لا يمكن اختزال القوة والهيمنة في شراسة التمثُل بالحيوان لفرض سيطرة الإنسان الحاكم، أو الدولة، واعتبار ذلك معايير وقوانين عامة. الحماقات الكبرى تسحق في طريقها الأزمنة وتُراكِم الأخطاء لتصبح سلسلة متوالية، تتضخم إلى حدودها القصوى ثم تنفجر من باطنها كالبركان، أو تتكالب عليها قوى وعوامل خارجية كنتيجة منطقية لوقوعها تحت مؤثرات الاستبداد أو خلق المشاكل المستدامة. يأتي احتلال العراق في زمن إدارة الحزب الجمهوري برئاسة جورج بوش الابن، كأعظم الأخطاء الاستراتيجية التي يتجاوزها العالم وهو يعيش أو يعاصر أفدح الخسائر في الاقتصاد والسياسة الدولية والإرهاب وعودة الأحلام الإمبراطورية ومشاريع الاستحواذ والتوسع والتكتل بجبهات مضادة. من نتائج التخبط الأميركي بعد 11 سبتمبر 2001 الأكاذيب الملفقة لاحتلال العراق وكلفة تلك الحرب اقتصاديا على كاهل المواطن الأميركي دافع الضرائب، وزيادة أعداد المشردين وتنامي ظاهرة الفوارق وانهيار الحلم الأميركي باعتبارها أرض الفرص، وهذا ما دفع بالناخب إلى اختيار مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما، وهي سابقة تاريخية ربما لن تتكرر بفوز أحد الملونين ليكون سيدا للبيت الأبيض. مثالب احتلال العراق وانهيار المنطقة ودخولها في الحروب الأهلية متعددة الأسباب، ألقى بظلاله على سياسة الرئيس الأميركي الذي قرر السير عكس اتجاه سلفه، والالتفات لمعالجة أزماته الداخلية والنأي بالنفس عن التدخلات العسكرية، المباشرة الكلفة، وردود الفعل والمضي في الدبلوماسية والخطب والموعظة الحسنة، إلى أن وصلنا إلى حد وصفه من قبل أعضاء في الكونغرس الأميركي وساسة أوروبيين، ب?المتردد?، والتناقض بينه وبين أفراد من إدارته بدا مألوفا في التصريحات المتعلقة بمخاطر تمدد المأساة السورية ونتائجها وتفاقم أعداد اللاجئين وآثارها على أوروبا. الوحدة الأوروبية تعرضت إلى ما يهدد بقاءها، ليس في النقد الموجه إليها فقط لكن بسبب الخوف العام عند شعوبها من تصاعد نبرة العنف وطريقة التعامل مع تدفق اللاجئين من مناطق النزاع في الشرق الأوسط، أو كثرة طالبي اللجوء بسبب فقدان فرص العمل في أفريقيا وآسيا.والأمثلة صارخة في نمو أصوات اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف استجابة للمطالب الشعبية، ولن يكون ذلك فقط نتيجة لاسترخاء أحزاب الوسط التقليدية أو ما يعرف بالأحزاب العقلانية في أوروبا، لكن لأن الأزمات الاقتصادية عصفت بالكثير من رفاهية الشعوب وتعدتها إلى أساسيات الحياة، وليس ببعيد عن الأذهان موقف رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان الذي أمر ببناء سياج لمنع المهاجرين غير الشرعيين مما أثار غضب أوروبا والمنظمات الإنسانية. في بولندا فاز حزب القانون والعدالة بالغالبية المطلقة وهو حزب يميني محافظ يترأسه ياروسلاف كاتشينسكي، نظرا لوعوده بالاستجابة للمطالب المعيشية للناخبين، والحزب يقف في صف الدول الأوروبية المناهضة للاتحاد الأوروبي. قبل مشكلة تدفق اللاجئين، كان لعجز الاتحاد الأوروبي في حل ومعالجة أزمة اليونان الاقتصادية، وعدم التعاطي معها إنسانيا، أثر في دفع أحزاب اليمين الأوروبية إلى الواجهة أو ظهور أحزاب جديدة تستجيب للحاجات الملحة، وتعبّر عن المزاج العام الرافض لتذويب الشخصية الوطنية والقومية إرضاء لفكرة الاتحاد التي يعتبرونها تبعية اقتصادية وسياسية للإرادة الأميركية، يعزز ذلك تدهور اليورو وتردي التنمية وضياع الأخلاق والقيم الخاصة، وكلها عوامل مساعدة للخطاب العنصري الذي تستغله الأحزاب المعنية، وربما في المثال الفرنسي بعد 13 نوفمبر 2015 وفوز مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية، في الانتخابات الأولية إشارة واضحة إلى التأييد المتزايد بعد وصفها الاتحاد الأوروبي بالإمبراطورية العاجزة ومطالبتها بإلغاء عملة اليورو واستعادة روح وتقاليد الأمة الفرنسية. في ألمانيا التي أسقطت جدار برلين وفتحت الآفاق لأوروبا حرة وعالم مختلف، نتفاجأ بأن الحزب المسيحي الاجتماعي يتجه نحو اليمين، وزعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا فراوكه بيتري، لا تخفي امتعاضها من تدفق اللاجئين عندما دعت لاستخدام الأسلحة النارية في حالات الضرورة لمنع دخولهم إلى ألمانيا، بموقفها هذا تحاول كسب أصوات أعداد لا يستهان بها من الرافضين لسياسة أنجيلا ميركل. في الجانب الشرقي من أوروبا يتمثل اليمين في شخصية فلاديمير بوتين المتأرجح بين الدكتاتورية القديمة للحزب الشيوعي، وبين القومية الروسية بسمات كنيستها الأرثوذكسية، وفي دول أوروبية عديدة تتردد أصداء بوتين كشخصية حازمة بوجه التهديدات التي تتعرض لها روسيا، ويعتبر مصدر قوة تتبنى بناء المجد القديم لبلاده. في أميركا، المرشح الجمهوري دونالد ترامب بشخصيته المعروفة شعبيا وبوجهه الإعلامي وبرامجه وتفاعله مع ضرورة التغيير، يلقى تجاوبا في الشارع، مستثم الإحباط العام، ومؤمن بذاته وخبرته في إدارة الثروات والمشاريع وتطبيقها في برنامجه ووعوده الانتخابية، على الرغم من سلوكه المندفع وإخفاقاته الثقافية في مناظراته أو أحاديثه التي يعتبرها مناوئوه أو مجموعات كبيرة من الشعب الأميركي، تحمل في ثناياها مخاطر قادمة في العلاقات الخارجية مع الدول الكبرى كالصين، لأنه يعتبرها عدوا اقتصاديا. مناصرو ترامب يرفعون شعار ?المستقبل لما نعتقده? لإبقاء أميركا القوة الأولى والأخيرة في العالم، أميركا مع العزلة وعدم الحاجة للآخر، والامتثال لحقيقة مضادة مفادها حماية أميركا في مكاسب خروجها إلى العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا. هناك رغبة في العودة إلى التقاليد بما يعني نزوع إلى المحافظين وأحزابهم اليمينية المتطرفة، ويقابلها يسار متطرف طبعا، وفي الشواهد العملية أثناء فوزهم يميلون إلى الوسط، لأن الحكم له متطلبات تفرضها العلاقات بين الدول واحترام المواثيق والمعاهدات مع شيء من التوازن في تطبيق برنامجهم الانتخابي. ثمن احتلال العراق، يدفعه المجتمع الدولي بالتقسيط، وليس بعيدا أو تجافيا للمنطق أن نتابع تداعي الاتحاد بين دول أوروبا، وتغيرات سياسية يفرضها التيار العام للغضب أو خيبات الأمل في ايجاد حلول لمشاكل بؤر التوتر وفقدان الثقة بالدور الأميركي الذي لا أمل فيه على مدى بقية فترة أوباما، وما يليها من انشغالات التأثيث للمرشح القادم وطاقم، خلال ذلك ستظل روسيا جزارا دوليا في خدمة الجزار المحلي لسوريا، دون رادع. ترامب يصف أميركا بالمعاقة، وأوروبا تتعكز على عوق الدولة الأكبر تأثيرا في العالم، والشاحنات المحملة بالمكائد والغش متسارعة إلى مفترق الطرق، ربما تصطدم اصطداما مروعا أو يتم تنظيم السير في اللحظات الأخيرة لتمر الإنسانية دون حادث مروع بين قادة مركبات الحروب واحتيال دول منشأ الإرهاب والتدمير الشامل لشعوبنا. (*) كاتب عراقي