دمعتان مالحتان سقطتا دون أن أدري، حاولت حبسهما مثلما حاولت حبس انهمار الدمع دفعة واحدة كأني لا أريد الصديق/ القارئ أن ينتبه إلى ذلك. مثلما لم أستطع إعادة جسدي لتوازنه عبر طرد ما ذكرني بذلك، أي عبر تركيز سماعي لصوت صديقي الذي يقرأ لي كتاب ذ.بلقزيز« الحرب الإسرائيلية على لبنان شهادات من قلب الحصار». ما سر ذلك؟ أو ما السبب الذي ورط عينيَّ لتنفجرا دموعا صامتة. هل المسألة راجعة إلى يوميات الحرب كما يصفها الكاتب من بيروت أم لسبب آخر أجدني داخله أمام مراياي، خصوصا في حديثه عن الأصدقاء، الأصدقاء الذين يحبهم- الكاتب- ولم يتصلوا به إلا فيما بعد، كأنهم أضافوا لجحيم الحرب إضافة أخرى. هذا بالضبط ما وقع لي قبل الحرب بثلاثة شهور تقريبا أي حين فقدت - بالمرة- بصري رغم محاولة الطبيب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، في تلك اللحظة لم أجد بجانبي إلا القلة القليلة من الذين أحبهم، وهم لا يتجاوزون من لي علاقة دموية بهم، لكن أين هم الأصدقاء؟ لا أحد- تقريبا-؟ كنت أحاول عبثا إيجاد التبرير لذلك، بين الحين والآخر يتصل بك أحدهم ليقيس قوتك أمام هذا الانتقال الصعب بين لحظة وأخرى، وهكذا حتى نسيت حلاوة الصداقة كما غرستها في حديقة بيتي، ونسيت معها مذاقاتها الحلوة والحريفة مثلما أوصلني هذا النسيان إلى حدود التقريب من حافة العدمية. تلك- إذن- هي أسباب الحزن الذي أعادني إليه عبد الإله بلقزيز وبالضبط في الصفحة 181: « ما معنى أن يكون فلان صديقا، في ما هو لم يكلف نفسه عناء مكالمة وما معنى أن يكون صديقا، إذن، في هذه الحال؟ أو : ما معنى أن لا يجد فلان من أصدقائي طريقة لمخاطبتي في هذه الظروف إلا عبر رسالة إلكترونية وليس عبر الهاتف، فهل يستكثر على صداقتنا ثلاثين درهما، أو: هل لا يقدر قيمة الدفء الإنساني للاتصال الحي عبر الصوت؟ أو : ما معنى أن يكتفي فلان من الأصدقاء بمكالمة واحدة سريعة في حرب طويلة بدأت بثمار المشمش وانتهت بنضوج البلح». هل أضيف لهذه الأسئلة أسئلة أخرى أم أتوقف لأعيد سؤال الحرب والأصدقاء؟ كسؤال ينحفر في الوحدة وقبالة الموت. لم يقل الأستاذ بلقزيز: « الآخرون هم الجحيم» أو « الآخرون إلى الجحيم» لا أدري لماذا انفلت من هذه العبارة السارترية؟ ربما لأن ما جعله كذلك هو الاتصال المستمر لأخواته، كأن الأخوات يحملن مذاق الأمومة. إنهن الوحيدات - في اعتقادي- اللواتي حررنه من الوقوع في هذه العبارة ليأتي فيما بعد الأستاذان سليم رضوان وكمال عبد اللطيف، اللذان أضافا دفئا خاصا في عزلته الصعبة. صحيح أن ثمة أصدقاء آخرين كمارسيل خليفة وبلال الحسن وعلي أومليل يتصلون به بين الفينة والأخرى للاطمئنان عليه، تدخلك هذه الصور إلى دواخلك، كأنها تشحذ فيك إعادة أسئلة الكاتب لتخليصك من الأصدقاء الذين يطيرون حين تصل إلى المعركة. يبدأ الكاتب سيرته في بيروت- صيف 2006- من فيروز، فيروز إذن بوصلة لبنان، بل هي بوصلة كونية، يصل الكاتب إلى بيروت وفيه شيء من فيروز، إنه يحاول مع أصدقائه الحصول على بطاقة الدخول إلى سهرتها. البطائق لم تعد موجودة حتى في السوق السوداء، لكنه سيجدها، ليظل صوت فيروز المغيب- الحاضر في الكتاب كله، كأن فيروز هي الموسيقى المصاحبة للكتابة، إنها الكتابة وقد تحولت صورها في أشكال أخرى، في الأمكنة والأزمنة، في الصور والذكريات، في البيضاء ومراكش، في بيروت والجنوب وفي أمكنة أخرى تطل منها فيروز كما لو كانت صاحبة البيت أو هي حاملة لشرعية لبنان. تدفعني قراءة هذا الكتاب في بعض تفاصيله إلى تذكر كتابات أخرى اشتغلت على نفس الموضوع، موضوعة الحرب في بيروت 1982 كسيرة الشاعر الكبير محمود درويش « ذاكرة النسيان» وبعض قصائده. إنها كتابة تسائل الشقوق والأشلاء وثقوب الحرب مثل تلك الصورة التي خص بها القهوة، وهي من أجمل النصوص- في اعتقادي- عن القهوة لمحمود درويش وبالضبط في صراعه المضني بين شربه القهوة والموت، أي في عملية تحضير القهوة ورصاص طائش يقتنص الضوء، مثلما هي سيجارته. في كتاب محمود درويش تندفع فيروز بقوة كأنها هي وحدة لبنان، فيروز تهدم الطوائف ليكون صوتها صوت كل اللبنانيين وهذا ما تشير إليه أعمال أخرى «بيروت ... بيروت» لصنع الله إبراهيم وروايات إلياس خوري وعلوية صبح وحنان الشيخ وغادة السمان... إلخ. تختلط هذه الأعمال مع هذا العمل الذي اكتشفته مؤخرا (أي بعد خمس سنوات من نشره).. لا لقياس هذا بذاك، بل من حيث تعميق قناعة مازالت تتجذر في داخلي، قناعة تقول إن أهم وأجمل ما كتب في الحرب هي هذه السير الشخصية والأعمال الروائية، ذلك أنني لولا مجموعة من الأعمال الروائية لما فهمت الحرب الأهلية اللبنانية، صحيح أنه ثمة فرق كبير بين 1982 وصيف 2006، ليس من حيث أن الأولى - كما يقول بلقزيز- ليست سوى مزحة أمام بشاعة الثانية، بل من حيث أن الأولى تابعناها في الصحف والمجلات بينما الثانية تابعناها يوما بيوم وساعة بساعة على شاشة القنوات العربية والدولية. وقد توصل الجميع إلى الهمجية المفرطة في استعمال جميع الوسائل الحربية المحرمة دوليا، مثلما أعطت للجميع دلالة للمقاومة وصلابتها. لكن ليس ما نراه على شاشة التلفزيون هو بالضرورة ما كتبه الكاتب في شهادته عن الحرب، فالكتابة ليست كاميرا تتجول في الأماكن لتتصيد الوقائع، الكتابة تضع الكاميرا في وضع مأزوم. صحيح أن الكاتب يروي بعض التفاصيل من رؤيته لشاشة التلفزيون، لكن ما يكتبه ليس -بالضرورة- ما يراه، إنه لا ينقل الحادثة بحياد، بل إنه يكتبها بحركية وانفعال كبيرين. وهذا ما يضيف للكتابة شهادة على انهيار المشروع الصهيوني الأمريكي في الشرق الأوسط . في صيف 2006 لم أستطع السفر إلى إسبانيا كأني قررت حرق الفيزا. كنت مضطربا، متسمرا أمام جهاز التلفاز أستمع. وحتى إذا خرجت إلى المقهى أجدني قبالة التلفزيون، نفرح حين تصلنا أخبار «الميركافا» وهي تحترق ويحترق ما بداخلها مثلما نبحث عن حسن نصر الله في كل مكان لنستمع إليه. الإسرائليون يستمعون إلى حسن نصر الله يصدقون خطاباته وبعض الحكام العرب يصفونه بالمغامر. « في الرجل من الجاذبية أو من القوة المغناطيسية ما يشدك إليه: صدقه ومصداقيته» ص 218. إنه القديس حسن نصر الله كما كتبت يوما ما بعد هذه الحرب في إحدى الجرائد الوطنية- أنه المناضل الذي يعرف عدوه بالقدر الذي يعرف قوة المقاومة. لنتذكر تلك الصورة التي قدمتها قناة المنار بعد خطابه وهو يشير إلى البحر والبارجة الحربية تشتعل نيرانها وتغرق، صورة يوردها الكاتب بفرح طفولي. نحن هنا - أيضا- صفقنا للخطاب وحررنا أنفسنا من قيظ الخيبات وفرحنا، تداول الناس الخبر في المقاهي واعتبر الآخرون القديس حسن نصر الله الرجل الوحيد في العالم العربي، وهي نفس الصفة التي تداولها المغاربة حين رمى الشهيد صدام حسين صليات من الصواريخ على العدو الإسرائيلي. ربما أن الناس يبحثون في الآخر مهديا يحررهم من كوابيس الضعف والهزيمة والتهميش وما إلى ذلك. هكذا يدخلنا الكاتب في شهادته عن الحرب إلى ترميم أشلائنا وأعضائنا وحروفنا... بعد أن اعترتها فيروسات معولمة، وجدت في النفط الخليجي جسرا تأويليا له، أو بالأحرى عربة تحمل هذه الفيروسات من قبيل انتظار الجميع سقوط الجنوب اللبناني وانهيار المقاومة وإزالتها من التداول الإعلامي والشعبي. ألم تبدل هذه الفيروسات فعل المقاومة بالإرهاب؟ عبر البحث عن الضربة القاضية للكلمة الثانية على الأولى. حسن نصر الله إذن حررنا من هذه الفيروسات عبر «الوعد الصادق» وعبر إعلانه الصادق عن ما بعد حيفا. هذا الوعد التاريخي أتلف الحسابات الدولية وفتح جبهات الأمل في العالم العربي، بل أعاد لفلسطين بؤرة الأمل الثوري، بعد أن كان الجميع يشتغل على بناء الشهادة عليها وإزالتها من الخارطة بل وحتى من الحلم. يلتقي حسن نصر الله بأم الكاتب عبر تفجير الصلة العاطفية بينهما. بكلمات شعرية تروم فتح شقوق الكاتب، أي عبر دعوة أمه البعيدة منه كأنه يقول لها: ها قد انتصرنا ! «زينب أمي: كنت صغيرا حين سمعت منك عما فعله «اليهود» بنا. وكان ما سمعته منك ومن جدتي أول حرف حفظته قبل أن يتضخم في نفسي درس العداء للصهيونية. زينب أمي، أحدثك اليوم من بيروت لأقول لك: ها إننا انتصرنا. زينب أمي: لك مني كل المحبة» ص 235. ليست دعوة الأم، دعوة الكتابة عنها، بل هي حضور دائم في الغياب أي في العزلة والموت. لا أدري لماذا نستحضر الأم حين العزلة والمرض وما إلى ذلك؟ أليس في الأمر شرط أنطولوجي تغيب فيه الحدود وتتلاشى فيه المسافات وتنهار الهوية بين الذات والأم، بين الحياة والموت، بين الواقع والمنامات، أليس ما يتهدم تبنيه الأمهات؟ أليس الحوار المفترض بين الكاتب والأم هو نفس الحوار المضمر الذي يعلن أكثر مما يحجبه الله في السماء؟ لا يكتب الكاتب سيرته كما لو كان يوثق لمرحلة الحرب، ثمة فرق بين الوثيقة والشهادة فالحرب لم تكن سوى مساحة الموت، هنا يمكن قراءة السيرة وهي تنفلت من الموت عبر مجابهته، أي عبر إيجاد انفلاتات انزياحية تبعده عن الموت. وإن كان الكاتب يتحدث عن الموت هنا في «بيروت» كشهادة تختزل إنسانيته العميقة والملتصقة أو بالأحرى الموشومة بالذاكرة في اللاشعور. أليس الانفلات من الموت هو قلب استعاري للاعتقال السياسي الذي عرفه المغرب أيام زمان؟ صورتان تتقابلان، تظهران لا لقياس هذا بذاك ولا لهندسة بيروتبالبيضاء ولا بذلك البيت المهجور في هامش الدارالبيضاء وشقته المتاخمة للموت في أي لحظة من لحظات الحرب. وبين خطوط الانفلات التي يتسلل منها الكاتب عبر تأثيث فضائه بالقراءة والكتابة، بالموسيقى والتأمل بتلقي مكالمات الأصدقاء ومتابعة الأخبار، وبين هذا وذاك تنفلت اللغة من تقريريتها إلى انزياح شعري يحرك في القارئ نشيد المناضل مثلما يحرك فيه الإصرار على التشبث بالحياة، عبر مواجهته لليل بيروت للقنابل التي تسقط تباعا، بعد منتصف الليل، كأن القنابل توقظ الكوابيس مثلما توقظ الحواس كالتخييل أي معرفة مكان انفجار القنابل. يخرج الكاتب من شقته بين الفينة والأخرى متحديا الموت، باحثا عن صديق أو لمعرفة تفاصيل الحرب التي لم تنقلها شاشات التلفزيون. يخبط الكاتب سيرته يخيط المناضل النشوان بالانتصار مثلما ينفلت من حكي الحرب إلى مساءلة الذات في كينونتها، عبر دعوة مناضلين آخرين عاشوا محنا مختلفة كالشهيد ياسر عرفات، جورج حبش وغيرهم كثير. لنتأمل هذا التقابل الموحد للذات في ص: 27: « قد تصيبك شظية فتفقد شيئا من جسمك؛ لا بأس إن حمل جسمي وساما. قد تفقد حياتك في غارة؛ لا بأس من أن ينتهي المرء شهيدا....... أتذكر أغنية لزياد الرحباني استعادت نفس الأسئلة الوجودية قبل عشرين عاما: « يمكن ينقطع الخبز بها اليومين.... يمكن ينقطع البنزين بها اليومين.... يمكن ينقطع النفس الباقي بها اليومين....» وبين هذا الانقطاع وذاك، يتسلل الكلام عن أشياء كثيرة في هذه السيرة الممتعة والمحزنة في نفسي الآن، هل استمر في الكلام عن الكلام أم أتوقف بين الحرب والأصدقاء، لأقلب الواو في جميع الاتجاهات، لا لأضعه وصلا بل في اختيار الانفصال مرتعا للحديث عما لم أستطع تبينه في هذا الكتاب في فرضية الواو ثمة قضايا لم أتحدث عنها، بل وضعت إشاراتها في مكتبي لتأملها، لإعادة الكتابة عنها من جديد بعيدا عن انفعال ممكن. وهل يستطيع القارئ قراءة هذا الكتاب في صمت، حين يجره الصمت، معناه أن القارئ وجد في الواو مشنقة أخيرة؟ إن سيرة الحرب هذه تدفعنا لإعادة قراءة ما أنتجته الحرب اللبنانية أدبيا، تلك هي المهمة وذاك هو السؤال الذي يبحث عن قارئ يقظ. عبد الإله بلقزيز «الحرب الإسرائيلية على لبنان شهادات من قلب الحصار» منشورات الزمن 2006 . المغرب.