأتها وتبلورها وكتابتها، من خلال نصوصها ونماذجها ومتخيلاتها ولغاتها ورؤياتها ومرجعياتها، رهينة بضرورة التركيز، في خلفية أي قراءة أو مقارنة، على السياقات التي كتبت ونشرت فيها، مرتبطة بهوية كتابها من حيث حضور الذات والذاكرة ومن حيث رغبة هؤلاء الكتاب في الكشف عن مكنون ما يصدرون عنه في ممارسة فعل الكتابة وفي اختيار شكل روائي ما أو أسلوب، أو لغة أو فضاءات وشخوص وموضوعات (تيمات)، دون أن ننسى ارتهان هذا السعي بضرورة أخرى هي إبراز البعد المجتمعي لسبر أغوار التحول الاجتماعي أفقيا وعموديا، مادمنا نعلم أن الرواية، كما جل الأنواع الفنية، سيد التجاوب معها هو المجتمع، المجتمع باعتباره بوصلة، على هديه - هديها يعيش الكاتب ويحيا ويتنفس ويحس ويعبر ويفكر، استنادا إلى ما يتحصل لديه وإلى الذاكرة الجمعية إذ يتحول إلى ربان يقود سفينة المتخيل (متخيله هو ومتخيل المجتمع) مما يدفع إلى اعتبار النص الروائي «نصا ثقافيا» وفق نزوع جمالي يسعي إلى الإقناع بجدلية بناء شكل روائي وصبه في قالب يغري بالقراءة والتلقي. استنادا إلى هذا التصور النظري العام يمكن القول بأن كل نص روائي، بل كل نص إبداعي أو أثر فني في مجال الأدب وغير الأدب، متى كان محكما وجديرا بالانتماء إلى جنيالوجيا الإبداع لا يأتي من فراغ، بل ينبئ لحظة قراءته الأولى ثم قراءاته المتوالية، عن قلق أنطولوجي تتحكم فيه الذات بكل ما تعنيه هذه الذات من حضور ضمني، مكشوف أو خفي، في صياغة رؤية للعالم بكل أبعادها في تصور الواقع والصراع بين الأفراد والجماعات من أجل بحث ممكن عن قيم أصيلة، وعن «حلول» لما يعتور المنظومة الاجتماعية والنسيج المجتمعي من توترات وتصدعات، وأعتقد أن هذا هو المحور الذي يصب فيه أو يقود إليه على الأقل نص «إمارة البئر: رواية ثنائية السيرة والإخلاص» (محمد سالم الشرقاوي، دار أبي رقراق الرباط 2015 ، 302 ص): إنه محور مركزي لكنه في نفس الآن، محور تتوزعه عدة محاور تابعة، تغذيه وتبرر تشبعاته، لأنها بمثابة وقود مضمر قابل للاشتعال/الانطفاء في كل وقت، في لحظة متوحشة بحكم طبيعة الكائن أصلا في أي صراع مادي أو رمزي، وتلك هي حالة إمارة البئر، ليس الرواية - النص التي نقرأ فقط بل أيضا الفضاء الصحراوي والشخوص التي تتحرك فيه وتؤثثه، والعلائق والعواطف والأحاسيس والتطلعات التي تظهر وتختفي لتظهر مرة أخرى متشبعة بموقف آخر/مواقف أخرى رغبة في الأمن والاستقرار في مواجهة رغبة مناقضة مسكونة بهاجس السيطرة مع ضرورة الاستمرار في الحياة المشتركة، والاحتكام إلى العقل قصد التعايش. هما رغبتان مستبدتان تجعلان نص الرواية محكوما بوتيرة لا محل فيها للحياد السلبي أو المراوغة والمداراة مادام المصير مشتركا ولا مجال لمبايعة منطق الربح - الخسارة: إنه منطق محايث يدير دفة »إمارة البشر« كرواية يريد لها صاحبها أن تصب في نهر الرواية المغربية المعاصرة بحمولة ثقافية - معرفية - جمالية ترصد عالما (لونا) مجهريا مصغرا أو يكاد يكون مغلقا إلى غاية حدث المسيرة الخضراء للإشارة إلى أن هذا الحدث السياسي الوطني البارز غير الكثير من النوازع والأفكار لصالح أهداف وغايات سامية، وجعل الناس في منطقة من مناطق الجنوب الشرقي هي «بئر السبع»، يقتحمون بروية تاريخا غير الذي كانوا عليه دون التخلي عن هويتهم الثقافية - الاجتماعية، أي التعامل بالحسف والإيثار واحترام المقدس بالمعنى الرمزي لا العرفي الفطري أحيانا. ومن ثم تتحول رواية «إمارة البئر» إلى «رواية أفكار» أكثر مما هي «رواية» مثلا، أو رواية «تاريخية» بالمعنى الحر في حيث يحضر «المحكي التاريخي» حضورا فعليا ومكثفا كما نجد لدى )أحمد التوفيق) أو (سالم حميش) أو (كمال الخمليشي) أو (زكية داود). نعم: إن التاريخ مكون من مكونات نص «إمارة البئر»، كما هو شأن روايات (سعيد بنسعيد العلوي) مثلا، أو روايات (محمد برادة) و(محمد الأشعري)، إلى جانب نصوص روائية مغربية معاصرة تستمد متخيلاتها من التاريخ الحديث والمعاصر على السواء، ويتم ذلك بالنسبة إلى نص (محمد سالم الشرقاوي) من خلال سيرة أبرز شخصية روائية في «إمارة البئر»، أي النقيب (منصور السيود)، لكنه التاريخ ليس مركزيا. وعندما أذهب إلى القول بأن هذه الرواية «رواية أفكار»، فلأنها تراهن على جعل خطاب المؤلف / الكاتب موجها عن قصد لجعل القارئ - المتلقي ومعه الباحث الناقد، يميل إلى تغليب كفة أطروحة مفادها أن العبرة لا تكمن في التمسك بالهوية من أجل التمسك بها، هكذا في المطلق، بل في ضرورة التحول الهادئ بما يقنع بالتجديد والتحديث والخروج من دائرة الانغلاق إلى دائرة الضوء مشفوعا بضرورة تطوير سبل الحياة: التعليم، الصحة، الانارة، الانتخابات (الديمقراطية) وغير ذلك مما يستدعي الحرص على التآزر والالتفاف حول الهوية الوطنية، ولعل انتماء الكاتب إلى مناخات ثقافة الجنوب الشرقي المغربي هو الذي وفر/يوفر له المادة الروائية من خلال وقائع وأحداث جرت في بلدة «بئر السبع» من بداية الرواية إلى نهايتها، كما سيوفر له محتملات محكي تالِ في الجزء الثاني الذي يعلن عنه في الصفحة الأخيرة (أنظر ص 302). ويحق لنا في هذا الاتجاه أن تحدث عن سلطة الذاكرة في تفعيل التخيل عندما يتعلق الأمر بذلك النزوع الدائم الذي يقود الكاتب إلى استثمار ما «يعرفه» (يعلمه) لصالح ما «يتخيله» ويجعله ممكنا للتخييل في حدود توليد «قصة» (حكاية) وإلا تحول النص إلى ضرب من ضرور السيرة ومتوالياتها المعروفة في سجل السرد الذاتي، أي الإخبار عن حياة «فعلية» عاشها الكاتب ويمررها إلى السارد بنوع من الحبكة المقصودة، علما بأن السيري (ماهو «سيري» حسب شرط الكتابة) يخترق عدة نماذج منها الكتابة التاريخية أو الكتابة السياسية أو الكتابة الفكرية أصلا، في الكثير من أعراضها، سيرة بالمعنى الفلسفي-الميتافيزيقي ولنشر مثلا إلى كتابة (أبي حيان التوحيدي) (جبران خليل جبران) و(فريديريك نيتشه) وإميل ميشيل سيوران) دون أن ننسى (عبد الفتاح كيليطو) في نص مثل «أنبئت بالرؤيا» أو (عبد الله العروي) في السنة والإصلاح ومن ديوان السياسة مثلا. الذاكرة معبر من معابر الكتابة، الذات فيها المؤطر ومنذ نص الزاوية (التهامي الوزاني 1942) إلى الآن، بالنسبة إلى متواليات الرواية المغربية والمعاصرة، لم تتوقف ذاكرة المؤلف عن ضخ .. دمائها في مجرى الكتابة السردية لتتحول إلى إبدال من الابدالات الكبرى المتعالية التي توجه دفة المحكي والمتخيل. ولا يشذ نص «إمارة البئر» عن هذا المؤشر المحايث، إذ من شأن الذاكرة أن تستعيد دون توقف، ما يساعد على توليد الحكاية من منظور ثقافي كنصوص موازية ومناصصات وتناصات قوامها المسموع والمقروء والمرئي، وفي هذا يحفل نص «إمارة البئر» بالنص الديني (القرآن والحديث النبوي) والنص الشعري والنص الحكمي والنص الايديولوجي والنص السياسي، أي ما يمكن أن نسميه إجمالا «النص الثقافي» أو النص المعرفي وكل النصوص المندغمة، متصلة كانت أو منفصلة، في طيات النص الروائي الذي يتشربها (حسب قول جوليا) كريستفا المشهور والمتداول)، هي ما يسمى عادة المتناص في تصور محاورة لغة الرواية لنصوص حاضرة - غائبة بالتصريح تارة وبالتلميح تارة أخرى، أي ما يترتب عن تفاعل النص المركزي مع غيره (لغات، لُغيات، خطابات) إذ يشكل هذا الأخير ما يشبه تقاطع كل النصوص الوافدة والمتحركة لإنتاج المعنى والدلالة من خلال تقاطع مضامين هذه النصوص لمنح نص الرواية، رواية «إمارة البئر»، في هذا المدار إمكانات تحويل لنص ذي لغة أدبية منفتحة على ما يدرو فلكه، يحاورها وتحاوره بتدخل من سلطة المؤلف وقصدية الكاتب واستعداد السارد والشخوص لتملك الملفوظ: المؤلف صوت متعال يجند السارد الذي يروض الشخوص ويجعلها «تتكلم» و«تعمل» (أو تفعل) في نفس الآن، كما في النص المسرحي، حسب أرسطو وهي تصدر في ما تقوم به، من وجهة نظرنا، من تكوينها وثقافتها ونفسيتها وخبرتها (اتها) وتجاربها في الحياة على أن المتحكم في إدارةهذه «المقاولة» النصية (بالمعنى المجازي) هو المؤلف الذي يسهر على عملية توزيع الكلام (التلفظ) مع مضاعَفه أي الكاتب على مستوى انسجام النص وإيقاعه واتساقه. يظهر هذا في شبكة ما يقترح في «توزيع» هذا النص إلى فصول وضمان التوازن في ما بينها، إلى جانب اختيار عنوان الرواية وعنوانها المتفرع عنه «رواية من ثنائية السيرة والإخلاص» «بنوع من الايحائية المكثفة (سيرة من؟ وإخلاص لماذا؟)، ثم كذلك عناوين الفصول وعناوين مقاطعها. هذا يعني أن فعل الكتابة يتجاذبه ويتحكم فيه أمران، أو «حافزان»، هما: ضرورة الكتابة (المؤلف) ووعي الكتابة (الكاتب) ضرورة الكتابة تقبل من وازع الرغبة في التعبير عن شرط إنساني - وجودي - وجداني - نفسي وعاطفي بالمعنى الذاتي، بينما وعي الكتابة تتدخل فيه إلى جانب الرغبة، إكراهات الصنعة وما نسميه «ثقافة المؤلف» بالمعنى الحرفي بهدف الإقناع بحق وجدوى النص في التداول، وفي قراءة محتملة وخلق ما يسمى أفق الانتظار) لدى المتلقي وأعتقد في هذا السياق أن (م. سالم الشرقاوي) يمتلك أكثر من خاصية واحدة لخوض تجربة التعبير السردي عن لحظة من لحظات الانتماء إلى ذاكرة ثقافية واسعة تبدو متوازية في ما وراء النص من حيث مرجعيتها، لكنها حاضرة في تضاريس الكتابة، فهو قارئ ينهل من عدة أصول ضمنت له تفرده في صياغة «إمارة البئر» عندما نعرض هذا النص على محك الذات كتجربة والذاكرة كمحفز والمتخيل كمادة للتحريك ونعرضه أيضا على محك نحت الشخوص أو تدبير الشكل الروائي الذي يتوزع إلى ثلاثة فصول تكاد تشبه بناء النص المسرحي لدى الإغريق ونعني بذلك «التمهيد» أو «الفاتحة»، «الاستهلال»، «المقدمة» (أو الاستفاضة أو الاستغراق ثم الخرجة) وذلك على الشكل التالي: - «أصل الحكاية» (من ص 7 إلى ص 81) - «وصل الحكاية» (من ص 83 إلى ص 190) - «فصل الحكاية» (من ص 191 إلى ص 302) يتضح هذا «التدبير» أكثر عندما نستقرئ زمن الحكاية المحصن مقابل زمن المحكي المفتوح على ممكنات سردية مختلفة، في مقدمتها الاسترجاع عن طريق صوت السارد العارف (العالم بكل شيء والحاضر باستمرار) كصوت متعال يأتي من أقصى تجاويف تاريخ منطقة الجنوب الشرقي المغربي عند تخوم آسا الزاك، ثم الاستذكار عن طريق الشخص، إذ لكل شخصية ذاكرتها الخاصة إلى جانب تقنيات أخرى كالموجز أو الوقفة وكذلك »الاستطراد« عندما »ينحرف التسديد عن خطه المتبع ويميل إلى وجهة أخرى. تبدأ زمنية السرد من قول السارد في البداية: «كان يوما من أواخر غشت من عام 1975 وعلى عادته يعود القبطان منصور إلى البيت عند الظهر» (مقطع «بيت السبع»، الفصل الأول ص 9) ونقرأ في الفصل الثاني: «ذعر (السائق مسعود) أول أمس عندما طلب منه إبلاغ رئيسه القبطان بأمر الهاتف (مقطع «سندان المشهور» ص 127) وفي ذلك ما يحيل على بداية الحكاية: «طرق مسعود الباب طرقا خفيفا وهو ينادي «مون كابيتان»»، إنهم يطلبونك على وجه السرعة في الحامية العسكرية. ثمة شخص على الهاتف يريد التحدث إليكم شخصيا (الفصل الأول، المقطع الاول، ص9). نقرأ أيضا: بقيت أم الخير مع زوجها تعيد على مسمعه ما ذكرته جاراتها من عبارات التقدير لمبادرة تزويد البلدة بالماء، وأخبرته بأن هذا الاعتراف، بقدر ما أدخل السرور علي قلبها، فإنه أصابها بانقباض في الصدر، كونها لاتزال منشغلة بما سمعته منذ يومين بشأن رؤياه عن سقوط الشراد (ابنهما البكر) في البئر (الفصل الثاني، مقطع «شاحنة الصهريج»، ص 161) وهكذا إلى أن ينثال الزمن الحكائي بالتدريج إلى ختام الحكاية (أمثلة): - ص 178: بعد ثلاثة أيام (عاد التيجاني) قضى يومين منها في البلدة المجاورة. - ص 205: منذ وصوله (سيدي أحمد، ابنهما الثاني) رفقة سعيد، منذ شهر تقريبا، لم يرسل أي بريد لعائلته في بئر السبع. - ص 207: «وقف القبطان أمام اليومية المثبتة على الحائط ينظر إليها. كان التاريخ هو يوم الثلاثاء من الأسبوع الأخير من شتنبر عام 1975». ص236: «لليوم الثالث على التوالي يحضر القبطان منصور ومرافقه الليفتانث القماح إلى القاعدة ويجدان بالباب من يقول لهما إن الاجتماع لم يقرر بعد». - ص282: «نحن في الحادي عشر من العام وقد مرت ثلاثة أسابيع على وصول «لجنة الأجانب» إلى البلدة بدون أن ترشح معلومات عن طبيعة العمل الذي يقومون به في البئر وحواليه». - ص293: «وكأنه (الشراد) لا يريد أن يعترف بهذا الواقع الذي مضى على حدوثه ما يزيد على ثلاثة شهور». زمن «إمارة البئر»، بهذا التشكل العام للزمن الحكائي وتمظهره، زمن مركب بين صيغة زمن الحكاية الذي لا يتجاوز ثلاثة شهور إلى غاية حدث المسيرة الخضراء (يسميه الكاتب «الزحف العظيم»، أنظر مثلا المقطع الثالث بنفس العنوان، الفصل الثالث، ص 151) وبعد ذلك أو قبله بقليل، تتخللها أيام محددة (أو «مجتزأة») كالتي أشرنا إلى بعض منها، وهناك زمن تفعيل الحكاية من خلال تقاطع الاسترجاع والاستذكار لدى السارد ثم لدى الشخوص إذ أن الكثير منها يتذكر، القبطان منصور زوجته، مبيريكة، ابنه محمد الشيخ الشراد، ابنتاه صفية وميمونة، ابنه سيدي أحمد، الفقيه باحسين، التيجاني، لمغيفري، وهكذا حسب منطق توليد الحكاية وحسب دلالتها في فضاء «بئر السبع» ومدى ارتباط كل شخصية بهذا الفضاء (الذي يظل «أسطوريا» بمعنى ما وكأنه فضاء خرافي) في المنظومة الاجتماعية والنسيج المجتمعي الصحراوي المشبع بالقيم الدينية والروحية والثقافية والوطنية المتصلة في ما بينها لصقل الإنسان - الكائن وتصوره للحياة والتاريخ والهوية، متشبثا بأصالته وبمحافظته بنوع من التوازن لضمان تواجده في الوجود كما تحيل على ذلك فصول الرواية ومقاطعها ويمكن أن تحيل عليه نصوص أخرى، إذ يكفي أن نشير في هذا السياق إلى دراسات وكتابات متخيلة يمتزج فيها التاريخ بالواقع من منظور ثقافي-أنثربولوجي. نمثل للأولى بكتاب «المجتمع والمقاومة في الجنوب الشرقي المغربي: المواجهة المغربية للأميريالية الفرنسية، 1912-1881» (مترجم عن الإنجليزية الأمريكية لصاحبه روس إدان، ترجمة: أحمد بوحسن، م.دار «زاوية»، الرباط 332-2006ص)، ونمثل للثانية بنص «الجبل الأحمر لأولاد ميمون: وقائع عشيرة بني بزناسن..» (بالفرنسية لصاحبه جمال بلخضر (لم يترجم)، م. دار «كلمات»، الرباط 336,2013ص). ورغم تباعد وتمايز هذين المصنفين في الزمان، فإنهما، إلى جانب دراسات وكتابات أخرى، يقربان القارئ - المتلقي (الناقد، الباحث)من فهم خلفية نص «امارة البئر» والمساعدة على إمكانات تأويل الفضاء الروائي بكل أبعاده الدفينة ورمزياته من خلال ثنائيات متصلة- منفصلة حول الذات والمجتمع والذاكرة والمقدس والديني والوحي، كما يضمان، ولو نسبيا، إمكانات الولوج إلى طبيعة الشخوص، خاصة شخصية (القبطان منصور السيود) و(مبيريكة) و(محمد لمغيفري) و(الفقيه باحسين) من حيث «الثقافة» وأنماط السلوك والممارسات اليومية وطرائق التفكير والعيش، ناهيك عن البعد المعرفي والأخلاقي أو حتى «الرؤية» للعالم والوجود. شخوص رواية «إمارة البئر» في تقدير أول، ثابتة (ستاتيكية)، ووحدها شخصية (محمد لمغيفري) يطبعها نوع من الدينامية والتحول على امتداد النص، ابتداء من الفصل الثاني، وبذلك يحتل (المغيفري) موقعا متقدما في الرواية: «الراعي لمغيفري في السابعة والعشرين من العمر تقريبا، وهو على جانب كبير من الحيوية البدنية بفضل رياضة المشي التي يزاولها يوميا، مع نظام غذائي قاس، لا يتعدى يوميا كسرة خبز وشيء من زيت الزيتون واللبن، إلا أن الشاي يبقى أهم عنصر في هذا النظام، إذ لا يتوقف عن تناوله طيلة اليوم، فيكون إبريق لمغيفري ملازما للموقد، لا يفارقه طيلة النهار إلا ليعود إليه، حتى بات معروفا كأحسن "قيام" في البلدة لإتقانه تحضير الشاي على الطريقة المحلية، فتعهد إليه الأسر بهذه المهمة في المناسبات والولائم حتى لقبه الناس «لمغيفري القيام" (الفصل الثاني، المقطع الأول، ص 87). تدريجيا: تتحول شخصية (المغيفري) من «وضع» إلى «وضع» إلى أن يصبح صهرا للكابتان (منصور السيود)، إذ سيطلب يد ابنته الكبرى (صفية): «أتمنى أن تقبلوا قربي منكم وتوافقوا على طلبي ليد كريمتكم صفية للزواج بها على سنة لله وروسوله (الفصل الثالث، المقطع الأول، ص 121)، وبذلك ينفتح نص «إمارة البئر» على ما نسميه «شعرية (بويطيقا) اللامتوقع، أي ذلك المنحى الذي لا يكون منتظرا في منطق الحكاية وفق شروط ومحددات تناميها وحدود المعقول واللامعقول فيها، قلبا وقالبا، لكنه يصير منطقيا بفعل جاذبية الحكاية كأنها تقبل فكرة التحول، أو ما يسمى/كان يسمى، في تصور شعرية المسرح الكلاسيكي الغربي» التغير الفجائي في وضع البطل المسرحي: إنه عنصر طارئ، لكنه «مقبول» من منظور الحدث/الأحداث التي يمكن أن تتغير بتدخل من المؤلف بحثا عن حل مرض. شخصية (المغيفري)، كما يقدمها نص «إمارة البئر» شخصية وثابة وطموحة إن لم تكن ماكرة، تمتلك غير قليل من الدهاء والفطنة والخبث المتستر، ولا يترك (المغيفري) فرصة تفوته لقلب الموازين سعيا وراء الوجاهة رغم هامشيته مادام أنه يدرك، في قرارة نفسه أنه «مبارك» ينطق بالمعرفة والحكمة وهو ما يعترف له به الجميع (أنظر ص 198). ولعلنا نجد في المقطع السردي الذي يورد على صفحة الغلاف الأخيرة ما يستوفي كل أبعاد هذه الشخصية عندما يتبين لنا أنها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان لحظة إدراكه أن من حقه أن يفرض نفسه لحظة وجوب ذلك بما يلزم من الرغبة والإرادة والقوة: إما أنا أو لا شيء، إما أكون أو لا أكون، أنا أو بعدي الطوفان. هذا ما يمكن أن نهتدي إليه بالتدريج، في تتبع مسارات (المغيفري) من الرعي وصنع الشاي الى «الزعامة» وفرض الذات، خاصة عندما نركز على الفصل الثاني من خلال مقطع دوار العسكر» (ص 189/165) ونجمع بين «الرغبة» و«الفعل» إلى حد التساؤل: هل يريد (المغيفري) تحويل مخيم (الرقيبة) إلى إمارة أخرى غير إمارة البئر»، أم أنها فقط استراتيجية لفرض الذات؟ يحتاج هذا التساؤل إلى قراءة أخرى وخاصة، من منظور سيمائي، مثلا، تكشف عن منطق المحكي السردي مرتبطا بمنطق الصراع والتساؤل ضمن ذلك عن فحوى الصراع لا جدواه فقط: من يصارع من؟ هل يصارع (محمد لغيفري) أحد ما (منصور السيود) أو ابنه (محمد الشيخ الشراد)، أم يصارع «المؤسسة)؟ مؤسسة ماذا؟ السلطة؟ الثقافة؟ ومزية النسب؟ المال؟ الوجاهة؟ «الشرط الإنساني»؟ ثم: ما دور (وظيفة) الماء في «إمارة البئر» من منظور الرمزية الأنثربولوجية الثقافية منها مرتبطة بالحمولة الدينية؟ تلك أسئلة لا يمكن طرحها إلا في مقاربات تتمثل روح النص ومتخيله الجامع الذي يتقبل عدة تأويلات: الماء من خلال فضاء البئر «يشكل مركز الحياة في البلدة ورمز عزتها وكرامتها واستقرارها وسبيل ضمان استقلال قرارها (ص92) والماء «إرث عظيم تركوه (الرجال والنساء الذين مروا من هنا) مجسدا في بئر الماء» (ص98) ونقرأ قبل ذلك ولذلك اليوم محمد الشيخ الشراد منشغلا جدا بمصير البئر والكلام نفسه يمكن سحبه على والده منصور الذي لم يقدر له أن يحمل شرف إمارة البئر بعد والده، نظرا لالتزامه بخدمة البلاد من واجهة الشرف العسكري وكتب ذلك لابنه البكر، فتحمل مسؤولية البئر ومسؤولية التصرف في الإرث الكبير الذي خلفه له جده محمد العالم (ص91): ألا تحتاج رواية «إمارة البئر»، بهذا الزخم، بهذه الكثافة، قراءة خاصة بأسطورية الماء كما هي في الثقافة العربية الإسلامية وفي الثقافة الكونية القديمة والحديثة والمعاصرة؟ ذلك ما سنحاوله في فرصة لاحقة بأدوات إجرائية تستند الى مقترحات سيميائية وكذلك نقدية أنثربولوجية-نقدية، فالماء «يقيم» في صلب النصوص المقدسة (ومنها النصوص الدينية) وفي الأساطير والملاحم، ويمكن في نصوص تاريخية، إخبارية (الغزوات والمغازي والحروب) وفي نصوص المسرح وفي عدة نماذج من الأفلام السينمائية (فيلم «واتروورلد» لكيفن كوستنر أو فيلم «مملكة الجنة» لريدلي سكوت مثلا)، وفي السياسة الدولية في القارة الآسيوية والقارة الافريقية، يكفي أن نشير، بصدد هذه الأخيرة، إلى ما هو قائم ومتداول حول «ندرة الماء»، ومعارك الحياة في أدبيات الخطابات السياسية والإعلامية بلا حصر مرتبطة - الخطابات - بالتلوث والبيئة والجفاف: الماء في نص «إمارة البئر»، كما نتصور، «صيغة استعارية» حاضرة، لكنها تجر وراءها ما لا حصر له من المعاني والدلالات المرتحلة كالتي نجد لها صدى في كتابي (روص إ.دان) و(جمال بلخضر) باعتبارهما قريبين مما يهيمن في مناخات نص «إمارة البئر»، غير أنه - الماء - في هذا الأخير يشكل رمزية أخرى هي رمزية الشرف والقوة في الصراع الدائر بين عائلة (منصور السيود) و(محمد لمغيفري) في ضوء ما يقترحه النص ويحتمله في فضاء «بئر السبع». أما «الإمارة» في «إمارة البئر» فهي «صيغة كنائية» عن السلطة وعن رغبة دفينة في التحول السياسي باختيار إحصاء الساكنة لتنظيم الانتخابات واقتحام زمن آخر بعد حدث (المسيرة الخضراء): هل رواية «إمارة البئر» رواية «ذات أطروحة» في هذا الاتجاه؟ يجوز أن تكون كذلك بمعنى ما، شريطة أن يسعفنا التحليل على اقتناص أدلوجة النص المتوارية خلف الخطاب الروائي في بعض تجلياته وبؤر ملفوظه، ولنا عودة إلى هذا المنحى مستقبلا. (*) باحث جامعي، ناقد الرباط: 26/18 فبراير 2016