شكل إعلام القرب مرحلة جديدة من التواصل مع فكر جديد حول صناعة الخبر، ففي الوقت الذي كان المواطن المغربي يعتبر نفسه من هوامش التحليل الإعلامي و حلقة أخيرة في تلقي المعلومة و عنصرا متأخرا في الإنصات، أضحى اليوم صانعا له و محورا رئيسيا في التأثير على اتخاذ بعض القرارات. هذا المواطن العادي والذي كان يعتبر نفسه إلى وقت قريب مهمشا ومنطويا على مشاكله ومعاناة محيطه، أضحى اليوم قادرا على التعبير والنقد وتقديم رأيه و بالتالي الشعور بحرية التعبير لضمان هويته وانتمائه السوسيوثقافي وأيضا مساهمته الضمنية في تنمية قيم المواطنة و الإسراع في خدمة الصالح العام. ... البعض تساءل عن إمكانية نجاح تجربة إعلام القرب وخطورتها أحيانا في التشويش الى درجة استقطاب الاحتجاج. لكن بالمقابل، دافع البعض على تطوير هذا التوجه و السهر على نجاحه انطلاقا من صحافة جهوية و محلية مكتوبة عززت لخطاب كرس هموم المواطن بمهنية عالية. في نفس المنحى تطورت خدمة إعلام القرب مع انفتاح المجال السمعي البصري و بالتالي تدعيم هذا المجال ببرامج قوية خلخلت المستمع من خلال مسايرته مع واقعه اليومي ووجود مواكبة يومية لهمومه. في هذا الحوار سنكتشف تجربة ناجحة بامتياز مع شخصية بصمت مكانتها في الصحافة المغربية و بتدرج هادئ نحو الرقي بالمهنية و قيم ثقافة محينة لنبض الناس بمختلف فئاتهم و انتماءاتهم السياسية و الاجتماعية و الثقافية. شخصية لها رؤيا متطلعة و كفاءة أفرزت لنا نموذجا في المجال الاعلامي جعل من المواطنين أوفياء لمتابعة برامجه النارية مما عزز معه روح الانصات للجميع لفضح المستور وجدية التعاطي مع النقد البناء. غالبا ما يستضيف ضيوفا، واليوم هو في ضيافة جريدة الاتحاد الاشتراكي في حوار متميز، انه الكاتب و الشاعر و الإعلامي و الفاعل الجمعوي مصطفى غلمان. من مواليد 1964 بمراكش وعضو اتحاد كتاب المغرب وعضو الفيدرالية الدولية للصحفيين الفرنكوفونيين بفرنسا وعضو المحكمة الدولية للوساطة والتحكيم بجينيف ورئيس مركز عناية «سيدوم» بالمغرب ومؤسس موقع «حراك» السياسي والثقافي ويشتغل صحفيا في مجموعة إذاعات إم إف إم. كان حاضرا ومساهما في العديد من الملتقيات الدولية والعربية حول الإعلام والتنمية، في تونس والأردن والسعودية وسوريا وليبيا ومصر، وبريطانيا وماليزيا وإسبانيا... له العديد من الأبحاث والمقالات في جرائد وصحف ومجلات عربية من بينها «الأهرام» و»السفير» و»أخبار الأدب» و»العربي» و»التجديد العربي» و»القبس» و»الفكر العربي» و»أبحاث سياسية». صيحته الفنية جعلت منه رائدا في الشعر حيث نشر مجموعة من الدواوين الشعرية من بينها: «خاتمة لدبيب الوشي» ،»ما جاء في الرؤية عند ازدحام الأثر»،»على شفا موت»، «قاعدة البطريق»، «قلق البارادايم»، الصادرة تباعا من مراكش ومدريد ومكسيكو والقنيطرة . مصطفى غلمان متزوج من الأديبة والباحثة المغربية آية سيدي العلوي مالكة ورزقا بثلاثة أبناء: المهند ومنهل الورد ومهيار. o بداية، الأستاذ مصطفى غلمان، ما سر هذه الشخصية المتكاملة وكيف كانت نشأتها ؟ n في زحمة الحياة وتحت وطأة زمن القرية الصغيرة ولدت فكرة الإعلام في حشا شاب يانع أواخر الثمانينات. لم يكن النظر قاصرا وأنا أتحدد بطباعي الأدبية، قراءاتي الكثيرة في نصوص فن الكتابة للراديو والتلفزيون وأخبار الإذاعة والتلفزيون والخبر الإذاعي والسينما التسجيلية، للعباقرة فوريست هاردي وكرم شلبي وجرين موري وجيمس فريدج وغيرهم ، بل ران على ميولي الحسية الأخرى غير الكتابة الشعرية ،مزيج من الاقتراب المتأهب لاقتناص شحن كهربائية وارفة من برامج الإذاعة العربية في القاهرة ولندن..سرعان ما تعمقت بفعل التربصات والتداريب الانفرادية في عزلتي وتحت ظلال شجر الحقول وبين حجارة الوديان. كانت قابليتي للإذاعة كصحوة فجائية التقطتني من غمرة المتابعات المتكررة لأصوات حفرت في ذاكرتي نهم الانتماء لقانون جديد، لن يكون سوى مكابدة طفرة الإعلام، بما هو «إحساس بالخطر الجمعي» حسب تعبير سماح فرج إذ أثار انتباهي وجود علاقة بين الأزمات والإعلام، ودور وسائل الإعلام في تشكيل الوعي وإبراز المعارف والاتجاهات لدى الجماهير. وبالمراهنة على التحفيز الذاتي، وقدرتي على تحسس طريقي لاختيار الإعلام واجهة لرسالة نبعت بادئ الأمر في نشر نصوصي الأدبية في مجلات وجرائد عربية ووطنية، وبعد تجربة «حلول تربوية» المقاولة الصحفية بآكادير بداية التسعينات، تعمقت فكرة البحث في إنتاج برامج إذاعية بجهوية مراكش،التي فتحت لي آمالا عريضة، في خوض سباق نحو ما كنت أطمح إليه، من تثبيت قدمي نحو ملامسة قضايا المجتمع، والتأثيرات السلبية على المواطنين، سرعان ما تكسرت تحت معول إدارة التعليمات..أكرهت آنئذ على ملازمة برامج لا تخرج عن سياق الإخبار الأدبي والثقافي عموما. o كيف استطعت أن تخلق التميز في انتاجاتك الإعلامية ؟ n لم يكن يعنيني بالمرة صخب التدجين والاستهلاك الفج لمجمل أوقات البث الوطني المباشر منه وغير المباشر، لمنتوجات إعلامية لا تنتمي لحقيقة وقيمة الإعلام كواجهة للتنمية وقاطرة للتواصل الفاعل بين مكونات المجتمع، بالقدر الذي أغاض جانبا من ممكناتي للذهاب بعيدا إلى حيث تشكيل الرؤية ووضع القواعد السليمة، من أجل إعلام حر جرئ ذي مصداقية ونزيه أيضا. بعد ذلك، جاءت اللحظة التاريخية الحاسمة، أواخر عام 2006 تحرر الإعلام السمعي وأصبح بالإمكان استشراف مستقبل أفضل لإعلام ظل عقودا زمنية جامدا، غير ذي جدوى تحت وصاية وزارة الداخلية. o العديد من المهنيين و المتتبعين يعتبرون أن مصطفى غلمان له بصمة خاصة و حاول خلق قيمة مضافة تميزه عن غيره، كيف ذلك؟ n كانت لحظة فارقة في حياتي، إذ سبق وراهنت على هذه اللحظة في مناسبة أعتبرها مرحلة نشاز، حيث سبق وسافرت لطرابلس الليبية أيام المأسوف عليه القذافي لأشتغل في راديو «أفريقيا الحرة» بتوصية شخصية من الجينرال أبو الخير. التجربة لم تدم طويلا، حيث عدت لدار الإذاعة بمراكش لإطلاق حزمة جديدة من البرامج الإذاعية الوطنية كبرنامج «المورد العذب» وبرنامج «في ظلال الأدب» و «أقمار». بعدها، انضممت لفريق «إم إف إم»مراكش الجيل الأول من تجربة التحرير إياه، رفقة الأصدقاء رشيد الصباحي ونجاة بناني وهشام لمغاري وميشيل غوسيل وبوزرارة...وآخرون، تحت قيادة الإعلامي المخضرم كمال الحلو. أوكل لي منذ البداية الإشراف على القسم الاجتماعي والسياسي والثقافي. لم ولن أنس يوما ما قاله المدير العام الحلو:» حدسي ينبئني أن صوتك الشجي الكامن خلف مساحة معتبرة من دمغ الإحساس وإغماره بالبوح سيضمن لك محبة خاصة في نفوس مستمعيك..»، وهو ما كان.. يوم الانطلاقة الأولى للبث الإذاعي ب»إم إف إم» مراكش، يدي على الزناد ولساني منطلق في اتجاه تحريك ضوابط الانتقال، من علبة أسرار لنبض الشارع إلى وسيط اجتماعي ثقافي متضامن، يجعل من بين أهدافه الانفتاح الكلي على الأصوات المقهورة، القادمة من مكاتب ضبط المرافق الإدارية وردهات المحاكم، يغمرها اللقاء الإذاعي بعطفه، يذلل لها الصعاب ويربط الاتصال بالمسؤولين للإجابة عن أسئلة وانتظارات المواطنين والمواطنات.. إنها حقيقة لحظات فارقة في تاريخ الإذاعة الوطنية. فالميكروفون المفتوح على المباشر يجعل من الصعب الممتنع واقعا للتشخيص وبؤرة للحوار وإبداء وجهات النظر..هو نفسه الشعار الذي طالما رددته بين أطراف لساني بداية المشوار:»الخبر مقدس والتعليق حر».. o تجربة القرب عند غلمان لها قواعد علمية و معززة بتقنية التواصل المتكامل، ألم يكن هذا التوجه الجديد محط مضايقة من البعض؟ n مقتنع تماما بإعلام القرب.ثمة تجربة مماثلة قريبة تماما من نظرية عالم الاجتماع البريطاني هوفينز والتي أسماها «اللغة الثالثة». تجربة تقف عند درجة من التوفيقية الجديدة، وهي مشوبة بالدهشة وفقدان النص. تجربة تختفي فيها ملامح القارئ المخاطب، الذي هو المذيع، ليتشكل في مخيال المتلقي، في عملية انصهارية لاتقل أهمية عن خطاب الركح في بعده الشعبي وصيغة تلاقحه بالتراكيب المشاعة في القاموس المجتمعي العامي. ماذا فعلت الإذاعة عند اقترابها من نبض المجتمع؟ إنها حطمت القواعد التقليدية للخطاب الإعلامي المبني أساسا على ضيق الأفق وتشديد حصول وفرة تواصلية بين المخاطب والمتلقي. فكرست مسرحا جديدا للحياة، بما هي امتداد للحظة الإشباع وتمديد لسلطة الوجود الرمزي في وسيلة إعلامية منقطعة النظير.. إن الفعل الإعلامي هنا غير مقيد بضوابط ومعايير تنكيصية، حيث لا انفكاك من مواصلة الحديث عن مشاكل الناس ومواجهتها بسيل كبير من الاستبدالات اللغوية، بالمناورة أحيانا وبتوليد الجمل الاستفهامية الأكثر حضورا في التقاليد الخطابية الشعبية. من جهة هي محاولة لترسيخ سلوك جديد للمشاركة في البرامج ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بفعالية وإيجابية تروم طرح التيمة الرئيسة وسبل تقييم معطياتها وطرح استفهاماتها وإعطاء بدائل ممكنة في الأخير. البرامج الإذاعية لمصطفى غلمان بنيت بمنظور جديد و منفتح على المواطن في جل أنحاء المغرب، نلاحظ تعايش مشاكل الأرياف وكواليس السياسيين و المسؤولين ، ما سر هذه الجرأة الإعلامية ؟ الغاية العظمى، وهي وجهة نظر خاصة بتجربتي، التأسيس لتقاليد جديدة للإذاعة في المغرب، ليس الغرض منها تمكين المواطنين من كسر الطابوهات وتغيير لغة الخطاب من خلال استعمال مطلب حرية التعبير ، ومواجهة المسؤولين بما يوائم حجم مسؤولياتهم. إنها أكبر من ذلك بكثير، حيث يندرج تأطير هذه الغاية بممارسة لغة إعلامية تفجيرية تثويرية تؤسس لتنظير جديد، هو القدرة على تجاوز مرحلة تدبير قطاع السمعي ببلادنا، الذي ارتبط فكريا بالخواء البيداغوجي القائم على الشعوذة الحكائية وعلى تنميط الخطاب، بما يعمل على تسخير الحالات المعينة وتمييعها، بل وتفريغها من جوهرها وإيقاعها الداخلي. o تجربة الإذاعات الخاصة عرفت انتشارا واسعا و أحيانا تنوعا تيميا، كيف يرى مصطفى غلمان تعايش التمويل مع توجه كل منبر إعلامي ؟ n الوظيفة الإعلامية مؤثرة جدا. في الديمقراطيات المتقدمة، حيث تستطيع وسائل الإعلام القريبة من مراكز القرار إسقاط حكومات وإعلاء شأن أخرى. هي مشتل لترسيخ كل فسائل البناء الديمقراطي التنموي بأبعاده المتعددة. كما أن استقلالية خطها التحريري رهين بمصادر تمويلها، حيث الرأسمال في كبريات وسائل الإعلام الغربية مثلا تتحكم فيه لوبيات سياسية واقتصادية وثقافية خطيرة. لكن وقوفها على الحيادية وابتداعها لعلاقات تجارية مبنية على توافقات ضريبية وأمنية وسوسيوثقافية أيضا يضعها في مرمى المهنية والجرأة على التغيير. قلت إن هذه الوظيفة عندنا مربوطة بالتزاماتك المهنية وبنمط تصريفها. ثم أيضا لا ننسى السياق العام الذي نشأت فيه ومن خلاله مؤسسات إعلامية سمعية، بعد نضال مرير مع مشاهد متكلسة من إعلام سمعي يفتقر إلى أبسط شروط العمل. وستبقى مع كل ذلك هذه الوظيفة منقوصة، لأن متكفيلها مرهونون بالإعلانات التجارية وبجشع السوق التي لا ترحم وبانكماش سبل تقويتها والدفع بها، ليس من قبل الجهاز الوزاري الوصي عليها فقط، وإنما من أصحاب الأموال الضخمة، الذين لا يؤمنون بالرسالة الإعلامية، ولا يشعرون بأدنى حد للمسؤولية، من كونهم مطالبون وطنيا للمساهمة في دعم مؤسسات إذاعية تتلمس طريقها للدفاع عن حقها في ممارسة ما هو مطلوب منها. o في ظل هذا الواقع المتجدد و المتنوع و المتجاذب أحيانا، ما هي تطلعات مصطفى غلمان نحو الرقي بالمهنية داخل المشهد الإعلامي المغربي ؟ n إن القليل القليل ممن يمارسون محنة «مهنة» الإعلام السمعي والبصري على السواء يستطيعون بوسائلهم الخاصة والضئيلة جدا، وبعلاقاتهم مع منظمات ومؤسسات مهنية مشتركة وطنيا وعربيا وإفريقيا ودوليا، أن يتكيفوا مع روح العصر، مع عولمته وأخطبوطية معلومياته، أن يبحثوا عن ملاذات آمنة للنهل من مستجدات وجديد الميدان، وأن يقتنصوا فرصا، وهي ناذرة نذرة الماء في القفار، من أجل أن ينخرطوا، شأنهم شأن باقي زملائهم في بقاع العالم، في مواكبة ومراكمة التجارب بالاحتكاك والانصهار، وبالتشارك في الموائد والندوات والمؤتمرات والأوراش والدورات التكوينية وغير ذلك كثير، من أجل تطوير إمكانياتهم الثقافية والإعلامية وتقديمها بشتى الوسائل الإبداعية الممكنة.