إذا صحت المعلومات التي تم تداولها إعلاميا خلال الأسبوعين الماضيين حول حديث موسوعة تاريخ المغرب التي سهر على إنجازها باحثون ومؤرخون تحت مظلة المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب عن: "تضييع المغرب فرصة الانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية والملكية البرلمانية التي يسود فيها الملك ولا يحكم، بفعل الصراعات التي دارت بين القصر ومكونات الحركة الوطنية بعيد الاستقلال"، فالأكيد أن الأمر لم يكن تطلب تجنيد كتيبة من المختصين للوصول إلى هذه الخلاصة البديهية التي يدركها حتى من ليست لهم دراية بتفاصيل كافة ملابسات الحقبة التاريخية التي أعقبت جلاء سلطات الحماية. لكن هل سنضطر للانتظار أكثر من خمسين سنة أخرى قبل أن نفهم ما يجري الآن، وقبل أن يعترف باحثون ومؤرخون لاحقون بأن المغرب أخطأ موعده مع "الديموقراطية الحقيقية" مرة أخرى، لكن لأسباب لا علاقة لها بصراع الوجود بين القصر وجزء من الحركة الوطنية هذه المرة؟ إن المتابع لما يجري اليوم في الساحة السياسية، يفاجأ بحجم سوء النية الذي يحكم كل حركات وسكنات مختلف الأطراف والمكونات، وهو سوء نية ليس ناجما عن تراكمات تاريخية فقط، بل ناتج أيضا، وربما بدرجة أكبر، عن رؤية محددة، يعتقد المروجون لها أنها الأنسب لإدارة الوضع في مغرب اليوم. وإذن، فإخلاف المواعيد التاريخية ليس واقعة قديمة، بل هو أيضا حدث راهن تؤكده المشاهد التي نتابعها في أيامنا هذه. لقد كان حراك السنة الماضية مناسبة لاختصار الوقت وتدارك ما فات في زمن قياسي، لو أن الإرادة السياسية كانت متوفرة فعلا، لكن الاستعجال الذي رافق صياغة التعديلات الدستورية والطريقة غير الديموقراطية التي تم بها تشكيل اللجنة المشرفة على "المراجعة"، كل ذلك أعاد الأمور إلى مربع البداية...لتترسخ مرة أخرى "الخصوصية" المعلومة، لكن في الجانب السلبي كالعادة. لا ينبغي أن ننسى أيضا أنه قبيل الانتخابات التشريعية لنوفمبر الماضي، وفي الوقت الذي كان الكل يتطلع لأن تكون تلك الاستحقاقات مدخلا لمرحلة جديدة من التاريخ السياسي، لاحظنا أنه قبل أن يجف مداد دستور فاتح يوليوز، تكون حلف الثمانية في محاولة للالتفاف على مطالب الشارع بخصوص ضبط الساحة الحزبية بعيدا عن منطق التحكم الذي كان يسير في سكته المحددة قبل أن يتعثر في حجر 20 فبراير. بل أكثر من ذلك، سمعنا إعلانا مبكرا عن اسم رئيس الحكومة المنتظرة، وعن لائحة الموعودين بالاستوزار، لولا أن صناديق الاقتراع كان لها رأي آخر مغاير تماما لما توقعه مهندسو المرحلة الذين ناموا على يقين واستيقظوا على شك. وهنا أيضا لم يتم فهم الرسالة بشكل صحيح، بل بدأت نغمة الحديث عن "التصويت العقابي" على الأغلبية السابقة، والحال أن حزب الاستقلال الذي كان يقود الحكومة حقق نتيجة مرضية جداً.. في 25 نوفمبر 2011، وكان أولى من غيره بهذا العقاب المفترض بسبب الحضور الباهت للرئيس عباس.. وانحنائه الدائم. معنى هذا أن هناك إشكالا حقيقيا في قراءة الواقع من طرف بعض صناع القرار الذين وجدوا أنفسهم في لحظة البداية إمام ما اعتبروه صحراء سياسية قاحلة ليس فيها سوى بعض "الأشواك الملتحية" التي يمكن تخطيها بسهولة.. بل لم يدرك هؤلاء لاحقا حتى الدور "التنفيسي" الذي لعبته حركة 20 فبراير -من حيث لا تدري- في إجهاض حراك كان بالإمكان أن يتحول إلى انتفاضة شعبية وربما إلى شيء أكبر لا طاقة لهم به... وحتى بعد أن أفرزت الانتخابات النتائج التي نعلمها، ظل هناك إصرار على عدم "الاستسلام"، فبدأ الحديث عن حكومة الظل. وأشير هنا أولا إلى أن طاقم المستشارين لا غنى عنه في أية دولة، بل حتى في الديموقراطيات العريقة هناك رجال ظل يتحكمون في حركات وسكنات صناع القرار وفي نوعية ملابسهم، وحتى في الكلمات التي ينبغي أو لا ينبغي استعمالها. لكن هؤلاء رغم الكفاءة العالية والمؤهلات الكثيرة، لا يمكنهم ان يكونوا بديلا أو منافسا للمؤسسات الدستورية المنتخبة من طرف الشعب والمعبرة بالتالي عن الإرادة الشعبية. لقد راج منذ اللحظات الأولى بأن هناك حكومة ظل موازية هي صاحبة الصلاحيات الفعلية، ولم يعوز أنصار هذا الرأي دليل حيث كثيرا ما تدخلت حكومة الظل لإلغاء أو تعديل قرارات حكومة الواجهة. هذا الواقع يذكرنا مرة أخرى بأن تعدد مراكز القرار هو عادة سياسية مغربية أصيلة، يصعب القطع معها بسهولة. ألم نكن في كل الحكومات التي شارك فيها الوزير الراحل إدريس البصري أمام حكومات برأسين، بل أمام حكومات كل سلطات الفعل فيها مركزة وممركزة في يد "أم الوزارات"، وهو الواقع الذي تعايشت معه الأحزاب المشاركة في الحكومة والوزراء التكنوقراط، بل وحتى المعارضة والنقابات التي كانت ترى في وزارة الداخلية حكومة فعلية بصلاحيات كاملة ومخاطبا وحيدا، ضدا على نصوص الدستور وحتى قواعد البروتوكول. إن هذه الازدواجية، كما تؤكد استمرار أجواء عدم الثقة بين مختلف أطراف "اللعبة" السياسية، تؤكد أيضا أن المغرب مازال لم يحسم اختياراته الكبرى، وهذا هو الخطر الحقيقي. فلو أننا كنا أمام دولة حددت وجهتها صراحة، أيا كانت هذه الوجهة، فساعتها كنا سنراهن على حركة التاريخ التي تديرها طاقة المجتمعات. بعبارة أخرى، لو كنا أمام دولة اختارت سلطة الأمر الواقع، ورفضت المنهجية الديموقراطية، لكنا أمام وضع واضح يتحمل الشعب فيه المسؤولية بالدرجة الأولى، لأنه لم "يرد الحياة"، وحكم على نفسه بالعيش "أبد الدهر بين الحفر" على رأي الشاعر. ولو كنا أمام دولة تبنت الخيار الديموقراطي بشكل لا رجعة فيه، لقلنا إن صناديق الاقتراع ستفصل بين المتصارعين، وسترفع الناجحين و"تزدح" الفاسدين والفاشلين والمزايدين... لكن نحن دائما في منزلة بين المنزلتين...انتخابات نزيهة على وجه العموم، وأغلبية تدعم حكومة إئتلافية بشكل من الأشكال، لكن أي وزير في هذه الحكومة لا يستطيع اتخاذ أبسط إجراء، ولو كان من صميم صلاحياته الدستورية، دون توقع صدور فيتو أو تعديل من حكومة الظل، التي لم ينتخبها أحد ولن يحاسبها أحد. المعادلة الديموقراطية بسيطة للغاية: مواطن ينتخب حزبا معينا لأنه يتفق معه في أفكاره وتوجهاته...وحين يصل هذا الحزب إلى موقع صناعة القرار فهو يحكم فعلا ولا يشارك في الحكومة فقط، وإذا انقلب هذا الحزب على أفكاره أو لم يلتزم بمبادئه أو لم يف بوعوده، فإن موعده صبيحة يوم الاقتراع حيث يستعيد الناخب تفويضه، ويلغي توكيله ويبحث عن وكيل آخر أكثر مصداقية.. لكن هذه المعادلة -على بساطتها- يستحيل تطبيقها في المغرب لأن الحكومة المنبثقة عن أغلبية برلمانية لها صلاحيات على الورق فقط، أما على أرض الواقع، فالكل يعلم أن رئيس الحكومة نفسه محاصر بأسلاك شائكة وحقول ألغام، حتى أن عليه في كل مرة أن يفسر ما قاله حتى لا يساء فهمه، أو يستغل كلامه في الإيقاع بينه وبين القصر.. ولهذا لا ينبغي الاستخفاف بالحديث المتواصل عن تفجير الحكومة من الداخل، خاصة بعد انتخب شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال والذي يصبح ويمسي على الدعوة إلى تعديل حكومي لاشك أنه يهدف فقط إلى ضع البصمة الشباطية على الحكومة الملتحية. كما ينبغي ألا ننسى أنه لا الحركة الشعبية ولا التقدم والاشتراكية حريصان على التحالف مع حزب العدالة والتنمية، بل كل ما في الأمر أن هناك عوامل داخلية وأخرى "خارجية" تكاثفت لفرض التركيبة الحكومية الحالية، وأكاد أجزم أنه لولا عجز مهندسي المرحلة عن إيجاد مخرج دستوري ويقينهم بأن حزب بن كيران لن يتم تقليعه بسهولة، لكانت الحكومة الحالية قد أصبحت جزءا من الماضي منذ أسابيع. ما أريد تسجيله هنا، هو أن الديموقراطية تعني بشكل من الأشكال "قداسة" النصوص التشريعية والقانوينة وعلى رأسها الدستور. وهي قداسة لا تعني التحنيط وعدم التعديل أو المراجعة عندما يقتضي الأمر ذلك، بل تعني اعتبار الدستور سقفا تنحني تحته جميع الرؤوس، ولا مجال ل"العفس" فيه. فلو بحثت في الفكر القانوني لأي بلد ديموقراطي فلن تجد شيئا يشبه ما يتردد عندنا عن "شكل القانون وروحه". فهذه الازدواجية هي أكبر خطر يهدد قواعد الدولة وأركانها. فالقاعدة القانونية ينبغي أن تكون عامة ومجردة، وحين يصبح لها معنيان، هذا يطبق عليه شكلها وهذا يطبق عليه روحها، نكون فعلا أمام حالة من الضبابية يصعب التمييز فيها بين الأبيض والأسود. وهذا واضح للغاية من الوضعية الملتبسة الحالية لمجلس المستشارين الذي لم تصدر لحد الساعة أي فتوى دستورية من أية جهة كانت، لتبرير استمراره رغم أنه من الناحية الواقعية أصبح خارج نطاق الخدمة ولو بشكل جزئي بالنسبة لثلثه الناجي من التجديد. وهذا طبعا دون التذكير بأننا أمام برلمانين وليس أمام غرفتين، خاصة في ظل افتقار الحكومة للأغلبية في مجلس المستشارين، وهي وضعية غريبة قد تتحول إلى أزمة سياسية عند محاولة إقرار مشروع القانون المالي. إذن، الصورة باختصار تتمثل في أن المغرب يتوفر على حكومتين متوازيتين، وبرلمانين متنافسين متناقضين، وشعبين أيضا، الأول لا مبالي بما يجري "فوق" خاصة بعد نزول الغيث الذي سيوفر الأكل والمرعى...وشعب "يريد"، لكنه في رحم الغيب.. قد يظهر فجأة، ولأهون سبب كما حدث في تونس قبل عامين..