في مجال الدراسات الدستورية، الخاصة بالمؤسسات السياسية وأنظمة الحكم، يتم التمييز بين نوعين من الأنظمة الحزبية عند الحديث عن العلاقة بين الحكومة والبرلمان في الأنظمة الديمقراطية، نظام حزبي ثنائي، ونظام حزبي تعددي، وهو تمييز ناتج عن طبيعة النظام السياسي السائد، نظام برلماني أم رئاسي أم نصف رئاسي. قبل تشكيل حكومة التناوب السياسي سنة 1997م، بقيادة الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، كان قد كثر الحديث في أروقة السياسيين، والمؤتمرات والندوات السياسية، التي عقدت حينها، كتمهيد لعملية التناوب السياسي ( Alternance Politique) الذي كان يرغب فيه الملك الراحل الحسن الثاني، لأجل إخراج المغرب من حالة الإنعاش التي كان يعيشها حسب وصف البنك الدولي في تقريره لعام 1995. وخلال ذلك، كان يُبحث في الإجراءات الممكن اعتمادها، قصد تسهيل علمية التناوب السياسي أو التداول على السلطة من خلال تبني النظام الحزبي المناسب لذلك، في أفق القطع مع التشرذم الحزبي الذي كان قائما. هنا كانت تطرح عدة خيارات، تراوحت بين الخيار الفرنسي الذي يعرف تعددية حزبية محصورة في ثلاث إلى أربع أحزاب كبرى تتراوح اتجاهاتها بين أحزاب يمينية وأخرى اشتراكية، وأخرى صغرى تدور في فلكها، تكون فيه الحكومات ذات طبيعة ائتلافية إذ لا حزب فيه يحوز على الأغلبية التي تخوله تشكيل حكومة لوحده. وبين الخيار البريطاني الذي يعتمد نظام الثنائية الحزبية، حيث يشكل فيه الحزب على الأغلبية الحكومة لوحده. في مقابل الخيار الألماني الذي يعتمد نموذج حزبي مشكل من حزبين رئيسين وحزب وسيط يكون له دور في ترجيح كفة هذا الحزب أو ذاك لتشكيل الحكومة. في الواقع كل ذلك النقاش لم يِؤخذ بعين الاعتبار من قبل حكومة السيد عبد الرحمن اليوسفي، حيث كان الجميع يعول أن تقوم تلك الحكومة بترتيب الشأن الحزبي المغربي تماشيا مع النقاش الذي كان دائرا حينها، في أفق القطع مع مظاهر التشرذم الحزبي الذي كانت أبرز مظاهره وصول عدد الأحزاب السياسية بالمغرب إلى 30 حزب وزيادة خلال نهاية حكومة التناوب سنة 2002م. إن من شأن ضبط المشهد الحزبي، في أي نظام سياسي ديمقراطي، أن يعقلن العمل السياسي، مما يسهل معه تحديد المسؤولية السياسية لكل من الأحزاب المشكلة للحكومة والأحزاب المشكلة للمعارضة، مع احترام التجانس والانسجام الإيديولوجي والهوية السياسية لكل تلك الأحزاب. في المغرب لا زال العمل السياسي ضحية ظاهرة التشرذم الحزبي، وهي ظاهرة يرجع البعض ظهورها واستمرارها إلى طبيعة النظام السياسي المغربي القائم على أساس نظرية (الانقسامية ) التي دافع عنها كثيرا أحد أعلام علم الاجتماع السياسي الأمريكيين "جون واتربوري" في كتابه " الملكية والنخب السياسية بالمغرب " ( وهي دراسة أنجزت في ستينيات القرن الماضي )، ومفادها أن القصر كان يسعى دائما، وفي إطار صراعه مع المعارضة اليسارية، إلى تشجيع ظاهرة التشتت الحزبي بغية ضبط المشهد السياسي، ومنع قيام أي حزب سياسي، أو تحالف حزبي مهيمن يكون مزعجا للنظام السياسي القائم. واليوم مع تشكيل حكومة السيد عبد الإله بن كيران، طرحت من جديد قضية التجانس الإيديولوجي بين الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية وتلك التي انسحبت إلى المعارضة بناء على نتائج اقتراع 25 نونبر 2011، فاستحال من جديد ضبط عملية التحالفات الحزبية بناء على الاصطفاف الإيديولوجي. حيث وجد المغاربة أنفسهم أمام حكومة أغلبية تشكلت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكذا معارضة من نفس التشكيلة اصطف فيها اليمين الليبرالي مع اليسار الراديكالي، مما دفع بالكثير من المراقبين والمحللين إلى وضع أكثر من علامة استفهام وتعجب على الوضعية الجديدة التي صار يعيشها النظام الحزبي المغربي؟؟ !!!. في السابق كانت الحكومات المغربية توصف بأنها حكومات صاحب الجلالة لأنه تمشي وفق تعليماته وتوجيهاته لا تزيغ عنها قيد أنملة، ومعارضتها تنعت آليا بأنها معارضة لحكومة صاحب الجلالة، مما كان له أثر سيء على أداء كل من أحزاب الأغلبية الحكومية وتلك المشكلة للمعارضة، كان نتيجة ذلك كله تنامي ظاهرة العزوف السياسي وتعمقت معه مقاطعة فئات شعبية عريضة للعملية السياسية برمتها. اليوم مع الدستور الجديد، أصبح الوضع مختلف إلى حد ما عن الوضع السابق، حيث صارت معه الحكومة تحظى باستقلالية في وضع سياستها التي تسأل عنها أمام البرلمان دون أن توصف بأنها سياسة صاحب الجلالة، وتقف على مسافة معينة عن منطق التعليمات السامية، على الأقل حسب منطوق الوثيقة الدستورية الجديدة، والمعارضة أصبحت لها القدرة أن تعلن صراحة معارضتها للسياسة الحكومية، دون أن تخشى من أن تنعت بأنها تعارض سياسة صاحب الجلالة. لكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ما هو نوع العلاقة التي يمكن أن تربط المعارضة بالحكومة في ظل التشرذم الحزبي، وعدم التجانس الذي لا يزال يطبع مكونات الأغلبية الحكومية و المعارضة معا؟ هل هي علاقة مبنية على أساس تنمية العملية السياسية ودفعها إلى الأمام عبر إعادة الاعتبار للعمل السياسي الحزبي، عن طريق تبني منهج معارضة الغاية منه خدمة مصلحة المواطنين وجعلها فوق أي اعتبار؟. هل وظيفة أحزاب المعارضة هي المعارضة من أجل المعارضة فقط بغية نسف أي مجهود حكومي يروم تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عبر تبني مقولة: وعين الرضى عن كل عيب كليلة//// وعين السخط تبدي لك المساوءا؟. الملاحظ أنه، من خلال منهجية وآليات العمل المتبعة لحد الآن من قبل أحزاب المعارضة الحالية، خاصة المعارضة الاشتراكية، بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، عبر جملة من المواقف التي أبدتها اتجاه حزمة من الإجراءات والآليات التي اعتمدتها حكومة السيد عبد الإله بن كيران في بداية عملها بعد التنصيب البرلماني، يظهر أنها معارضة تنهج سياسة قديمة كانت تصلح في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، القائمة على صراخ برلمانييها داخل قبة البرلمان من أجل إسماع الصوت فقط، والمغاربة يتذكرون جيدا ذلك الصراخ الذي ثبت خواؤه حين تقلد الحزب مسؤولية تسيير الشأن العام طوال أربعة عشر سنة من 1997 إلى 2011. وليست معارضة قائمة على أساس نقدي متين يروم إعادة المصداقية للعمل السياسي في نظر عموم المواطنين. قطعا تلك المنهجية لن تمكن المعارضة الاشتراكية من إعادة المصداقية لها بقدرما سيكون لها انعكاس سلبي عليها سيزيد من عزلتها، نظرا لثبوت نفاقها عند المغاربة الذين سجلوا كيف ازداد انهيار أوضاعهم الاجتماعية بشكل مريع طوال أربعة عشر سنة الماضية. أما منهجية وآليات عمل المكون الأخر للمعارضة، المتمثل في حزبي الأحرار والأصالة والمعاصرة، فنسجل أنها أبعد ما تكون عن قواعد عمل الأحزاب الديمقراطية كما هي في الغرب، التي تضطرها نتائج الاقتراع للخروج إلى المعارضة، لأن أحدها، وهو حزب التجمع الوطني للأحرار، لم يمارس قط من قبل دور المعارضة لأنه حزب إداري بامتياز، حزب وليد مؤسسة القصر سنة 1977 وظل يمارس السلطة، ويستفيد من خيراتها طوال أربع وثلاثين سنة فكيف له بدور المعارضة؟ كما أنه اليوم أشبه بالولد اليتيم الذي فقد أباه وأمه حين ترك السلطة مكرها، فهو لا يعرف ما يقدم من أمره وما يؤخر. أما حزب الأصالة والمعاصرة، فهو حزب ولد كي يمارس السلطة لأمد بعيد مثل سابقه، لكن جرت الرياح بما لا تشتهيه سفنه، فجاءت صخرة '' الربيع العربي '' التي عليها تحطمت جميع سفن الحزب لتحرمه من حلم معانقة مناصب القرار والسلطة، التي طالما كان انتهازيو الحزب يمنون بها أنفسهم وأتباعهم، وهم مجموعة من بقايا اليسار الراديكالي، والليبراليين المتطرفين، ومجموعة من المحافظين الذين تم إغراؤهم بركوب ظهر" الجرار" رمز الحزب. لكن يبدو أن عجلات" الجرار" تعثرت وانفجرت على إيقاع الهزات الأرضية التي ضربت في الدول المغاربية المجاورة، وكانت لها آثار وردات على دوائر صنع القرار في المغرب، الذين قرروا إنهاء اللعبة قبل أن يجدوا أنفسهم خارجها بالمرة. وبالتالي فحزب الأصالة والمعاصرة حزب أشبه بالصبي الذي بالكاد بدأ يتعلم خطوات المشي الأولى على يد مؤسسه فؤاد عالي الهمة " صديق الملك " الذي اعتزل العمل الحزبي مكرها أيضا، فتركه لوحده والتحق بالديوان الملكي مستشارا للقصر، وعليه يحتاج ذلك الحزب لسنوات حتى يتقن ممارسة دور المعارضة الذي لم يكن يدور في ذهن الكثيرين ممن التحقوا به أول مرة، الأمر الذي قد يكون له الأثر الكبير في تعثر مسير الحزب المستقبلية إن لم يحسن رص صفوفه من جديد تماشيا مع المرحلة السياسية الجديدة التي يعيشها المغرب بعد وصول عدوه الكبير، حزب العدالة والتنمية، إلى السلطة. يمكن القول أن: حالة التشرذم الحزبي وعدم الانسجام الإيديولوجي، الذي تعرفه التحالفات الحزبية المغربية، المشكلة لكل من الأغلبية الحكومية والمعارضة، ستسمر على الأقل طيلة الولاية البرلمانية الحالية، وإذا كانت هناك أي رغبة في إنهاء هذا التشرذم وعدم الانسجام، فيجب من جهة أولى، أن تبدأ من داخل الأحزاب نفسها، وبالضبط عبر ضغط قواعدها الحزبية التي عليها أن تمنع قيادتها من أن يكون همها الأوحد هو السعي وراء السلطة بغض النظر عن المبادئ التي تقوم عليها تلك الأحزاب التي تهدف إلى التحالف. وأما من جهة ثانية فيجب على الحكومة الحالية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، أن تسعى وبالتنسيق مع المؤسسة الملكية إلى ضبط المشهد الحزبي المغربي، في أفق إنهاء فسيفساء الأحزاب القائم حاليا، عبر حزمة من الإجراءات والتدابير، لغاية تشكيل أقطاب حزبية تقوم على أساس أيديولوجي لا تتعدى ثلاثة على أكبر تقدير، يمين ووسط ويسار.