في أدبيات الديموقراطيات القويمة، تساعد الانتخابات ونتائجها على قراءة الواقع السياسي، بإعادة تأطير فهم التموقعات السياسية لكل طرف. هل حصل ذلك ما بعد انتخابات 4 شتنبر؟. في تشكيل المكاتب ورئاسات الجهات، لم تكن التموقعات السابقة قبل اقتراع الجمعة4، هي الحاسمة، وتابعنا التفكك في كل مواقع التواجد السياسي الحزبي، إلا فيما نذر، وماعت الحدود بين المعارضة والاغلبية الى درجة التوتر الكبرى، وتبادل الاتهامات.بل الى درجة أننا أصبح في قلب مسرح الظلال الياباني، لا نعرف الحقيقة من القناع. في قلب الرهان، يبدو للعبد الضعيف لربه أن المشكلة كانت كيف تكون الجماعات، ولا سميا الجهات ، إما سلطة مضادة، بالنسبة للمعارضة وإما امتدادا طبيعيا للحكومة، بالنسبة للاغلبية.. وإما جزء من هذا وجز ء من ذاك بالنسبة للمؤلفة - أو بالتدقيق للمحلفة - قلوبهم! حولنا المقولة : «في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم ، بل مصالح دائمة»، من الابعاد الكبرى (الوطن، الدول، المجموعات ) الى بعد أناني مركب بالجهل والسهولة، وأصبحت مقولة للشيء وضده، يقوله العدو للعدو لكي يلتقيه ويتفقا على قتل الحليف ويقوله الصديق للصديق - بل الأخ لأخيه - لكي يذبحه ويقدمه قربانا للعدو..! مع اقتراب انتخاب رئيس مجلس المستشارين حصل ما لم يكن في الحسبان، بعيدا عن التوازنات الممكنة منطقيا. وعندما يقع ما لم يكن من المتوقع وقوعه، فإن ذلك معناه أن شيئا ما تغير. ومن مظاهر التغيير الأولى هو أن المسافات بين الفرقاء السياسيين أصبحت لا معنى لها، فبدأ «باليه» الزيارات السياسية بين الفرقاء . فالتقى زعماء الأحزاب الأولى في المعارضة مع زعماء الأحزاب الأولى في الاغلبية. وكانت الصورة ، هي الدليل على أن الحدود القائمة ليست دوما على .. صواب ويمكنها أن تتزحزح عن فواصلها. وأصبح من الصعب فعليا الدفاع عن أية أطروحة متماسكة تفيد بأن الانتخابات ونتائجها يمكن أن تساعد على قراءة واقع سياسي متماوج ويمكنها أن تعيد تأطير فهم السياسة ومواقف كل طرف فيها، وذلك لسبب بسيط مفاده أن الواقع أصبح غير مقروء بالمرة! إلا إذا استثنيا الناجح والخاسر! فالراجح أن التحول الأعمق لا يقف عند البحث عن الأصوات (تلك نفسها التي حولت الفاشل إلى ناجح والناجح إلى فاشل في تشكيل المكاتب والجهات) بل يمس مفهوم الانتخابات ذاته، إذ نتابع كيف تحولت من آلية ديموقراطية و باعتبارها مسلسل وعملية لتطوير السياسة إلى مشروع للسياسة قائم بذاته! ومشروعا للوجود لدى الكيانات الفردية والفئوية أكثر مما هو معيار للحكم على المسارات الديموقراطية ووضعه قواعد اللعب بين المعارضة والأغلبية! وإذا كان من النبيل دائما أن تكون العلاقات بين الأغلبية من جهة والمعارضة من جهة قائمة على الاحترام، والأخلاق، والقيم السلمية، وقائمة على التشاركية داخل المؤسسات في إنتاج النصوص، والقوانين، فليس من المنتج سياسيا ومؤسساتيا تمييع الحدود بين الكيانين، وليس من مصلحة السلوك السياسي الوطني أن تبقى هذه الحدود عرضة للتعرية، بدون مناسبة وبحسابات تربك الرأي العام الوطني. أو قد تُقدِّم فاعلا سياسيا وحيدا على أنه المتحكم في ضفتي السياسة:معارضة وحكومة، ومهما كانت شرعيته الانتخابية! لقد تم تكريس التحالفات المغربية، منذ زمان واتربوري، كتحالف مبني على المكر وعلى الخديعة (نتغدا بيه قبل ما يتعشى بيا)، وزاد من تفسخ المعني أن الذين مارسوا السياسة اعتبروا أن مقولة الأخلاق مسألة لا تعدو أن تكون «زائدة دودية» في سياسة مبنية علي الهضم والقضم والتنكيل بالرفاق قبل الاعداد، الشيد الذي لم يعد يؤمِّن لأي سلوك سياسي استمرارية أو قوة. ويجعل السياسة في البلاد قائمة على أرجوحة، وأعتقد أن الخلاف لم يعد في أن نعرف من يبكي أو من يضحك، بل من يكون دوره الآن للشعور بالخديعة ومن سيأتي الدور عليه غدا..! وهو في حد ذاته واقع يقلص من حظوظ السياسة في فهم.. السياسة. قرأت هذه الجملة في يومية «لوموند»، ليوم أمس أعيد ترجمتها «بدون مجتمع قوي، متعدد وحي قادر على تنظيم نفسه داخل النقاش العمومي سيحكم على السياسيين بأن يمزقوا بعضهم البعض. ... وأن يلفظهم الشارع، آجلا أو عاجلا». وبوادر ذلك عادة ما لا تستشير أحدا.