التاريخ فجاء، وهي بعض من مظاهر مكره، الصفة التي يشترك فيها مع «أحسن الماكرين»،ما يعني أن مكر الأصغرين، قبيح يعكس قبحهم وحقارتهم. ثورة «الصبار» هكذا يفضل التونسيون اليوم توصيف نهوضهم، وما أبلغها صفة، ذلك لأن خاصة من خصائص «الصبار» تكاد تطابق حالتهم وحالتنا معهم، إنها الحضور في الغياب، للصبار فضائل عديدة، غير أن امتيازه وتميزه الأكبر، هو اكتفاءه الذاتي في الاغتذاء، فهو يختزن من يوم اليسر (المطر) لأيام العسر (الجفاف) ما به يستمر حيا متجذرا، بل ويثمر أجود وألذ ثماره. وكذلك هي حالة المغارب والعرب بل وعموم شعوب العالم مع المفاجأة السارة والهدية اللذيذة لشعبنا العظيم في تونس المجيدة. انتفاضة أم ثورة؟ المنطق يقضي بأن لا ثورة بدون ثوريين، وهؤلاء لا يتصورون بدون روابط، علاقات، ضوابط، إستراتيجية... ثورية، لا يمكن بحال أن توجد خارج تنظيم حزبي يختصر في هياكله... مشروع إدارة دولة. في تونس المعاصرة، ومنذ ربع قرن على الأقل، وقف نظام الحكم البوليسي أولا وأساسا، على اجتثاث النوى الموجودة، والحيلولة دون أية إمكانية لانبثاق أخرى وأحرى انتعاشها. مستبيحا في ذلك جميع المحرمات، ومدعوما من قبل جميع الامبرياليات والرجعيات ودول الجوار. لقد قتل السياسة، وزور الصحافة وحاصر المجتمع، وأجلى أو اعتقل أو حاصر النخب المفكرة... وأضحت تونس «الخضراء» صحراء صفصفا يكاد لا ينتظر منها جديد، غير مضاعفة القمع والنهب والفساد، وتعميم الإفساد، خاصة منه الاقتصادي والاجتماعي-الأخلاقي (450 مهرجانا في العام). حركة التاريخ تشبه جريان الماء، فهو أبدا لا يتوقف، وحيثما وجد سدا مانعا عن الحركة، اخترق له منفذا ميسرا يتسرب منه، وقد تضطر لذلك مقدمته إلى أن تتبع وسطه لأجل ذلك... لقد استعاض الشعب التونسي، وبواسطة نخبته، عن التنظيمات العمودية للأحزاب، بعلاقات تواصل أفقية سهلتها أمور: 1-الاستقرار النسبي للأسرة التونسية، ومن تم توفر درجات محترمة من تحقيق شروط التضامن والتكافل والتفاهم داخلها. 2-حل متقدم لمشكلة السكن، حيث تربو نسبة التملك على 80% وهي من أفضل النسب في العالم. هذا الاحتياج الأقل من حيواني، ما زالت الكثير من الشعوب تعاني من ويلاته الخطيرة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا... 3-درجة متقدمة من الاجتماع البشري في مدن أو قرى متمدنة (ماء ? كهرباء ? تعليم ? صحة...إلخ) مقارنة إلى البوادي... 4-مستوى جيد للتعليم تعميما ومساواة ومجانية وجودة... 5-صمود الوحدة النقابية للطبقة العاملة (في المغرب 36 نقابة ؟ !) 6-حضور وازن وفاعل لنصف المجتمع (=المرأة) والمجمد في العديد من بلاد العالم. 7-كثافة تونسية في المهاجر الغربية. ومعظمها من طبيعة نخبوية. كل ذلك وغيره، سمح لتقنية التواصل الشابكي (=الانترنيت) باختراق الموانع القانونية والأمنية... للحياة السياسية (الحزبية والإعلامية)، تماما مثلما صنعت في حينها تقنية البكارة (=الكاسيت) بالنسبة للثورة الإيرانية. فنابت نسبيا عن المقرات الحزبية والاحتجاجات المدنية والمحاضرات والندوات الفكرية والثقافية والتعدد الإعلامي المفقود. من حيث لا تحتسب: حسابات التاريخ غير حسابات صانعيه، ذلك لأن التاريخ يصنعه البشر فعلا، ولكن ليس حسب إرادتهم، بل حسب إراداتهم، فهو منتوج: إلتقائها، تصارعها، تقاطعها، تمفصلاتها... فيأتي بحيث لا يطابق أيا منها على حدة، بل جميعها المتعارض والمتناقض والمتصارع. لنتذكر، ولنذكر ببعض ذلك: 3/1-»وفي اختلافهم رحمة»: أقصد صراع الامبرياليتين الأمريكية والفرنسية على المنطقة. وسقوط الأضعف منها في حضن أقواها. وهكذا فلقد كان انقلاب القصر في 1987 على بورقيبة، إصابة أمريكية موفقة على الخصم الفرنسي. غير أن استمرار الوجود الفرنسي: الاقتصادي ? الاجتماعي والثقافي في تونس لم يسمح بإقصاء، وإنما بتعايش بينهما، استمر نظام ابن علي في استغلاله لمصلحة استمراره وتجذره. فيلوذ بأحدهما كلما ضاعف الآخر الضغط عليه، ومن ذلك خاصة تمديد فترات ولايته، والتلاعب الدستوري والقانوني المتكرر لأجل ذلك، الأمر الذي لم يكن مقبولا من قبل الراعي الأمريكي، بل ويخالف شرطه عليه عند انقلاب 87. ومن ذلك أيضا، استمرار تشبث النظام بسياسة التعريب، وهي تكاد لذلك تمثل نقطة التقائه الوحيدة بالنخبتين اليسارية والإسلامية. مستغلا في ذلك، نزاع الراعيين على السوق اللغوي التونسي. لقد استجاب لأمريكا عند إلغائه امتياز اللغة الفرنسية كلغة ثانية (الفضيحة مستمرة في المغرب)، غير أن إحلال الإنجليزية مكانها في الابتدائي بقي محصورا في العاصمة. نفس الأمر بالنسبة لرفضه التطييع السياسي مع «إسرائيل»، وكذلك رفضه مناكفة الجارين الليبي والجزائري. الدور الأمريكي المحرض والداعم للانتفاضة مكشوف: أ-»وثائق ويكلكس» التي صرحت بالموقف الرسمي الأمريكي من النظام. واعتباره «مافيا» عائلية. ب-الدور الدعوي والتنظيمي والتحريضي... لقناة الجزيرة... بحيث كانت «لسان حال» الانتفاضة. ت-التصريح الصريح للرئيس الأمريكي، بتأييد الانتفاضة واضطرار فرنسا (وأوربا) متأخرة للالتحاق به. 3/2-نظام الحكم البوليسي لابن علي، كما هو حال جميع الاستبداديات، رجح كفة الأمن على الدفاع (الموكول للجارين وللراعيين) فهمش الجيش وأهان ضباطه (وثمة أخبار عن اغتيالات في أوساطهم) وأغرق الأمن في الامتيازات وأخطرها السلطات والصلاحيات. وضاعف تجهيزاته وأعداده (4 مرات أكثر) مقارنة إلى الجيش. هذا اختلاف الرحمة الأول. أما الثاني الأهم، فهو تعديد أجهزة الأمن، ومن تم تنازعها في الإختصاص وفي نزوعات توسعها وفي مراقبة وتخذيل بعضها البعض. الأمر الذي انعكس على سلوكها وردود فعلها... بالتردد والارتباك وحتى التناقض عندما مست الحاجة إلى سرعة تدخلها... وبالطبع، فعندما احتاج إلى استدراك من قبل الجيش، لم يجد منه تجاوبا... وهو ما كان منتظرا. وبالمناسبة، وبغض النظر عن النوايا السليمة والمفترضة من كل إنسان، فإنني لا أستبعد أن تكون بعض تلك «الشجاعة» أمريكيا لا تونسيا، تماما كما كان عليه الحال بالنسبة لابن علي في 1987. وتصريح أوباما قرينة في هذا الصدد. لم يقتصر الأمر على «الجنرال» بل إن الوزير الأول تصرف بنفس المنطق، فأين كانت هذه «الشجاعة» مختفية (؟!) 3/3-عندما راهن نظام ابن علي على إعادة إنتاج «االتجمع الدستوري» كحزب قناع ووسيط في إدارة الدولة الأمنية، راهن لذلك أيضا على الوعي البئيس و/أو انتهازية بعض ضحايا القمع في الوسط اليساري، وذلك بادعاء البعد الاصلاحي للانقلاب (بيان 7 نونبر) والتضامن في محاربة الخطر الظلامي (؟!) (وهو ما يحاول البعض تقليده في المغرب) تمكن ذلك اليسار نسبيا، من توجيه بعض الفائض الاقتصادي نحو الطبقات الكادحة في المجتمع (الخدمات الاجتماعية) والباقي احتكره الفساد الأمني والنهب العائلي... وبقيت لذلك فئات الطبقة الوسطى والوسطى الصغيرة مهمشة اقتصاديا مقارنة إلى نظيرتها في المغرب مثلا. والحال أن هذه الأخيرة، هي، وفي جميع المجتمعات الحديثة، الأكثر تسيسا والأكثر وعيا والأكثر نفوذا والأكثر تفرغا والأكثر طموحا... الخ، وهذه عموما، هي من دعا وحرض وقاد... الانتفاضة، عوض إن تقوم بدورها «التقليدي» صمام أمان لأنظمة الاستبداد عندما تقع رشوتها ماديا ومعنويا، أو للأنظمة الديمقراطية عندما تسود قوانينها ومؤسساتها وعلاقاتها... 3/4-من أواخر مقالاته السياسية، (الملتقى ع 22) استبعد الغنوشي احتمال التغيير بالطرق التي سبق طرقها (انقلاب-انتخابات-انتفاضة-الثورة المسلحة) وأكد لذلك على رهان العصيان المدني السلمي. ولعل توقعات وانتظارات الأمن المغاربي والعربي كانت كذلك أيضا. وهاهو ذا الشعب التونسي يفاجئنا بالجمع بين الانتفاضة والعصيان المدني السلمي والمتحضر، وذلك في سبيله نحو إعادة هيكلته لتنظيماته الوطنية الديمقراطية وتكتيلها في جبهة تاريخية واحدة تنجز مهام المرحلة: استكمال التحرير الوطني والانتقال الديمقراطي والتنمية الشاملة والمطردة والإنسانية. ما لم يكن في حسبان أحد، هو الرهان على التناقضات الموضوعية للخصوم والإعداء، في صفوف أطراف النظام وما بين الامبرياليات، وهو الأمر الذي عجل بهروب رمز السلطة، وقلب بذلك ميزان القوى سريعا، وهو الأمر نفسه الذي حدث في أغلب الانتصارات الثورية (مصر-فيتنام-إيران...). أقول هذا حتى لا ينسى الناس في غمار الحماس، أن للتاريخ قوانينه التي يؤدي الثمن غالبا من لا يحترمها من جهة، ومن لا يستغلها لمصلحته من جهة أخرى. التغييرات في التاريخ تحدث في حركة جدلية بين طرفين أو أطراف، لا ميكانيكية من قبل طرف واحد، ولو كان هو الشعب نفسه، إنه طالما أحرق مناضلون أنفسهم في غير ما ساحة عربية، ولطالما انفجرت مسيرات وانتفاضات وضحايا، واستمرت أحيانا شهورا بل سنوات (اليمن-الجزائر-مصر...) غير أنها مع ذلك لم تعط ما أعطته الثورة التونسية المباركة. 5-ما العمل؟ يجب التنبيه إلى جملة ملاحظات حول الشرط الموضوعي لهشاشة الوضع التونسي. أ-إن تونس كدولة حديثة، مقارنة إلى العريقات، مازالت في حاجة إلى ترسيخ مؤسسات وعلاقات وتقاليد... النظام. ولا يجوز لذلك الاستهانة بأخطار الميول الموضوعة في كيانها إلى الفتنة. ب-لا يقتصر الأمر على التاريخ فقط، إن الشرط الجغرافي أيضا بفرض إكراهاته. أقصد عواقبه المتمثلة خاصة في هشاشة اقتصاد يعتمد السياحة إستراتيجية له. ت-إن نصف قرن من شخصنة السلطة وأبويتها... قتلت مؤسسات تكوين أطر الدولة، ما عدا الأمن (السري)، وهو لذلك يستمر اليوم قويا وإن كان خفيا. ث-إن مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية، تقتضي تشكيل أوسع تجمع للطبقات الوطنية حول برنامج انتقالي نحو الديمقراطية. ج-لا يبدو لذلك في الأفق، انتصار محتمل للكادحين وفكرهم إلا على مستوى تعميم الحريات ودرجة من النزاهة في انتخابات المؤسسات... أما المصالح والمواقع الاقتصادية فستستمر لذلك محتكرة من قبل نفس الطبقة السائدة، نظيفة فقط من احتكار أسرتي المخلوع وزوجته. وسيستمر الصراع غالبا (في الشارع وفي الأقبية) مدعوما أمريكيا، ضدا على بقايا رموز الفرنكوفونية في الإدارة وفي الثقافة خاصة، وذلك إلى أن يزداد اختلاله لمصلحتها، تمام كما هو الحال، غير المستقر وغير المحسوم بعد في تجربة «الفتنة» الجزائرية. د-يبدو أن سلطات الأمن في العالم، متعاونة مع بعضها، قد تمكنت من ضبط ومحاصرة واختراق وإفساد وتقسيم... الخ جميع التنظيمات المركزية حزبية كانت أم نقابية أم مدنية... ولم يعد ممكنا الإفلات من رقابتها سوى بالتنظيم أفقيا... وهو اليوم ما يشكل خطرا عليها جميعا، فوجب التنبيه والانتباه، الأصلح لها ولا نظمتها، أن تعود إلى شعوبها، من ثم إلى معارضاتها، إلى الحرية وإلى الديمقراطية. عندما يحس المواطن، عن يقين أو بالحدس، أن مقرات الأحزاب... بل وتنظيماتها القيادية أحيانا... مدسوسة بالمخبرين والمخربين من شتى أنواع الأجهزة إياها، وعندما تزور أصواته في الانتخابات وتتدخل الإدارة للنيابة عنه في تقرير مصيره وعندما... وعندما... فلا يجوز أن نفاجأ، ولا بالأحرى أن نلومه إذا هو لم يجد فضاء للتعبير عن إرادته وطموحاته سوى الشارع. ذ-يجب الحذر، وإلى الدرجة القصوى، من المخطاطات الأمريكية في محاولة إستقطار تونس (تحويلها إلى «قطر» المغرب العربي) أو بالأقل، زرع «الفوضى الخلاقة» في كيانها... والقرائن على ذلك عديدة. هوامش طريفة: أ-»إذا الشعب يوما أراد الحياد...» لقد تمكن بيت واحد ن شعر الشابي العظيم، أن يوحد ويؤطر ويحرض... صوت وإرادة شعب بكامله، في وقت لم تكن له فيه قيادة تضع لتحركه شعارات موحدة، هذا شاعر في رمسه، هو اليوم أكثر حياة وأقوى تأثيرا... من مئات، بل ربما آلاف الشعراء «الإحياء» الذين يهربون من قضايا شعوبهم نحو «الجوائز» تلكم هي بعض جدارة الأدب، لمن مازال يسأل أو يتساءل عن ماهيته وعن وظيفته.. (؟!) ب-حكاية لا دعاية (استبداد واستبداد): عندما فرض على بورقيبة الإقامة الجبرية في الموناستير، خصص له ثلاثة أعوان (طباخ، ممرض وحدائقي) تعمد الزعيم بدهائه، تبرئة للذمة ونكاية في السلطة «الجديدة» إلى تسليم شيك لأحد الثلاثة بقيمة 700 دولار، وطلب منهم توزيعها فيما بينهم. وعند محاولة الاستخلاص البنكي، أخبر المعنى، ومعه الشعب التونسي جميعه، أن رصيد الرئيس لا يتوفر على ذلك القدر (؟!) لا يشبه الاستبداد بعضه، أخلاقيا على الأقل، كل استبداد هو فساد، ولكن شتان بين فساد في الوعي وفساد في الذمة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى... جميع أنظمة الحكم الحديثة والمعاصرة، مزدوجة الصفة، ديمقراطية بين مكوناتها، مستبدة على خصومها، والفرق بينها هو في معرفة من المستفيد ومن المتضرر... استبداد ابن علي كان في خدمة مافيا عائلية. أما استبداد بورقيبة، فكان: وطنيا، تنمويا، عادلا، ومتنورا... ومع ذلك، فلقد كان مرفوضا لأن منتوجه في الأخير كان «ابن علي» وزيرا للداخلية ثم وزيرا أولا قبل أن يصبح رئيسا عاضا. ت-في آخر موسم للحج، وبدعوى الخوف من عدوى «المرض» (المصطنع إعلاميا من قبل مصانع الدواء الرأسمالية) وتحت الضغط المستمر للفرنكوفونية الفرنسية (ولا أقول العلمانية فهي منها براء) عمد المخلوع إلى منع التونسيين من «موسم الحج إلى الشرق» وهو تقليد أعرق من الفتح الإسلامي. وكأن القدر قصد أن يسخر من قرار جاهل وجائر وأحمق، فإذا المخلوع لا يجد من ملجأ عند الأسياد أو عند الجيران أو عند الأحلاف... ويجده فقط، حيث أسسه الأجداد منذ آلاف السنين في شبه الجزيرة. إنها بعض من العواقب المرضية للاستبداد على الذاكرات الفقيرة ثقافيا. الاستبداد أبدا يعادي الثقافة ويحارب الحقيقة... ويؤدي عن ذلك الثمن مرتفعا، وإن تأخر. خلاصة: إن الوجود المستمر والشعبي في شكل منظم ومهيكل وموحد، وعلى مستوى الأحياء السكنية للمواطنين في المدن التونسية، سيكون أمرا مفيدا وجيدا، لانتزاع أكثر ما يمكن من الحقوق والمطالب المشروعة والديمقراطية والاجتماعية ذلك إلى حين الانتخابات المزدوجة المهمة: لمجلس يكون تأسيسيا وتشريعيا نيابيا في ذات الوقت. مراكش في: 20/01/2011 [email protected]