االأستاذ الباحث أمين السعيد من مواليد 1987 بوادي زم، من بين الشباب المغربي الناشط و الطموح، والفاعل في إغناء الحركة الفكرية بالجامعة المغربية، تخصص في الأبحاث الدستورية من خلال بحث دكتوراه في موضوع» توازن السلطات في النظام الدستوري لسنة 2011 « وكذا ماجستير في موضوع «السلطة التقديرية لقاضي الموضوع في تقدير التعويض» شعبة القانون المدني بجامعة محمد الخامس-الرباط،كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية اكدال- الرباط، فضلا على أنه حاصل على شهادة الماستر في القانون العام والعلوم السياسية، تخصص القانون الدستوري بميزة حسن, ثم شهادتين في الاجازة إحداهما في القانون العام والأخرى في القانون الخاص من نفس الجامعة، عضو المكتب التنفيذي لمنتدى كفاءات من أجل المغرب، من نشطاء الحركة الطلابية, وقد ساهم في تنظيم أنشطة اشعاعية وفكرية بالجامعة, كما شارك في عدة ندوات وأنشطة فكرية بالعديد من مدن المغرب... اشتغل ضمن الفريق المساعد للجنة الاستشارية لوضع الدستور بالمغرب، المسؤول عن مضمون الدستور باللغة العربية وساهم في إعداد مسودة مشروع قانون المجلس الأعلى للشباب الذي قدمته وزارة الشباب والرياضة، هو أول طالب جامعي أصدر كتابا عبارة عن بحث ميداني تخصص في المعالجة الدستورية لمؤسسة رئيس الحكومة في دستور 2011 وهو أو مؤلف يحلل عبر مقارنات وظيفة مستجدات رئيس الحكومة دستوريا... { لقد صدر لكم مؤخرا كتاب حول مؤسسة رئيس الحكومة في الدستور المغربي لسنة 2011، ممكن أن تحدثنا ولو بإيجاز عن أهم الصلاحيات التي أصبح يتمتع بها رئيس الحكومة, والتي كانت غائبة عند الوزير الأول في الحكومات السابقة؟ بداية لابد من الإشارة إلى أن كتاب مؤسسة رئيس الحكومة في الدستور المغربي لسنة 2011، هو في الأصل امتداد لبحث الماستر في القانون العام والعلوم السياسية تحت إشراف وتأطير الأستاذة الدكتورة أمينة المسعودي، واستغل هذه الفرصة لأجدد شكري لها عن التوجيهات والملاحظات التي سبق وأن أبدتها طيلة مسار هذا البحث... فيما يخص صلاحيات رئيس الحكومة في الوثيقة الدستورية ل 29 يوليوز 2011، فيمكن حصر أهمها فيما يلي: لقد أضحى رئيس الحكومة يتمتع باستقلالية نسبية بالمقارنة مع الوزير الأول، لكون رئيس الحكومة أصبح يتوفر على شرعية دستورية مستمدة من الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، فطبقا للفصل 47 من دستور 2011 أصبح الملك ملزما بتعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لنتائج انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها، وهذا ما يشكل تطورا لمؤسسة رئيس الحكومة، بالمقارنة مع ما كان عليه الوزير الأول في الدساتير الخمسة الأولى (دستور 14 دجنبر 1962، دستور 31 يوليوز 1970، دستور 10 مارس 1972، دستور 9 أكتوبر 1992، دستور 7 أكتوبر 1996)، حيث نجد أن الملك (استنادا على الفصل 24 من الدساتير السابقة) كان يتوفر على حرية كبيرة في اختيار الوزير الأول. وفي نفس السياق، تظهر استقلالية رئيس الحكومة في كون الملك لا يتوفر على سلطة تقديرية مطلقة فيما يخص إعفاء رئيس الحكومة، إلا بناء على استقالة هذا الأخير، ففي هذه الحالة يكون رئيس الحكومة هو الراغب في الاستقالة لسبب من الأسباب (في حالة عدم حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب، أو بمناسبة طرح ملتمس الرقابة ضدها، أو في حالات أخرى لا ينص عليها الدستور حالة تعذر حصول رئيس الحكومة على الأغلبية الحكومية أو في حالة وفاة رئيس الحكومة أو في حالة أزمة سياسية بين رئيس الحكومة والملك). وتجدر الإشارة في هذا الإطار، إلى أن النظام الدستوري المغربي أصبح يقوم على ثنائية السلطة التنفيذية، مما جعل رئيس الحكومة (من الناحية الدستورية) مشارك فعلي في تشكيل الحكومة وفي إعفائها، فعلى مستوى تشكيل الحكومة، كانت دساتير 1992 و1996 تنص على أن الوزير الأول يقترح على الملك تعيين أعضاء الحكومة، مما يجعل من الناحية العملية سلطة الوزير الأول ضعيفة في هذا المضمار، لكن في المقابل حافظ دستور 2011 على سلطة اقتراح رئيس الحكومة لأعضاء الحكومة على الملك. ومن المفروض أن يكون هناك توافق بين رئيس الحكومة والملك على تشكيل أعضاء الحكومة، لكون رئيس الحكومة يمثل شخصية سياسية للحزب المتصدر، أما الملك باعتباره رئيسا للدولة فيتوفر على سلطة الموافقة أو الرفض من داخل لائحة الاقتراحات التي قدمها رئيس الحكومة، وفي حالة إذا تبين لرئيس الحكومة أن الملك عين أعضاء الحكومة من خارج الاقتراحات التي قدمها رئيس الحكومة، فإن هذا الأخير يمكن له (من الناحية الدستورية) أن يرفض التوقيع بالعطف على ظهير تعيين أعضاء الحكومة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن لرئيس الحكومة باعتباره قائدا للتحالف الحكومي أن يوجه أغلبيته وخاصة حزبه داخل مجلس النواب بالتصويت - إما بالموافقة أو الرفض على البرنامج الحكومي- وبالتالي، فإن رئيس الحكومة يتوجب عليه أن يفتح نقاشا مع الملك وأن يتوافقا استنادا على الدستور وأن يتم تشكيل الحكومة بناء على مقاربة تشاركية تجمع بين سلطة رئيس الحكومة الذي يملك سلطة الاقتراح وسلطة التوقيع بالعطف وبين الملك الذي يملك سلطة قبول أو رفض اقتراحات رئيس الحكومة. وفيما يخص إعفاء أعضاء الحكومة، يلاحظ أنه لأول مرة أن النظام الدستوري المغربي أصبح يقوم على ثنائية السلطة التنفيذية (بالرغم من عدم توازنها)، حيث إن الملك يقتسم سلطة إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة مع رئيس الحكومة بشكل شبه أفقي، مما يخول لرئيس الحكومة حق إبداء الرأي، حينما يريد الملك بمبادرة منه ان يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم، ثم إن رئيس الحكومة أصبح له حق اقتراح إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة. الجديد في صلاحيات رئيس الحكومة يتجلى في أن الهندسة الدستورية لسنة 2011، قامت بتشطير السلطة التنفيذية وتوزيعها بين الملك ورئيس الحكومة، فلأول مرة نجد أن الباب الخامس معنون بالسلطة التنفيذية, بعد أن كان في دستور 1996 معنونا بالحكومة، وينص الفصل 89 من الباب الخامس بأن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية، وتعمل الحكومة تحت سلطة رئيسها، وينص الفصل 87 بأن الحكومة تتألف من رئيس الحكومة والوزراء، ويمكن أن تضم كتابا للدولة، ولأول مرة أصبحت تمارس الحكومة أعمالها بالإضافة إلى الدستور الاستناد إلى قانون تنظيمي يتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها (القانون التنظيمي رقم 065.13 الصادر بالجريدة الرسمية في 2 أبريل 2015). علاوة على ما سبق، أصبح رئيس الحكومة يشارك بشكل رئيسي إلى جانب الملك في سلطة التعيين في المناصب العليا استنادا على القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا تطبيقا لأحكام الفصلين 49 و 92 من الدستور، والذي تم تعديله من خلال قانون تنظيمي رقم 12.14)، وتعزز ذلك من خلال دسترة المجلس الحكومي الذي يرأسه رئيس الحكومة. زيادة إلى ما سبق، استرجع رئيس الحكومة السلطة التأسيسية الفرعية التي افتقدتها منذ دستور 31 مارس 1970، حيث أضحى رئيس الحكومة يتوفر على حق مراجعة الدستور، بالإضافة إلى ذلك أصبح الدستور ينص على عضوية رئيس الحكومة في تركيبة المجلس الأعلى للأمن، كما يمكن للملك أن يفوض لرئيس الحكومة رئاسة اجتماع لهذا المجلس، على أساس جدول أعمال، وهو نفس الأمر ينطبق على المجلس الوزاري. كما أن رئيس الحكومة يتوفر على حق العضوية في مجلس الوصاية ويتوفر على حق إحالة الالتزامات الدولية على المحكمة الدستورية. قوة رئيس الحكومة تبرز من خلال سلطته في حل مجلس النواب بمرسوم يتخذ في المجلس الوزاري بعد استشارة الملك ورئيس مجلس النواب. وتأسيسا على ما سبق، يمكن أن نختم في هذا الإطار، بخلاصة أولية قابلة للنقاش مفادها أن صلاحيات رئيس الحكومة شهدت تعزيزا وتطويرا بالمقارنة مع صلاحيات الوزير الأول، يشهد على ذلك أن دستور 29 يوليوز 2011 خصص 29 فصلا لمؤسسة رئيس الحكومة، في حين نجد دستور 7 أكتوبر 1996 قد ذكر مؤسسة الوزير الأول 13 فصلا فقط. { من خلال الممارسة السياسية والوضع القانوني لمؤسسة رئيس الحكومة، هل يبدو لكم أن عبد الإله بنكيران بعد مرور ثلاث سنوات ونصف على تعيينه, قد استفاد بشكل إيجابي من كل الصلاحيات التي حددها له الدستور الجديد؟. كما هو معلوم,فإن الولاية الحالية هي ولاية تأسيسية بامتياز، والحديث عن الاستفادة أمر صعب، لكون هذه المدة قصيرة جدا، ولا تسعف الباحث بأن يصدر خلاصات علمية، ومن ثم فإنه يمكن تأجيل الجواب عن هذا السؤال إلى ما بعد الولاية الحالية وإعادة صياغته على الشكل التالي، هل استفادت المؤسسات الدستورية وخاصة الملك والحكومة والبرلمان والمجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) من هذه الولاية التأسيسية، التي تشكل الجزء الثاني لدستور 2011. غير أن ما يسترعي الانتباه في هذا الصدد، هو أن رئيس الحكومة لم يستوعب التحول الذي عرفته شخصيته وحزبه، حيث انتقل من أمين عام حزب معارض ذو مرجعية دينية راكم تجربة على مستوى المعارضة المنبرية المبنية على شعارات ممزوجة بخطاب ديني وأخلاقي إلى رئيس حكومة ائتلافية تشتغل وفق دستور جديد يقوم على ثنائية السلطة التنفيذية ويقف في مرحلة وسطى بين الملكية التنفيذية والملكية البرلمانية. وهنا أعود بسرعة إلى اللقاء الذي استضاف عبد الإله بنكيران في برنامج «بلا حدود» الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية، حيث صرح في لقائه المؤرخ في 13 ماي 2015 برسائل موجهة للخارج لا تعكس روح دستور 2011 وتبتعد عن التأويل الديمقراطي لفلسفة دستور 2011 ودينامية الإصلاحات الدستورية، وجاء في حديثه ما يلي: «»سامحني لأقول لك لما تحملت المسؤولية اتضح لي أكثر ما يجب أن تكون الأولويات بالنسبة لي كمسؤول عن الحكومة وكرئيس لها، كما لا يخفى عليك، وحسب الدستور المغربي، فرئيس الحكومة له صلاحيات ليست مطلقة، الذي يحكم المغرب هو جلالة الملك، هذه هي الحقيقة وهذا هو الدستور، لكن لرئيس الحكومة صلاحيات في حدود هذه المرجعيات الأولى في الحكم, لكي تكون الأمور واضحة ما يظن الناس( ما يعتقده بعض الناس أن رئيس الحكومة في المغرب لديه كل الصلاحيات) هو اعتقاد غير صحيح والدستور لا يقول هذا ... الملك رئيس السلطة القضائية ورئيس القوات المسلحة الملكية ورئيس كل شيء ورئيس المجلس الوزاري... إذن الذي يحكم في المغرب هو جلالة الملك، وأنا كرئيس الحكومة، أنا اخترت أن تكون مساهمتي في تسيير شؤون البلد في إطار التفاهم والتعاون مع جلالة الملك...». وعلى العموم، تصريحات رئيس الحكومة تقتل مسالك دستور 2011 التي عملت على جعل رئيس الحكومة جزءا أساسيا في السلطة التنفيذية إلى جانب الملك. { هناك نقاش حول استغناء رئيس الحكومة عن بعض صلاحياته الدستورية التي أهداها له الدستور الجديد, هل الأمر يتعلق بأول تجربة يتقاسم فيها الملك بعض سلطاته مع رئيس الحكومة، حيث لم يستوعب فيها هذا الأخير صلاحياته الدستورية؟ أم أن الأمر يتعلق بأسباب أخرى قد تكون لها علاقة مثلا بعدم حصول حزب رئيس الحكومة على أغلبية مريحة تمكنه من الاستقلالية في عدة قرارات ؟ لقد جاء دستور 29 يوليوز 2011 بالعديد من المستجدات خاصة في الشق المتعلق بصلاحيات رئيس الحكومة، وهذه الترسانة الدستورية والقانونية تحتاج وتتطلب فهما عميقا ودقيقا، من أجل أجرأتها وتفعيلها بالاعتماد على التأويل الذي يسير في الاتجاه الديمقراطي، إلا أن عبد الإله بنكيران كثيرا ما يقدم إشارات لا تعكس النص الدستوري، حيث نلاحظ هيمنة التنازل الإرادي لرئيس الحكومة عن بعض صلاحياته الدستورية، خاصة إبان إعداد مسودة مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، وعدم قدرة رئيس الحكومة على فرض اقتراحاته خلال تشكيل الحكومة وأفرغ روح دستور 2011 الذي يربط بين الحكومة وصناديق الاقتراع، ولوحظ غياب بصمة رئيس الحكومة على مستوى تدبير المجال الأمني والخارجي، وضعف رئيس الحكومة وعدم قدرته على ضبط التضامن الحكومي (حالة الاختلاف بين وزير الأوقاف ووزير الصحة ووزير العدل حول مسألة الإجهاض) . وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران قتل روح الممارسة البرلمانية للنص الدستوري، فدائما يصرح على أنه «مجرد» رئيس حكومة، كأنه يقلل من قيمة صلاحيات رئيس الحكومة، وأحيانا يصرح (ربما بدون وعي) ويقول أن مستقبلي بيد الملك، بالرغم من أن الملك لا يمكن له إعفاء رئيس الحكومة، ويمكن أن نذكر بالتصريح الذي قدمه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران للتلفزة الأردنية في مارس 2013، حيث قال أن الإطار الذي يحدد علاقة الملك برئيس الحكومة، هو الإطار التعاوني التوافقي، بمعنى أنه يستبعد النص الدستوري الذي يشكل ميثاقا وتعاقدا دستوريا وسياسيا، مما يعني تهميش الدستور واللجوء في كثير من الحالات إلى خطاب «النص لا يهم» (حسب تعبير الأستاذ حسن طارق). تنازل رئيس الحكومة عن جزء من صلاحياته يمكن ربطه بالحدود النفسية لشخصية رئيس الحكومة، حيث في بعض الأحيان يبرز هاجس لدى رئيس الحكومة من أن أي ممارسة لصلاحياته الدستورية من شأنها التقليص والمساس بمجال الملك، حيث يعتبر رئيس الحكومة أن بناء الثقة مع المؤسسة الملكية منطلق في عمله وأدواره، وهي فكرة غير صحيحة لأن ممارسة رئيس الحكومة لصلاحياته والترافع عنها وتطويرها من زاوية الممارسة لا يشكل أي مساس بصلاحية المؤسسة الملكية، كما أن هذه الأخيرة ليست في مصلحتها أن يكون رئيس الحكومة ضعيفا، لكون ضعف رئيس الحكومة، يعد مؤشرا على هزالة الإصلاحات الدستورية لسنة 2011، بالإضافة إلى ذلك فخطاب التاسع من مارس 2011، دعا إلى تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، ونص خطاب 17 يونيو 2011 على الانبثاق الديمقراطي للسلطة التنفيذية، بقيادة رئيس الحكومة، وختم خطاب 20 غشت 2011 إلى الحرص على التفعيل الأمثل لمقتضيات الدستور الجديد، لذلك فرئيس الحكومة ينظر إلى بعض معارضيه الذين يطالبونه بتفعيل صلاحياته الدستورية والقانونية إما باعتبارهم يدفعونه ويسقطونه في الصراع مع الملك أو يعتبرهم يقاومون الإصلاح. { أهم ما نص عليه دستور 2011 في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور أن النظام الدستوري للمملكة يقوم «على أساس الفصل المرن للسلط مع توازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية وعلى مبدأ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة»، هل نعيش بشكل صريح مبدأ فصل السلط بعد أن كان مطلبا جماهيريا؟ لعله من المفيد هنا أن نشير إلى كون الفصل الأول من دستور 29 يوليوز 2011 يحدد أسس ومرتكزات النظام الدستوري المغربي، ومن بين هذه الأسس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، ومبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة. وعملا بهذا المنحى، وبالعودة إلى حقل الأنظمة الدستورية المقارنة, نجد أن الذين أسسوا للنظام الدستوري الأمريكي الذي هو أهم مثل للنظام الرئاسي الذي تقرر في الولاياتالمتحدةالأمريكية بمقتضى دستور وضع في سنة 1787 وصدر في سنة 1789، حيث يقوم هذا الأخير على مبدأ الفصل الصارم بين السلطات، غير أن المقصود بالفصل بين السلطات حسب ما انتهى مونتسكيو في كتابه روح القوانين يتجلى في اختزال فصل السلط من خلال نقطتين، التخصص مع التعاون بين السلطات، بينما ترتبط النقطة الثانية بالرقابة المتبادلة بين هذه السلطات، كما أن مقاصد وروح دستور 2011 من الفصل بين السلطات تتجلى في فلسفة عدم تركيز السلطات في مؤسسة واحدة. وهكذا يتضح أن فصل السلط في دستور 2011 يتمظهر في كون اختصاصات المؤسسة الملكية أضحت مؤطرة بنصوص الدستور, وهناك تحديد بين سلط الملك بوصفه أميرا للمؤمنين وصلاحيات الملك باعتباره رئيسا للدولة، كما أن الملك لم يبق يمارس السلطة التشريعية في حالة حل البرلمان أو في حالة الاستثناء أو في حالة المرحلة الانتقالية، وهو ما شدد عليه الملك في خطاب 12 أكتوبر 2012 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية التاسعة، حيث قال أن البرلمان أضحى مصدرا وحيدا للتشريع... وفي هذا الإطار، تقوم الحكومة بممارسة صلاحيات تدبير السياسات العمومية وخاصة القطاعية، مقابل دور البرلمان في ممارسة السلطة التشريعية ومراقبة وتقييم السياسات العمومية. يظهر أيضا فصل السلط في الشق المتعلق بالديمقراطية المواطنة والتشاركية، على المستوى التشريعي، حيث خصص دستور 2011 مجالا للديمقراطية التشاركية من خلال حق تقديم ملتمسات في مجال التشريع طبقا للفصل 14 من الدستور (مشروع القانون التنظيمي رقم 64.14) وكذلك حق تقديم عرائض إلى السلطات العمومية استنادا للفصل 15 من الدستور (مشروع القانون التنظيمي رقم 14-44)، حيث أن هناك فصلا وتعاونا بين سلطات الديمقراطية التشاركية والديمقراطية التمثيلية التي نص عليها الدستور في الباب الرابع ولكل حسب مجاله. { ألا ترون أن عجز مؤسسة رئيس الحكومة عن اتخاذ قرار يتعلق بمحاسبة المسؤولين المتورطين في قضايا مثلا تتعلق بجرائم مالية كبدت الدولة خسائر مهمة، يمكن أن يفقد المؤسسة المصداقية التامة، وقد يساهم ذلك في توسيع دائرة العزوف السياسي، لأن المواطن صوت من أجل محاربة الفساد وليس لأجل العفو عن المفسدين؟ { هذا السؤال مركب وسأقسمه إلى أربعة مستويات : المستوى الأول: يتضح أن رئيس الحكومة في أوج الحملة الانتخابية ل 25 نونبر 2011 جعل من شعار محاربة الفساد عنوانا رئيسيا للبرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، ومفهوم محاربة الفساد هو مفهوم مطاطي، وله إيحاءات دينية وأخلاقية، كما أن الفساد متعدد, حيث هناك الفساد المالي والفساد الانتخابي والفساد الأخلاقي...، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالبرنامج الحكومي لحكومة عبد الإله بنكيران (المؤرخ في يناير 2012، جعل من محاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة أحد أولياته الحكومية، وتم التأكيد على تفعيل مبدأ المسؤولية والمحاسبة في ميثاق الأغلبية الأول (المؤرخ في 16 دجنبر 2011 وميثاق الأغلبية الثاني (المؤرخ في 20 مارس 2014) لذلك فالنقاش حول محاربة الفساد والاندفاع السريع لخطابات رئيس الحكومة قبل وبعد انتخابات 25 نونبر 2011، وسع من حجم الانتظارات، إذ لوحظ بعد تعيين رئيس الحكومة أن هناك اهتماما من كل القوى المجتمعية بأدوار رئيس الحكومة. المستوى الثاني : يتجلى في أنه لا يمكن تحميل محاربة الفساد لرئيس الحكومة وحده، لأن الأمر يرتبط بالعديد من المتدخلين (سواء المؤسسة الملكية، برلمان، السلطة القضائية، أحزاب، نقابات مجتمع مدني وهيئات حماية الحقوق والحريات وهيئات الحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة، والديمقراطية التشاركية)، إلا أن هذا لا يمنع رئيس الحكومة من ترجمة خطاباته في شكل سياسات عمومية تعكس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والعمل على إصدار مشاريع قوانين ومراسيم تنظيمية, تقوم بتطوير وتجويد المنظومة القانونية خاصة منها المالية والاقتصادية ومواكبتها مع الدستور الجديد، ومع الالتزامات الدولية التي صادق عليها المغرب. المستوى الثالث : هناك نصوص قانونية أو مراسيم محدودة في مجال محاربة الفساد، مثل إصدار المرسوم المنظم للصفقات في مارس 2013 وهناك تماطل من الحكومة ورئيسها في إصدار العديد من المراسيم التطبيقية المهمة، ومثال ذلك التأخير الذي طال إصدار المرسوم التطبيقي للقانون رقم 01.08 المتعلق باستغلال المقالع الذي تمت المصادقة عليه في سنة 2002، والذي يرمي إلى تعديل القانون الصادر في سنة 1914، وهذا التأخير كانت له انعكاسات مالية واقتصادية لكونه مرتبط بتدبير ثروة وطنية كبيرة. المستوى الرابع : لتجاوز الإشكالات المرتبطة بمحاربة الفساد وتماشيا مع فلسفة دستور 2011 ولترجمة الاتفاقية التي انخرط فيها المغرب مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في باريس بتاريخ 15 يونيو 2015، يتوجب على رئيس الحكومة أن يعمل على تأسيس لجنة تابعة لرئيس الحكومة تتمتع باستقلالية وتشتغل بمقاربة تكاملية مع مختلف القطاعات الحكومية وهيئات الحكامة الجيدة والتقنين لبلورة سياسة عمومية ملموسة وناجعة تهدف إلى تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والعمل على تطوير وتجويد اختصاصات الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، فضلا عن ذلك يجب على رئيس الحكومة أن لا يبقى مشغولا بالرد اليومي على خصومه وباقي الفرقاء، وتجاوز الخطابات والعبارات غير المؤسسة دستوريا وقانونيا (العفاريت- التماسيح، عفا الله عما سلف...) { من حيث التجربة الدستورية وربطها بصلاحيات رئيس الحكومة، ما هي التجربة الأقرب إلى المغرب, وهل تعتبر التجربة المغربية فعلا استثناء في الوطن العربي؟ هناك تمايزات بين التجارب الدستورية المقارنة، وأن لكل نظام سياسي خصوصياته التاريخية ومميزاته السياسية واستثناءاته على مستوى الممارسة. وداخل هذا الاختلاف، يمكن القول أن سياق دستور 29 يوليوز 2011 جاء نتيجة عقلانية المؤسسة الملكية التي بادرت بالإسراع إلى طرح ملف الإصلاح الدستوري في وقت لوح فيه رؤساء الدول العربية بنظرية المؤامرة أو بتخوين المطالب الشعبية، ومن جهة أخرى، إلى جانب واقعية المؤسسة الملكية، هناك نضج لمطالب الشارع المغربي، حيث أن سقف حركة 20 فبراير تحدد في أفق الملكية البرلمانية بمعنى الإصلاح من الداخل وبواسطة المؤسسات. وداخل هذا الاختلاف، يمكن القول أن سياق دستور 29 يوليوز 2011 جاء نتيجة عقلانية المؤسسة الملكية التي بادرت بالإسراع إلى طرح ملف الإصلاح الدستوري في وقت لوح فيه رؤساء الدول العربية بنظرية المؤامرة أو بتخوين المطالب الشعبية، ومن جهة أخرى، إلى جانب واقعية المؤسسة الملكية، هناك نضج لمطالب الشارع المغربي، حيث أن سقف حركة 20 فبراير تحدد في أفق الملكية البرلمانية بمعنى الإصلاح من الداخل وبواسطة المؤسسات. ورش الإصلاح الدستوري برهن على أن المؤسسة الملكية قادرة على مواكبة التحولات ولا تتعارض مع التجديد والتحديث، كما أن إسناد رئاسة الحكومة في التجربة الأولى لما بعد دستور 29 يوليوز 2011، في إسناد مسؤولية رئيس الحكومة إلى شخصية سياسية تنتمي إلى حزب معارض ذي مرجعية إسلامية، أشر على إشعاع التجربة المغربية في الخارج، من خلال السماح «للتيار الإسلامي الوسطي» بالمشاركة في ممارسة الحكم من داخل الحكومة. وهذا ما لفت انتباه عدد كبير من المهتمين والمتتبعين، وجعل النظام السياسي الأردني والبحريني يتأثرا بالإصلاحات الدستورية في المغرب، بل أكثر من ذلك، دعوة وطلب مجلس التعاون الخليجي بضرورة انضمام المغرب يعبر على قدرة استيعاب النظام السياسي المغربي لمخاطر مرحلة ما سمي إعلاميا بانزلاقات «الربيع العربي»، ويمكن أن نضيف مثلا واضحا في هذا السياق، وهو أن المجلس الوطني التأسيسي التونسي (البرلمان) الذي أسندت له مهمة صياغة وكتابة الدستور التونسي لسنة 2014، قد نهل واقتبس العديد من أحكام ومقتضيات الدستور التونسي من الدستور المغربي، وهنا يمكن العودة إلى الباب الثاني من الدستور التونسي (من الفصول 20 إلى الفصول 48). عندما نطالع الوثائق الدستورية للأنظمة الدستورية العربية يمكن القول كأصل عام وبموضوعية أن النموذج اللبناني والمغربي والتونسي يستجيبان لدساتير توازن السلط وصك الحقوق. ومنذ سنة 2011، يمكن الخروج بخلاصة طبعا قابلة لدحض أن النموذج التونسي والمغربي يشكلان نماذج دستورية عربية قادرة على مسايرة المطالب الشعبية، حيث برهن النموذج التونسي، على أن التوافقات السياسية ساعدت التحالف الحكومي على تخطي العديد من العوائق السياسية، وذلك من خلال لجوء النخب التونسية إلى ما سمي بمبادرة الحوار الوطني، وهذا ما يذكرنا بما وقع في البرازيل سنة 1985، حيث لم يشارك الجيش في النقاشات الدستورية، وأجريت انتخابات في نوفمبر 1986 أفرزت الجمعية الدستورية التي كتبت دستورا وضع البرازيل في سكة قطار الاقتصاديات الناهضة والديمقراطيات الحديثة. وأظهرت التجربة المغربية عقلانية المؤسسة الملكية من خلال خطاب التاسع من مارس 2011، وهذا ما جعل التجربة المغربية تقترب من النموذج الإسباني، حيث قام الملك خوان كارلوس الأول في أواخر سنة 1975 بتعيين أدلوف سواريز رئيسا للحكومة، حيث اقترح هذا الأخير إصلاحا سياسيا، ولقد قام الملك في النموذج الإسباني بدور فاعل في إنجاح عملية الانتقال إلى الديمقراطية وتأمين موافقة الموالين للدكتاتور والقوات المسلحة على نتائج الانتقال إلى الديمقراطية، حيث مثل دستور إسبانيا لسنة 1978 دفعة جوهرية في مجال عملية الانتقال. كما أن الحالة المصرية وفشلها في صياغة دستور لما بعد حكم مبارك، كان نتيجة فشل النخب في تدبير المرحلة الانتقالية وعدم تقبلهم تقديم تنازلات متبادلة للتعايش والتوافق. وفي الختام، يبقى سؤال الإصلاحات الدستورية في الوطن العربي مفتوحا خاصة في النموذج التونسي والتجربة المغربية والحالة المصرية، والرهان معلق على نضح الممارسة والتطبيق الصحيح والسليم للنصوص الدستوري، ولاشك أن السنوات التي تلي وضع دساتير «الربيع» رهينة بالفكرة التأسيسية بامتياز، فلا أحد ينكر أن الرهان الرئيسي مازال معلقا على الأجزاء الثانية من الدساتير العربية، جزء الأعراف الدستورية الجديدة؛ جزء القوانين التنظيمية (الأساسية) المكملة للدستور؛ جزء الممارسة السياسية؛ جزء تمثل النخب لهذه الدساتير؛ جزء فهم المجتمع المدني والمواطن للثقافة الدستورية الجديدة، جزء الأقلام الدستورية التي تتدافع من أجل التأويل والتأويل المضاد لنصوص الدستور...