إنّنا أمام علامةٍ فارقةٍ في الثقافة والفكر العربِيَيْن، وهذا بائنٌ في مُنْجَزه المتعدد. مُنْجَزٌ فكريٌّ، وآخرُ مُسائِلٌ للراهن العربي والعالمي، وآخرُ أدبيٌّ وإبداعيٌّ. فالنظر إلى هذه الأبعاد الثلاثة يلزم من متتبعه قراءة 46 كتابا إلى حدود الآن، والبقية قادمةٌ لا محالة. لذا حاولنا التحاور معه في هذه المجالات، إلا أننا حصرنا الحوار الأول في البُعد الأخير من مُنجزه، عسانا نُتابع الحوار معه في السنة القادمة، وكل ذلك من أجل تقريبٍ عامٍّ لهذه الشخصية المائزةِ في ثقافتنا المغربية والعربية للقراء. لقد حاولنا خلال سِتِّ لقاءات على مَدَى شهرين الحوار معه انطلاقاً من أسئلةٍ حول الكتابة الروائية، وحول الحرب في لبنان، والأفق السحري في نصيه «رائحة المكان» و»ليليات»، إضافةً إلى النوافذ التي فتحها لنا على ضفاف شخصيته، والظلال التي تحيط بها من قبيل الشعر، الغناء، الموسيقا، بيروت، وعلاقته بشخصيات سياسية وفكريةٍ تواصل معها بطريقة أو أخرى... وبالجملة فإن الإنصاتَ إلى عبد الإله بلقزيز يرفعك إلى مساءلة الجوانية فِيكَ/فينا: كما لو كان الإنصاتُ إليه يحملك إلى آخَرِكَ. هنا تكمن المتعة الفائقة، تستدرجك نحو عوالمَ أرحبَ، تكون فيها الكتابة التزاماً إن لم نقل الشرط الوجودي للكائن. لكن كيف ورطناه في هذا الحوار؟ علماً أنَّه لم يعطِ أيَّ حوار منذ ما يزيد عن عشرين سنةً باستثناء ما قدَّمته القنوات العربية كالمنار، والميادين.. لا أقول إنِّي كنت محظوظاً في تهريبِ صرامَتِه العلميّة إلى القراء. بل أقول له شكراً لأنّه فتح لنا نوافذه، مثلما أشكر الصديق محمد رزيق الذي ساعدني في تفريغ هذا الحوار. o يعني تقصدون أن المكان روح؟ n طبعا المكان هو اسم حركي للإنسان، المكان اسم حركي للإنسان؛ حينما نقول المكان نقول الإنسان. أنا حينما أتحدث عن الحي الذي ولدت فيه؛ حي أبي العباس السبتي أو الزاوية العباسية، فهذا الحي يشبه أي حي آخر في المغرب، لكن هذا الحي هو الناس بدءاً من أهلي، من الأسرة، ورفاق المدرسة حتى الجيران حتى كل ذلك الفضاء من العلاقات الإنسانية التي عشت في أكنافها. هذا هو الذي يشدني إلى المكان وليس شيئاً آخر. حتى الذاكرة البصرية؛ حين ترى المكان يَقترن عندك بذاكرة أخرى باطنة، ذاكرة أخرى لا تنتبه إلى المرئي وإنما تنْشدُّ إلى اللامرئي، إلى هذا الفضاء الفسيح من الأشياء الصغيرة التي تكبر معك وتذخر أو تصبح في مقام الذخيرة في مخيالك، وهي التي تعيد وصلك بذلك المكان وتعيد إليك دفء العلاقة به كما كنت تعيشه في الماضي. فالمكان المجرد من كل هذه العلاقات لا يعني شيئاً: لا في الذاكرة ولا في الأدب والفن. o بيروت تنزلق كلما قبضنا عليها هل استطعتم طيلة مقامكم بها القبض عليها أم أنها بلغة محمود درويش الخيمة الأخيرة؟ n بيروت لم أكتب عنها حتى الآن كثيراً، كتبت عنها في مناسبات متفرقة، لكن كتبت عن الأحداث في بيروت. وثمة فارق بين أن أكتب عن الأحداث في بيروت، مثل حرب «عناقيد الغضب» سنة 1996، أو العدوان الصهيوني على لبنان سنة 2006، أو في يومياتي طوال فترات إقامتي المتفرقة فيها، والتي تتجاوز – إن جمعتُها إلى بعضها - ثمان سنوات. لكن الكتابة عن المدينة شيء آخر. حينما سأكتب عن بيروت سوف أكتب عن تاريخ المدينة، وعن بيروت كما هي في مخيلتي، كما هي في وجداني، وحينها سأطفق باحثاً عن هذه البيروت في كل تفاصيلها؛ بحاراتها وأحيائها وعالمها التفصيلي، ولذلك لا أستطيع أن أقول إن لدي ما أقوله الآن عن بيروت في هذا الحوار. o أنا أقصد بيروت كامرأة تتمنع عن ... n أنا لم أتحرش بها حتى أعرف. o لقد عشتم تجربة الحرب في بيروت سنة 2006 وكتبتم عن هذه التجربة بحرقة؛ هل حبكم لها هو الدافع الرئيس لمقاومة الموت حتى وإن كنتم تحدسون ذلك؟ n حبي لها ولما ترمز إليه، حينما كان مئات الآلاف من اللبنانيين ينزحون من بيروت ومن لبنان نحو سورية، وعشرات الآلاف من العرب المقيمين في لبنان يصطفون في طوابير لا بداية لها ولا نهاية أمام سفارات بلدانهم، لكي يجدوا الوسيلة لكي يخرجوا من لبنان هروبا من الحرب والقصف، وكان ذلك في الأسبوع الأول للحرب قبل أن يُقْفَلَ المطار والموانئ والحدود البرية، كنت أبكي؛ لم أرض أن أرى مشهد لبنانيين يغادرون وطنهم لأنه يُعتدى عليه، ولم أرض أن أشاهد عرباً يهربون من بيروت لأنه يُعتدى عليها، فكان إصراري على أن أبقى في بيروت وأن يقع لي ما يمكن أن يقع لأي لبناني أو فلسطيني مقيم في لبنان، وقلت في يومياتي التي نشرتها في كتاب («حالة الحصار»): أنا لن أخسر شيئاً من بقائي في لبنان، أنا ابن هذه الثقافة (أي المقاومة) التي تخوض هذه المعركة نيابة عن الأمة اليوم. وكنت أشعر أنه من العار أن أتسلل عبر الحدود، وأن ذلك إن حصل سوف ينهيني حياتياً، سوف ينهيني نفسياً، كنت سأموت، وأعتقد أنني فعلاً مُكِّنت من حياة ثانية بعد حرب سنة 2006، وقلت في حينه إنني استفدت في هذه الحرب، بمعنى أنني أجريت حمّاماً نفسياً غسلتُ به أدراني ومشاعر الخيبة التي كانت تنتابني كلما شبت حرب صهيونية على الوطن العربي ولم أكن أنا موجوداً حيث يُعْتَدى على أهلي وشعبي، وخاصة المشاعر التي انتابتني أثناءحصار بيروت سنة 82، حصار بيروت الذي عشته محطماً، أبكي لأني أشعر بالعجز، لا أستطيع أن أفعل شيئاً، لا أستطيع أن أكون مع المقاتلين وأقاتل، أعادت لي حرب «عناقيد الغضب» سنة 1996 ثم حرب 2006، التوازن النفسي وغسلت هذا الشعور باليأس والحبوط الذي كان قد لازمني منذ سنة 1982. o الحديث عن بيروت هو بالضرورة حديث عن السيدة فيروز؛ فحبكم لهذه السيدة قد جعلكم تبحثون في السوق السوداء، مَرَّة، عن بطاقة لحضور حفل من حفلاتها من هنا تبدأ رحلتكم مع الحرب. لكن لماذا هذا الربط المدهش بين فيروز وبيروت؟ n أولا، لا بيروت من دون فيروز؛ ولا لبنان من دون فيروز؛ فيروز هي الرمز الثقافي والفني الذي صنع فكرة لبنان في الوجدان العربي؛ مع صوت السيدة فيروز تكتشف جمال لبنان. لبنان بلد جميل لا شك، ومن أجمل ما يمكن أن يراه المرء، بلد جميل جداً من الناحية الطبيعية، لكن جماله ناقص من دون هذا الصوت الذي يمنحه البهاء المطلق، صوت فيروز صوت غيرُ عادٍ. أنا كنت أقول دائما: هذا صوت نازل من السماء وليس طالعاً من الأرض، ولا يقاس. وهو صوت ملتزم بالرسالة الإنسانية النبيلة والعميقة جداً؛ ليس فقط بالرسالة السياسية والوطنية فحسب، بل بالرسالة الإنسانية العميقة. السيدة فيروز هي نفسها في عز الحرب الأهلية اللبنانية، الكائن الوحيد الذي كان يلتقي عليه اللبنانيون، حيث مزقت الحرب الأوصال والنسيج الاجتماعي برمته ولم يعد ثمة ما يجمع لبنانياً بلبناني سوى صوت فيروز. حتى المقاتلين على الجبهات والخنادق في لحظات وقف إطلاق النار؛ خندق من هنا للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وخندق هناك الجبهة اللبنانية (أعني حزب الكتائب والأحرار الشمعونيين وحراس الأرز وغيرهم)، ما إن تتوقف الحرب، وقف إطلاق النار، حتى يكون هناك اتفاق على اللَّوْذ بالسيدة فيروز؛ تطلق تلك الضفة فيروز وتطلق الضفة الأخرى فيروز. هذا هو الجامع الوحيد الذي كان بين اللبنانيين. محمود درويش كان صادقا حين قال مرة «تُرى كيف كانت ستكون صباحاتنا لو لم تكن فيروز». فعلاً فيروز هدية من السماء، من الطبيعة إلى البشرية. الحادثة التي تحدثت عنها في يوميات الحرب، ليلة العملية التي قام بها مقاتلو المقاومة على الحدود اللبنانية الفلسطينية واختطافهم الجنود الصهاينة، حصلت عشية حفل للسيدة فيروز في بعلبك، في مهرجان بعلبك. الحفل كان سيكون يوم 13 من يوليوز/تموز، والاختطاف والعدوان بدأ مباشرة يوم 12 تموز فألغيت الحفلة، طبعا أنا قاسيت لكي أحصل على البطاقة في السوق السوداء، التي بدأت قبل الحفلة بأسبوعين، إلى أن مكَّنتني صديقة لبنانية من بطاقة.