"لولم أكن رساما لتمنيت أن أكون موسيقيا، فلا أجد نفسي إلا حيث التناغم والإيقاع والإلهام". العبارة، لرجل ذكرته "فهرس الفنانين المغاربة المعاصرين" للباحثة دنيا بلقاسم،و"المعجم التشكيلي لطنجة لمؤلفيه أندريو كلاندرموند وتيرينس ما كارتي، لرجل فضل الرسم والصباغة على مزاولة القضاء، فبرغم دراساته القانونية، ظل قريبا بل منغرسا في الفن والخيال.. ولع بالطبيعة الصامتة كما اشتغل على الطبيعية الحية..استلهم التراث..وطرق بعض موضوعاته بأسلوب واقعي جديد، يُعنى بتمفصلات المعيش اليومي. o هلا حدثتنا عن مشوارك الفني؟ n ولدت بطنجة في الخامسة عشرة من شهر أبريل لسنة ألف وتسعمئة وثمانية وثلاثين.دخلت عالم الرسم والصباغة عام ألف وتسعمئة وأربعة وخمسين. كان اهتمامي بالرسم والألوان منذ السنوات الأولى من حياتي. كنت أشاهد أمي وهي تصنع الأحزمة النسوية المؤلفة من خيوط ذهبية وثياب جميلة ..كانت الأشكال الهندسية والورود تنبثق من أصابعها.وأبي، مع كونه موظفا، كان يحسن الرسم بالأقلام، وجدي كان خطاطا بالطريقة التقليدية(الخط المغربي العادي والمجوهر). لما ولجت ثانوية (رينولت) بطنجة، كنت دائما الأول في امتحانات مادة الرسم، وكان الأساتذة الفرنسيون يتفقون على أن لي موهبة متميزة، حتى أستاذتي في الفلسفة قالت لن أنجح مستقبلا إلا في مهنة الفنون التشكيلية. ولأن الموهبة وحدها لاتكفي، فقد طلبت منحة لمتابعة الدراسة بمعاهد التشكيل بفرنسا، لكن الموجه الفرنسي آنذاك في وزارة التربية الوطنية الفتية رفض طلبي، منبها إياي أن المغرب في الأيام الأولى من استقلاله بحاجة لرجال قانون أكثر من حاجته لرسامين. منحوني منحة في القانون، فتوجهت إلى جامعة محمد الخامس بالرباط التي كانت-وقتها- تابعة الى جامعة باريس . رغم دراستي الجامعية، كنت أخصص ثلثي وقتي للرسم والمعارض بالرباطوطنجة. تزودت بالمعلومات والتقنيات التي أحتاج إليها في طنجةوالرباط، بالاحتكاك مع الرسامين الأوروبيين المشهورين على شاكلة: راميس والنحات بريطو وأوبير دو بيركار وبونطوا وأبيرلي وماك بي وجيروفي...كانوا يقرّبونني منهم ويلقّنوني أسرار الرسم والصباغة. توظفت بعد دراستي بالرباط لسنوات عديدة، لكن استبد بي الرسم وملك عليَّ نفسي فتفرغت إليه كليا حتى أصبح مورد رزقي إلى اليوم.. o ماذا عن معارضك، بالداخل والخارج، متى نظمت أول معرض لك..وهل أحرزت على شهادات أو جوائز؟ n أول معرض نظمته،كان في سن السادسة عشرة من العمر بطنجة. انتقلت في الستينات إلى الرباط، حيث عرضت بقصر المامونية ثم إلى البيضاء بمعرض الفنانين المستقلين ورواق فنيس كادر في سنة 1965 . بالخارج، عرضت بالولايات المتحدةالأمريكية وكندا وكولومبيا وفرنسا واسبانيا والدانمارك وانجلترا وايطاليا واستراليا واسلاندا وتركيا. بخصوص الشهادات،فقد حصلت على شهادة في الحقوق عام 1963، وكانت لي مشاركة في جمعية الرسامين بالدار البيضاء(الجمعية الوطنية للفنون التشكيلية).وأحرزت على جائزة رواق بروفينسا بطنجة (1954)، والميدالية الذهبية للصحافة بطنجة(1961)، وجائزة معهد غوته بالدار البيضاء(1965). o يكاد يسود في الأوساط أنك فنان بسيط بما في هذه اللفظة من لمز وتعريض، فما طريقتك في الرسم والصباغة؟ n أهل الاختصاص قليل، وبالوقوف على الأعمال تظهر الحقائق. لافرق بين فنان وفنان إلا بما يتسم به عمله من صدق فني وأسلوب مميز وعاطفة خصبة. بالنسبة إليّ، فإني أعتمد الفكرة، أو ما نسميه الإلهام. والفكرة، تأتي إما من الواقع المحيط بالرسام (مناظر أشكال صخر مجرد ظل وضوء على أشياء غريبة ..) وإما من الذكريات التي تأتي بطريقة آلية، وكأنك تحلم وأنت غير نائم. ثمة التراكم، أي الثقافة العامة والممارسة ومشاهدة كل ما يروج في العالم التشكيلي. وعند الرسامين الكبار، الفنان الصادق يرى لوحته في مخيلاته قبل أن تخرج إلى الوجود.قبل أن تُرسم، يراها بأشكالها وألوانها.المهندسون يسمون هذا منهاجا،أما نحن -الرسامين- فنسميه إلهاما. فإذا حصل هذا الإلهام، يمكنني الانطلاق في العمل. o ما المدرسة الفنية التي تنتمي إليها؟ n بعد أن انتقلت طيلة حياتي عبر جميع المدارس من الأكاديمية والانطباعية والتجريدية والخط العربي، توقفت ابتداء من السبعينات في نوع اشتُهرت به وعُرفت به إلى يومنا هذا،ألا وهو البحث عن شكل واقعي يجمع بين التشخيص والتجريد. أبدأ برسم الشكل الأولي للموضوع،أي رسم أولي وانطباعي،ثم أدخل في الموضوع بتدقيق أكثر.وتحضرني الآن قولة الفنان دولاكروا:" أبدأ لوحتي بمكنسة وأتممها بإبرة". ينبغي أن يمر التيار بيني وبين موضوعاتي: بعض المواضيع تثير انتباهي لكني أكره (الكارط بوسطال)، التي هي بضاعة يستهويها السواح . أعتمد في الأشكال والموضوعات والمواد التي أوظفها، الجدية والتركيز. لن أسمح لنفسي باستعمال صباغة غير التي هي مخصصة للفن التشكيلي.أنا أستخدم الألوان الزيتية حينا والمائية حينا آخر.لاأكترث بالمواد التقليدية. o ما الموضوع الذي استأثر باهتمامك لدرجة أنك لاترى عنه بديلا؟ n كنت ذات يوم أتأمل أمام لوحتي الفارغة البيضاء، أتساءل عما يمكنني أن أرسمه عليها: منظر من أزقة المدينة العتيقة، طبيعة ميتة، بورتري لوجه امرأة أو رجل أو طفل، سوق مغربي.. لم أنفعل مع تلك المواضيع، لكن لفت نظري قفطان قديم ممزق، كان معلقا على باب مرسمي القديم. كان الضوء يتسلل إليه من جانب واحد ويضفي على ثوبه الممزق جمالا غريبا، علاوة على ألوانه القديمة وخيوطه الذهبية التي تذكر بماضيه الزاهر.. يقول المثل العامي عندنا: (الزين إذا مشى، تبقى حروفه). اقتنعت آنذاك أن هذا هو الموضوع الذي كنت أبحث عنه: شكلٌ شبه تجريدي، لكنه مستقى من الواقع. ربما أعجبني الموضوع هذا، لارتباطه بالتراث، ربما لأني أنتمي إلى حضارة إسلامية "حرمت" رسم المخلوقات الحية من إنسان وحيوان (رغم أن هذا "التحريم" لم يشر إليه القرآن بطريقة واضحة. القرآن حرم فقط الأنصاب أو الأوثان..)، ربما لأنني أنتمي بطريقة غريزية إلى الحضارة العربية الإسلامية، فالعقلية العربية تهتم بالجزئيات، فالجداريات في العمارة الإسلامية وفي الزرابي خليط من الجزئيات، والأشكال المتشابكة والهندسية، تعطى لوحة رائعة. إن القفاطين التي أرسمها حتى اليوم، هي بالنسبة إلي أشكال وألوان وخيوط متناسقة تمتح من الواقع، لكنها تجريد على تجريد. وكيفما كان الحال، فالموضوع هو- قبل كل شيء- وسيلة أو سبب، يمكنك الانطلاق في عملية الرسم والتعبير عن الوجدان وعما يجول في داخلك من ألوان وذكريات وحرمان .. بعض الرسامين يسمون أنفسهم مبدعين: هذا منتهى الغرور والكبرياء. فالمبدع الأول هو الله، الذي خلق كل شيء: الله جميل يحب الجمال، نحن لسنا محتاجين إلى عباقرة مبدعين بقدر ما نحن محتاجون إلى رسامين متواضعين. الرسم قبل كل شيء تواضع وعبادة. o كيف تشخصون الوضعية الصحية للفن التشكيلي بالمغرب؟ n في أوائل الاستقلال، كنا بضع عشرات من الرسامين، اليوم تكاثر العدد، وظهرت مواهب أخرى مميزة في صفوف الشباب، الذين يتطلعون لمن ياخذ بأيديهم . في ظل هذا التكاثرعلى مستوى الفنانين والتجارب، بقيت حقوق الفنان متعثرة. رغم قانون الفنان..والبطاقة..فإن بعض الفنانين ماانفكوا بين ظهرانينا يقاسون التهميش وحقوقا مهضومة ومكتسبات فالِتة. هل تم فعلا تحديد مواصفات الفنان الذي يستأهل بطاقة الفنان؟ هل هو الذي ينشط باستمرار وله محترفه؟ هل هو المُقل أم الذي توقّف عن العرض ولكن يُشهد له بالكفاءة؟ هل هو الفطري؟ هل هو العصري؟ أكثر من أربعين عاما ونحن نطرح هذه الأسئلة لكن عبثا. طرحناها في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات..كان يسود في الساحة نوع من الإرهاب الفكري من لدن بعض الفنانين التجريديين الذين لايومنون إلا بالفن التجريدي فقط. تآمر هؤلاء الفنانون والأروقة الموجودة آنذاك ضد الفن التشخيصي الفتي..واليوم، فقد تم الاعتراف بالفنان الفطري،أكثر من هذا ثمة دعوات للعودة للفطرية والموهبة الصافية، بعيدا عن التنميقات المفرطة في العمل الفني. o الحركة الفنية كما أشرتم حاضرة بقوة، من خلال تجارب مميزة، لكن هل تواكبها حركة نقدية في المستوى؟ n النقد -عندنا- إما تغطية عابرة أو تمجيد لمن لا يستحق، وإما كلام وتفلسف مبهم لايستوعبه إلا واضعه، ثم إن أجهزة النشر السمعي منها والبصري غالبا ما لا تفتح أجهزتها سوى لهواة غير مقتدرين جاعلة منهم عباقرة مزيفين ومشجعة فيهم الغرور والكبرياء،علاوة على هذا، ثمة المحسوبية والزبونية، حيث يكتب بعض النقاد-للأسف الشديد- تحت الطلب لمن أهداهم مشروبا أو لوحة أو صدقة...والحال إننا بحاجة إلى نقاد متمرسين نزهاء ومتخصصين، ولنا أن نعتبر في هذا الإطار على سبيل المثال بالناقد فليكس فينيون الذي واكب في فرنسا الحركة الانطباعية، فقد كان متمكنا من الألوان والأشكال، وله دراية بتاريخ الفن عامة والمقارنة بين الفنون..كان يفحص اللوحات بدقة وأحيانا يقوم بدراسة حتى إطارات اللوحات..ولا يدخل..ولايعبر عن العمل الفني بالطلاسم ومتاهات كلامية غامضة لا تقرب الفنان من المتلقي.