هذه الرواية الأولى «نوميديا»(دار الآداب 2015)، للكاتب المغربي طارق بكاري، تنطوي على عناصر سردية وشكلية ودلالية ذات طموح كبير، وتكشف عن نضج يستحق الاهتمام والتأمل. وأول ما يسترعي النظر، البناء المتعدد الخيوط، المتشابك في السرد، المتوازي والمُتقاطع: فإلى جانب مراد، السارد الأساس والمهيمن، والشخصية الفاعلة التي تحتلّ المركز، هناك مسودّات رواية موازية «مراد الوعل» لجوليا(ك)،أي العشيقة الفرنسية التي تبحث عن موضوع لروايتها؛ ثم مذكرة خولة، الحبيبة الجوهرية في حياة مراد والتي ماتت بعيدا عنه، حاملة في بطنها جَنينَهما وثمرة حبهما... صوت مراد ومحكياته يمتدان من ولادته طفلا لقيطا ومغادرته «إغرمْ» مسقط الرأس، ونزوحه إلى مدينة كبيرة أتاحتْ له التمَدرُس ثم الالتحاق بالجامعة في ظهر المهراز بمدينة فاس حيث عاش تجربة مواجهة الطلبة اليساريين مع سلطات المخزن، إلى عودته إلى إغرمْ وشراءه فندقا منغرسا في خِصْر الجبل، ليختلي بذكرياته ومأساته الشبيهة بتراجيديا يونانية. كان يظن أن عودته إلى مسقط الرأس ستجعله يتصالح مع نفسه، ويُرمّم هويته المشروخة الرازحة تحت أكثر من خيبةٍ وخيانة وحرمان، المحاصرة بأسئلة تطال لغة الأم الأمازيغية، وعلاقته بالثقافة العربية والنضال من أجل تحرير المجتمع، والعلاقة بالمرأة والحب والجنس وبالآخر المستعمِر العائد من خلال جوليا...وإذا كان صوت مراد ينطلق من حاضر الرواية المتمثل في عودته إلى إغرم ومعه عشيقته جوليا، فإن هذا الحاضر سيتعزز بمجيء «نضال» صديقته اليسارية في الكلية والتي تزوجت من رجل غني لا تحبه، فانقطعت عن كتابة الشعر وجاءت تبحث عن مراد الذي تعلقت به من قبل، ولكنها تعود إليه لتطفئ ظمأ جسدها وتنسى هي أيضا الهزيمة ورداءة زمنِ ما بعد النضال... يصف مراد لقاءه الأول بها على هذا النحو :»..كانت صورتها القديمة تنطمس وتتبدد وكأنني إزاء جسد غيرها. أما وأنا أتابع ارتعاشات أسوارها اللحمية وشهيقها يعلو وينكسر ليستحيل إلى زفرات متقطعة، ثم وأنا أتابع تأوهاتها بلذة، مددتُ يدي إلى مواطن ضعفها؛ كنتُ أستفزّ جسدها ليكون بالحرارة المطلوبة وأحرّض عليها تخوم رعشتها السحيقة. حين التحم جسدانا، كانت يداها تشتبكان بالندوب الراسية على ظهري وتئنّ، تتأوه، وتصرخ بكل ما فيها من جنس وشهوة، وتستزيدني بلهفةٍ كأن عطش سنين يسكن هذه المرأة الفتنة...» ص 114. ويتأثث حاضر مراد أيضا بالتقائه صدفة ،في أعلى الجبل، بنوميديا الخرساء، الأمازيغية الفاتنة التي أنستْهُ جميع خيباته وآلامه وتعلق بها وكأنها حاملة شفاءَه. لم تكن نوميديا مجرد فتاة جميلة، بل أضفى عليها كل ما كان يفتقده في حاضره الشقيّ :» لم أنبس ببنت شفة، وأنا أغرق في تفاصيل وجهها مشدوها ومستعبَدا ومستلبا بها إلى أبعد الحدود. كيف لا والعين لا تشبع من رؤيتها. ولست أدري لماذا رددتُ في سري: كأنها إغرمْ، كأن إغرمْ تجسدت فيها ولبستْ ثوبها البشري».ص232. أما المقتطفات الواردة من مسودّات رواية جوليا، فهي تضيء سرّ علاقتها بمراد وكيف تورطت في حبه وكانت سببا في التعجيل بحتْفه: توضح أنها خلال بحثها عن موضوع جديد لروايتها، خطر لها أن «تستنطق حاضر الشرق من خلال استنطاق الرجل الشرقي»، وأرادت أن تكون شخصية البطل رجلا شرقيا مُعتلا نفسيا ؛ فتوسلت بطبيب نفساني مغربي كان يعالج مراد، وهو الذي «باع» لها ملفه الطبي، فسعت إلى لقائه أثناء وجوده بفرنسا، وربطت علاقة معه لتتابع عن قرب سلوكه وتطورات عُقَدِه، مستعملة حقنا لحمله على الكلام، لكنها عجلت بموته وجعلتها التجربة تقع في غرامه. وقد اكتشف مراد غرضها ومع ذلك استمر في اللعبة حتى النهاية لأن مأساته كانت أكبر من تحايُل جوليا،إذ كان ينشد الموت علاجا لمصيره... وتأتي مذكرة خولة التي أرسلتها إلى مراد قُبيْل وفاتها، لتؤكد حبها له وتصف المحنة التي واجهتها وحدها والجنين في بطنها، وهي لا تعرف أين اختفى حبيبها... وهناك علاوة على ما تقدم، عنصر آخر في معمار الرواية، وهو اختلاق مراد لشخص أسماه «أوداد» أي الوعل باللغة الأمازيغية، وزعم لجوليان أنه اسم صديق له رافقه أمدا طويلا؛ ولم يكن أوداد حسب السياق سوى نسخةٍ هي بمثابة قرين لمراد قبل أن يُفصل منذ بكارة طفولته عن ذاته «الأصيلة». مستوى الدلالة الرمزية : على مستوى القراءة الأولى لرواية «نوميديا»، يترسب لدينا انطباع بأن النص يُركز على البعد المأساوي لشخصية مراد الذي تضافرت ضدّه قوى الأقدار والخيبات والخيانات لتحُول بينه وبين السعادة والهناء وتجعله دائم القلق والترقب والشكوى...ذلك أن زخْمَ الأحداث والعلائق والشخوص يقدم عالما مكتفيا بذاته مليئا بدلالات تحيل مباشرة على اختلال الأوضاع، وسيادة الفكر الخرافي، وفشل التجربة الثورية الاشتراكية التي ضيعت كل المكاسب وآلتْ إلى وضعٍ عبثيّ :»..- والاشتراكية يا مراد؟ - أخطأنا الفهم ربما، أو ربما كانت مجرد حلم جميل كان علينا أن نكتشف مبكرا أنه مجرد حلم لا يصمد أمام هوْل الواقع بكل تناقضاته(...) ? وما العمل؟ - العبث يا نضال، العبث.(...) جاء الظلام يا نضال، جاء الظلام، ليُبارك هذا السبات ويحرس أحلام الحالمين» ص 332. وهو يقصد في هذه الجملة الأخيرة الإشارة إلى تصاعُد المد الأصولي وإقدامه على عمليات إرهابية، أودتْ إحداها بحياة صديقه الحميم مصطفى... لكن القراءة المتأنية، تتكشفُ عن مستوى آخر له أبعاد رمزية، تعتمد في نص الرواية على عناصر وإشارات تتعالى بالأحداث والمواقف والكلام إلى مستوى الترميز والدلالات الإضافية. ولا بد من الإشارة إلى أن الدفق اللغوي والكثافة الشعرية، وفضاء «إغرمْ» الساحر والرومانسي، والطقوس الإيروسية المصاحبة لمشاهد العشق والمضاجعة...، كل ذلك جعل الرواية تخفي رموزها أو على الأقل تحدُّ من طابعها المباشر. إذا وجهنا القراءة من زاوية أخرى تبتعد عن المنظور التراجيدي لشخصية مراد، وانطلقنا من الجرح السري الذي استكان في أعماقه منذ الطفولة وحرَمه من أبويه ومن لغة الأم، ورمى به إلى فضاء مدينيّ قاسٍ، وجعله يكتشف ويستوعب مكونات أخرى داخل مجتمعه(الثقافة العربية، الثقافة الفرنسية والعالمية، حرية الجسد والعواطف، تجربة التمرد على الطغيان، بعبع الأصولية الإرهابية...)؛ وهذا يعني بتعبير آخر، أنه أدرك بالملموس أن الهوية ليست أحادية وليست معطاة ًدفعة واحدة. ومن ثم جاءت علاقته مع خولة التي كانت تدُرسُ عنده، رمزا لفشل الهوية المركبة التي ظن أنها تُؤمّن له الانتماء؛ وكانت علاقته بجوليا بمثابة انفتاح على «الآخر» أي الغرب وقيمه الكونية، غير أنه يكتشف الخيانة والغدر، على غرار ما فعل أجداد جوليا الاستعماريون عندما بنوا «قلعة الرومي» وأطلقوا الرصاص من فوقها على الأبرياء:» ..كان منظر هذه القلعة التي لا يدري أحد كيف ألصِقتْ بالجبل، يبدو بشعا من فوق، على الرغم من أن منظرها من تحت جميل إلى درجة تستثير الرهبة والخوف في قلب رائيها. تُرى فيما تختلف جوليا عن بانيها الذي كان يصيد الآدميين ببُندقيته من حصنه الحصين هذا، لا لشيء فقط ليثريَ مروياتهم الكبرى عن الشرق. جوليا أيضا ، وإن اختلفت الأساليب انسجاما مع روح العصر، صادتْني باسم استكناهِ الشرق. لستُ ادري عددَ طرائدها قبلي..كل هذا لتُثريَ حكايتهم الكبرى عن الشرق..»ص 415. وعندما قرر مراد العودة إلى مسقط رأسه بحثا عن جذور الهوية الضائعة، لم يجد الطريق مُعبدة لأن الأربعين سنة التي عاشها في فضاء تطبعه الهجنة والاختلاط والصراع ووطأة الأصولية والماضوية، جعل مطلبه متعسّرا؛ وحتى عندما لاحت له في ديجور الخيبة والفُسولة نوميديا الجميلة الواعدة، وجدها خرساء، لا يستطيع أن يفضي إليها بعشقه عبْر لغة الأم المشتركة بينهما. على هذا النحو، عاش مراد أيامه الأخيرة ممزقا بين استعادة هويته الأمازيغية المُلجمة، وانتماءه إلى فضاء هُوياتي أرحب، والخوف من الظلام الأصولي الذي اغتال صديقه وبدأ يطارده في أحلامه، وخيبته من جوليا التي كانت تصرح له بحبها، فيما هي تعجل موته...ومراد فوق كل ذلك، يقضّ مضجعه «الشعور بالذنب» لأنه لم يكن إلى جانب خولة حين داهمها الموت، ولأنه لم يستطع أن يفعل شيئا ليحمي صديقه مصطفى من عنف الأصوليين. إلا أن ما يضفي قيمة جمالية على رواية «نوميديا»، هو ذلك الفضاء الطبيعي وسط جبال الأطلس المغربية، وتلك الطقوس والعناصر الأسطورية المرافقة لحياة الأمازيغيين في قرية إغرم؛ وتلك الأنفاس الرومانسية التي ترفع الأحداث الروائية إلى سماوات المستحيل. ولعل هذا المناخ يقترب من التوصيف الذي سجلتْه جوليا في مسودّتها عن مراد وعوالمه :»عشقتُه لأنني مذ عرفته أحسستُ أنه رجل فارٌّ من بين ضفتي كتاب. كانت تصرفاته وطباعه وانفعالاته وكأنها تحاكي عباراتِ روايةٍ مّا. كل ما فيه كان يحرض على ارتكاب جريمة كتابة؛ لذلك كنت معه دائمة الدهشة...» ص 422. تجدر الإشارة أخيرا، إلى أن رواية طارق بكاري رواية رائدة في مجال استثمار الفضاء الأمازيغي بالمغرب استثمارا جماليا، من خلال رواية تمتلك مقومات الكتابة الحداثية، وتتوفر على رؤية عميقة تتصل بإشكالية الهوية في المغرب. أقول هذا وأنا أعلم أن كاتبا مغربيا آخر هو محمد الأحسايني كان قد نشر رواية «المغتربون» (دار النشر المغربية، 1974)، وظف فيها الفضاء الأمازيغي، لكن الرواية المغربية آنذاك لم تكن قد استكملت بعد الأدوات الفنية ورحابة الرؤية...وعلمتُ مؤخرا أن هناك ثلاثين رواية مغربية كُتبتْ باللغة الأمازيغية ولم تُترجم بعد إلى العربية.