منذ أسبوع، لم يتصل بي خليل، ربما أنه مشغول برسم صورتي، أو ربما غيبته الثمالة المحرقة، أو لنضف مبررات أخرى. لا أدري لما تذكرته الآن وهنا وأنا أجلس في شرفة بيتي أنظر إلى زخات المطر وهي تنغرس بقوة في الأرض، كأنها تسقي الورد الذي زرعته زوجتي، دون أن ينتبه حراس الورد الجدد لذلك. المطر يتزايد ومذيعو القنوات الدولية والعربية يرمون الياسمين والفل. كأنهم يقدمون لنا الهدايا بمناسبة العام الجديد. أخذت الياسمين وسلمته لزوجتي كي تزرعه قرب الوردة، ربما سيتعاشقان ويتجاذبان ويتناسلان في النهار وأمام الحراس يتعانقان. ربما سينجبان وردة تكبر في الهوامش وفي الساحات العامة. وربما ستتوالد عبر تخصيبها بالعناق والدمع والعرق والدم إذا اقتضى الأمر. سيخرج الفقيد من مستودعه الأرضي، سيكلمنا كما كان، سيخرج إلى الحارات الشعبية أنيقا كما الورد، سيرمي علينا الورد كي نعيد فلاحته من جديد بعد أن تم تخصيبه دون أن أتبينه، أسأل دخان سيجارتي عن حراس الطابق الثامن الذين يرفضون زواج الياسمين بالورد أو بالأحرى جمعهما. يحاولون عبثا البحث عن مبرر بيولوجي لعدم وجود الإمكانية تلك، أتبول على كلامهم وأسخر، أسخر من زمن الطابق الثامن، أسخر من مهندسي الخسارات الذين يعاندون القدر في حراسة أمكنتهم، كراسيهم، ولايملون. يتعايشون مع ضراطهم ولا يختنقون. يدورون على الكرسي الجلدي ولا تستريح عيونهم. عيونهم لا تنام كما الكولونيلات القدماء في إفريقيا، يقفون بين الصور والذكريات ويقولون نحن لا نزرع الياسمين في الشرفات ولا في حقول البوادي الكئيبة. رميت سيجارتي وأنا أراقبها تسبح في الماء المنساب على الأرض. دخلت إلى بيتي، رفعت السماعة، تلفنت لخليل، هاتفه مشغول كما العادة، عاودت الاتصال بهاتفه المحمول وجدته مغيبا بين الفل والياسمين، قلت له: الحديث عبر الهاتف مخاطرة. قال : ممن؟ قلت من مهندسي الخسارات الذين طردوا الورد البلدي وبدلوه بورد أقل. قال: هم الآن سكارى بروائحهم الجديدة، مغلفون داخل حقائبهم الجديدة، والآخرون منهم يشحذون خيالهم لحمل حقيبة مثقوبة أو على الأقل لحمل حقيبة الماكياج لامرأة مغطاة بالذهب والخرافة، يتحرشون بها دون أن تقول لهم كلاما، ينشرون الغزل فيها ولا تسمعه، يكتبون الحكم فيها على حيطان المراحيض ولا تقرأها، كأنها لا ترغب برجال تعروا كلية عند الغمزة الأولى، وهم لا يكترثون ، يصطفون حول بابها أو بالأحرى يتدافعون ويتعاركون ليستفيدوا من رائحتها. المكان مضغوط بروائحهم، مرفوع برائحة الجنس والويسكي والضراط وما إلى ذلك. هل تسمعني؟ قلت لخليل. قال: نعم، ولكن لما تعيدنا أيها المجنون بالورد إلى كلام نسيناه بين أثداء أمهاتنا. هل تريد عودة الورد إلى الحدائق الشعبية وفي الهوامش؟ قلت: الماضي لا يعود كما حليب الأمهات. لكن أنا المجنون بالورد القادم من جبال الجنوب والمتجول بين المدن البعيدة والقريبة والمستقر هاهنا في شرفة الأمل. لا أريد عودة الورد إلى الطابق الثامن بل أريد زراعة الفل والياسمين في كل الجنبات من الطابق الثامن ليستريح الفقيد مع أصدقائه القدامى. آه نسيت أن أقول لك غدا أنا قادم إلى العاصمة، لنلتقي في الظهيرة بمقهى غرامشي. وأين توجد هذه المقهى؟ قال. قلت : هي قريبة من رياض الأطفال وحمام نساء الوردة. قال: غدا حين الانتهاء من عملي سألتحق بك. قلت: إذن إلى الغد، وضعت السماعة في الجانب، جلست قبالة المكتب، أشعلت حاسوبي وبدأت البحث عن غرامشي في الرباط. بحثت في الأرشيف عن مرحلة حين كان غرامشي يصاحبنا في الجامعة ودور الشباب والمقاهي. كان غرامشي جميلا، تظهر عيناه على أغلفة كتبه كما شرارة الثورة، كأنه الاسم المعلق في الأمكنة التي تؤثث خيالاتنا وتدفع الثورة من الحناجر إلى الجريدة، إلى الشارع. أو كأنه بوصلة يحملها الكاتب والمثقف في جيبه الأيسر، يرسم خرائطية المعنى في اللغة عبر شحذ أصابعه للقبض على التطابق الممكن بين السجن والكتابة، بين المعنى والحلم وأنا أبحث في الأرشيف وجدت كتابات تداخلت حروفها بالغبار تفوح منها رائحة تصيب أنفك بحرقة داخلية، مثلما تحمر العينان وتدمعان، حاولت عبثا، إخراج الحروف من الجريدة كي تتشمس في اليوم الموالي، جمعت الحروف في كيس بلاستيكي ووضعتها قرب باب السطح، مخافة أن يمحوها المطر. عدت من جديد إلى المكتب ، طويت ما تبقى من الأرشيف وأحكمت الإغلاق حتى لا تخرج الحروف كحشرات الكتب تماما، تسيطر على البيت، أو ربما ستنتشر في الطابق العلوي من البيت بل ستنزل عبر الدرج لتحتمي بسخونة المطبخ أو تستوطن في مدفئة الصالون. ماذا أفعل؟ أمام تناسل ممكن لهذه الحروف الخارجة من الأرشيف. ستطردنا لا محالة ستستنجد بعمال البلدية، برجال المطافئ وبالجيران وبآخر مستجدات النظام العالمي الجديد، لطرد هذه الحروف من بيتي حتى أنام مرتاحا. كل هذا مكمن إذا ظل الأرشيف مفتوحا عبر البحث في طرد الديدان التي تسكن الحرف كفيروس ماكر ومتنكر. أغلقت الملف وتبينت - بحرص شديد - إغلاق الباب عليه.غدا سأوصي زوجتي لتشميس الحروف، لتنقيتها من الغبار الذي يسكنها أو من تلك الروائح الجديدة التي تقوم بتحريف استعاراتها. سأقول لطفلتي كذلك أن تلعب بالحروف في الظهيرة ليرتاح البيت من أرشيف يحملها إلى الماضي رغم أني قلت لخليل أن الماضي لا يعود ولو أنه يسكننا، يحملنا بين استعاراته المتعددة ويغيب حين تجد نفسك أمام خيالات الضراطيين الجدد في الطابق الثامن. الساعة تقترب من منتصف الليل وغرامشي يطل علي من شاشة الحاسوب مثلما تستفزني حروفه المغلفة بكيس بلاستيكي أو قل كتبه المشتتة في المكتبة. تقول الصورة: كان يا مكان حين كان الورد يبني الساس بعرق العمال ومنجل الفلاح وعجين الأمهات وصراخ الأطفال وبعيون غرامشي، كنا نهندس للمرحلة. غرامشي ينظر إلي وعيناه تقاومان النعاس. غطيته بالفل والياسمين لينام بين الحروف. هذه الليلة أطفأت عليه الضوء، أغلقت عليه الباب ورحت إلى بيت النعاس لأرتاح قليلا، أشعلت التلفاز كطريقة للتسلل من ورطة البحث عن غرامشي في الأرشيف . الصور تتناسل بخصام أمامي وأنا لا أراها، أحاول عبثا تخيلها عبر كلام المذيع الذي يتحدث عن «محمد البوعزيزي» ،أقول ربما يكون هذا الشاب من ورثة غرامشي. نسيت أن أسأله حين كان يطل علي من شاشة الحاسوب، نسيت أن أقول له أن هذا الشاب أحرق نفسه لا لزيارتك في سردينيا أو ميلانو أو روما، بل أحرق نفسه لتحريرك من سجن المكتبات، من الحروف المغلفة بالرطوبة والغبار. هو قام بذلك وأنا أتحرق بربط الصورة بالواقع، بالانخراط مع نشيد الشابي في المرحلة الابتدائية أو في الشوارع التي زرعنا فيها الورد خلسة من حراس الليل وكتبنا النشيد على الحيطان البيضاء وهربنا. البوعزيزي أعاد للنار شعرية اللذة مثلما أعاد غرامشي إلى الساحات العامة، إلى مقاهي المثقفين المهووسين هذه الأيام بتفسير الربو والعطش بالنميمة، بل هم يقيمون في بعض الأحيان بورصة للحروف. صورة النار تنتشر بين قنوات التلفزيون وهي لعبة التماهي في المسرح العربي، في عمان والرياض، في بن جرير والقاهرة ،في طرابلس وحلب، في نواكشوط ومدن أخرى.. لم تلتقطها عيون الكاميرا، بيت النعاس عمرته الأخبار الجديدة، أخبار النيران المشتعلة في المكان واللامكان، والنار لا تدفئ الصورة وإنما تقنبل الخيال لإشعالها في الطابق الثامن، هكذا تخيلت والنوم يغطيني بالتخيل. صوت المؤدن يصلني بعيدا، يلتقي بالمذيع الذي لم ينم طيلة الليل، أطفأت التلفاز وقمت، أخذت دوشا ساخنا، ثم حلقت ذقني، تعطرت بماء الورد، أخذت محفظتي الجلدية، وضعتها جانبا. تعودت على حمل محفظتي، تذكرت روايتي التي لم أنته من كتابتها رواية « إنهم يقتلون الورد» . وضعت الملف في الحقيبة، أيقظت أيوب ليرافقني إلى العاصمة، لم يتأخر أيوب هذه المرة من سخونة الفراش. استيقظت زوجتي كي تعطيني بذلة ما. ارتديتها بسرعة مثلها ارتدى أيوب سروال جينز وجاكيطة جلدية سوداء... خرجنا قبل موعد القطار بساعة كي نستطيع شرب القهوة بمقهى المحطة، المسافرون يعرفون بعضهم بعضا وصاحب المقهى يعرف الجميع كأنه تعود على صباحاتهم طيلة الأسبوع ماعدا الويكند. المسافرون يطردون النعاس في كسل بينما الرذاذ يتفاعل مع كسل المسافرين، دخنا سيجارة الصباح كي نعيد للعينين توازنهما والرجلين سخونتهما. بين محطة القطار والعاصمة ساعتان، سنصل لا محالة في التاسعة والنصف. بين وصولنا ومقهى غرامشي نصف ساعة مشيا على الأقدام وعشر دقائق بسيارة الأجرة. اختار أيوب الذهاب مشيا كأنه يعرف أن سيارات الأجرة بمحطات القطار تتآمر على المسافرين ولا يرغبون حملهم إلى المسافات القصيرة، وما إلى ذلك من التباسات في الطرق ومن أمور تصيب الزائر بالعجب. كنا نسير على الرصيف الغير مهيأ لأحذية المدينة. هكذا نتابع المشي وبين الفينة والأخرى أشوش صمت أيوب حين نصل إلى مكان ما، أربطه بحكاية المرحلة من باب الرواح إلى وزارة التعليم والكليات إلى المكتبة الوطنية، كلية الحقوق والحي الجامعي. هنا توقفت قليلا لشم رائحة الماضي، تلك الرائحة المدفونة في المسامات ، رائحة القبل والورد، الجنس والإيديولوجيا والشعر والبيان، وغرامشي وانتفاضة البيضاء ... أيوب ظل صامتا كما الذكريات وأنا مرفوع بالحكايا، أتوقف قليلا لأمسح عويناتي الطبية وأيوب يسألني أين توجد مقهى غرامشي؟ قلت له في الجهة الأخرى من الشارع الآخر القريب من حمام الوردة. انحرفنا إلى اليمين قليلا، تركنا شارع فرنسا، الشارع الذي يضيق في الليل. يضيق بعاهرات خرجن للتو من المرحلة الجديدة. عاهرات بعطر جديد يختفين وراء دروسهن ووراء الهوامش التي لفظتها العاصمة بعد فساد الأمكنة. مقهى غرامشي تظهر من بعيد، يقول لي أيوب إن هذه المقهى لا تحمل اسم غرامشي، لقد أخطأتك حواسك الأخرى، قلت له هي ذي المقهى ، وصفت له المقهى حين جلسنا في زاويتها اليمنى ، في تلك الزاوية التي تعودت الجلوس فيها. حين تابعت الوصف، وصف الصورة المعلقة على الحيطان والموسيقى المنبعثة من مسجل المقهى. ضحك أيوب وهو يشعل سجارته ويصف لي الصور الثلاث المعلقة على الحيطان. صورة مؤطرة بإطار نحاسي تحمل سورة الكرسي وصورة مقابلة لإحدى المغنيات. بينما الصورة الثالثة فهي صورة لمزهرية فارغة، توقف أيوب عند الصورة الثانية وهو يصفها بدقة متناهية، أحسست ساعتها بأنوثة « مادونا « تكسر الزجاج الذي يخفيها، نهداها الواقفان يسبقان انكسار الزجاج، بينما عيناها تغرق الجالس في المقهى بالتلف. كأن عينيها تحرقان الأصابع حين الإشارة... أشعلت سيجارتي الثانية ورائحة القهوة تضيف للذكريات التبعثر والإنكماش. انكمشت الذكريات تحت سرة « مادونا « بينما سورة الكرسي تميمة تؤثث المكان. المكان الذي كان، وكيف أصبح معلقا كصورة المزهرية الفارغة. أتى خليل والسيجارة احترق نصفها الأول. تبادلنا التحية، هو يعرف أيوب من بعيد، عرفه بحكاياتي عنه. خليل يسب زمن الرباط وأمكنته التي لا تعطيك حيزا لسيارتك . نصف ساعة وأنا أبحث عن مكان لأركن فيه سيارتي، يقول خليل: العاصمة أضحت لا تطاق.طلب خليل قهوته وهو يسألني عن غرامشي في العاصمة. قلت له لقد بدلوه بهذه الصورة.هذه هي المقهى التي ندعوها بمقهى غرامشي، لا أعرف من سماها. ربما هي استعارة للتسلل من البوليس السري أو ربما لأن غرامشي كان سيد الكلام في المقهى، هنا عرض الفنانون التشكيليون مثلما علق الشعراء قصائدهم أو علق آخرون قصائد غيرهم، علقنا قصيدة « البيضاء «، و « قلعة المنفى « ومقاطع من قصائد لوركا وبابلونيرودا، ومحمود درويش ومظفر النواب، وأمل دنقل وآخرين... في كل أسبوع كنا نزيل القصائد ونعلق أخرى، بينما الصور ظلت كما هي نسخة من لوحة غيرنيكا وصورة لطفلة فلسطينية، تشير بشارة نصر، وصورة للفقيد، وأخرى لأبي عمار، وأخرى لغرامشي، وهكذا نأتي بالصور لنعلقها، كل واحد يعلق صور سلالته من لينين إلى المهدي من علال إلى عمر من دلال إلى سعيدة من كرينة إلى زروال. هكذا تشدنا الصور لنتماهى معها، نخربش في دفاترنا الخاصة حروف الرفض، رفض كل شيء قائم، والموجودون في المقهى كانوا ضد كل شيء قائم، ضد انزياح اللغة في الحروف ، ضد امرأة لم تحرر جسدها من قداستها، ضد المناضل الذي يخفي الورد في الصور، ولا يزرعه في الجامعة أو في زنقة سوسة. في هذه المقهى كان المثقفون يتبادلون الكتب، يوزعون الأنوار في الطرقات في هذه الطاولة، كنا نكتب الشعار ليبقى. قلت لخليل هل ما زالت تلك الحروف منقوشة على الطاولة؟ أجابني ضاحكا: لقد انمحى كل شيء! انمحت الحروف مثلما تفسخت الصور. نحن ? أيها المجنون بالورد ? في مسخ مبين! مسخ المثقف مثل مسخ المتفرج، وحكى، بقليل من التردد، عن أناس مسختهم المرحلة حتى ظهر لك أصحابك، بوجوه ممسوخة، وبألسنة قضمتها الفئران وبعيون تسللت إليها الديدان، آذان كبرت دون استحياء من المتفرجين. وجوه تحمل الجثث المرفوعة ببخور المرحلة. إن الله يعشقك أيها المجنون ! لأنه هرب حاسة البصر لديك إلى أمكنة أخرى. من حقك الآن أن تحتفل كل سنة بعيد ميلاد الفقدان، فقدان البصر، الفقدان الذي رماك بين الصور والذكريات وأنت لا تريد التلاؤم مع المرحلة الجديدة، مرحلة مهندسي الخسارات. لم لا تجرب أيها المجنون مسخ وجهك يوما واحدا؟ ستكشف حينها بأصابع جديدة تبحث عما تسرقه، فالبلد أضحى مجالا للسرقة. كل واحد يسرق بطريقته، أوقفت خليل حتى لا يضيف للجرح اتساعه، وللجسد اعوجاجه، قلت له إن بعضهم، يسرق من التاريخ، وحكيت له الحكاية. حكاية الصديق الذي قامر بخدمته ومنصبه في سبيل كتابة الورد، وانكسر بعد ثلاث سنوات ? في أحد الأيام من أيام المرحلة تقتضي ، خرج أحد المثقفين من شاشة التلفزيون ليكذب على الفقيد على الورد بل ليكذب علي أنا أيضا الشاهد على الحوار الذي دار بين الصديق المنكسر والمثقف الجديد. كان اللقاء قبل عشرين سنة. حين كانت حانات العاصمة تدفئ حناجرنا، والمثقف الجديد أكمل دروسه بفرنسا، ولا يريد العودة إلى البلد، فيما الصديق المنكسر يطالبه بالعودة، كي يستقيم الورد في الكتابة. دخل المثقف فيما بعد، واشتغل حتى شحذ كل قدراته التي تجملها عبارة: من أين تؤكل الكتف؟ وهكذا ظل الصديق صامتا كما الأبجدية الأولى، وظل المثقف الجديد يظهر على شاشة التلفاز كمشروب الكوكاكولا. حاول خليل مشاكستي على قول المعنى ، قلت المعاني مطروحة في الطرقات. والمعنى لا يحتمل إخفاءه في اللامعنى، إنها استعارات تليق بريشة، للصباغة، أن تعطي لصورة المزهرية الفارغة معناها. أيوب خرج للتو من جلستنا، قال لي أنه يريد مهاتفة صديقه، أو بالأحرى أنا و خليل طردناه بلطف من جلستنا، هو لا تهمه هذه الحكايا. مثلما هو يسخر من شيخوخة الورد ومن تلفه بين دور طوارات الإدارة ? أخذت سيجارة من علبة سجائر خليل، أشعل الولاعة ? الولاعة تشتعل. لم يعد هذه الأيام سوى حكي النار، النار تشتعل في كل مكان، ونحن نشعل سجائرنا، دون الانتباه إلى شعرية النار وهي تغطي اللحظة، حكت الصحافة اليومية عن شاب يريد السخرية من النار، صب البنزين على جسده وهو يلوح بتمويه بعود الثقاب، كأنه يستجدي الوزير والإدارة، يستجدي الناس والحكومة، كي تحقق مطالبه، ومطلب أقرانه ? لكن سرعان ما احترق، اشتدت النار في جسده، دون أن يعرف مصدرها، ربما النار تسكن عظامه، لأن من حظ سخريته لم يمت. لم يسخر من جروحه البليغة، وغاب في جرائد الأمس، الساعة تقترب من الحادية عشرة، وخليل يدور بين الجرائد اليومية، ويعلق على المسخ الذي تنشره. قلت: ما الجديد اليوم؟ قال: فساد الأمكنة وأزمنة الفساد. وحكى لي خبر شخص ما لا أعرفه. يحمل ميدالية قزحية تظهر من وسطها وردة ذابلة، يسكر هذا الشخص في حانة اليد. قلت وما الجديد في الخبر؟ فكلهم يشربون نخب انكساراتنا في حانة اليد من يمينك إلى يسارك ولا يجدون من يغطي الوسط، كأن الكل يحب الوسط، قال خليل: الحكاية لا تقول ذلك، الحكاية تقول إن الشخص الذي يحمل وردة ذابلة متورط في فساد الأمكنة وأزمنة الفساد، ومهندسو الخسارات، يبحثون عن تجريده من ورطته، بدل أن يعلقوه جثة على أبواب مدن الجنوب. قلت: هي فوضى الحواس يا صديقي التي تليق بنا، السخرية منها ومن المسخ الجديد. قلت، وأنا أبحث عن جملة لفولتير كي تريح التوتر الذي يربطني بصورة مزهرية فارغة. قال خليل: ما الذي يقوله فولتير؟ قلت: آه أين قرأتها أو متى لكنها عبارة تفيد سحق المسخ. قال خليل: هي مهمتنا إذن وإن كنا لا نستطيع مقاومة انجراف المسخ. في كل شيء، في الجنس وفي الأغنيات، في الرسم و في الإدارة، في الثقافة وفي المجتمع، في المدارس وفي المستشفيات، في الشوارع وفي مقرات الأحزاب الكئيبة. حين قدم أيوب، دفعنا الحساب، وصورة مادونا تتبعني، تلامسني بنهديها وأنا أقاوم اشتعال النار في جسدي كأني لا أريد خيانة زوجتي مع امرأة تخرج من إطارها، تتحرر من سرتها. دون أن تقول، حاولت دفعها لكي تقف في شارع فرنسا. سيأتي أحد مهندسي الخسارات ليحملها بسيارته الخاصة. ستضحك علي مادونا رفقة هذا المهندس أو ذاك، ستخرج مادونا من مسجله، سيغني معها، ليجد نفسه في منتصف الليل داخل علبة ليلية وهو يحاول عبثا نسيان مادونا المعلقة على حيطان مقهى غرامشي، يبحث دون كلل عن إحدى البنات لتقاسمه فرحة الجديد ... لكن بدون جدوى. حتى بنات الليل لم يعدلهن الثقة في مهندسي الخسارات، ربما يشربون الجعة وينسلون بمكر. أو يتركون حسابهم على حساب الطابق الثامن. وهكذا رجعت مادونا منكسرة إلى حدود إطارها الأصفر. ينبهني خليل كي لا أسقط في حفر البلدية، قال أدعوك لتناول الغذاء معي، في مقهى هوشي منه. كنت أعرفه حين دخلنا استقبلنا هوشي منه بابتسامته، جلسنا في مكان بالقرب من حروف صينية، لم نقو على تفكيك معناها. ربما هي الدالة على اسمه، طلبنا النبيذ كي يتحرر اللسان من قيود المرحلة، وحين أتممنا الأكل، أشعلنا سجائرنا ودخلنا الحكاية، قال خليل حكاية الورد التي بدأت من الحي الخامس من مدننا. كان كل شيء مشتعلا، وكان الورد ينمو بسرعة، كان الجميع يهتم بسقيه وتوزيعه دون مقابل، وهي حكايات تروى للنسيان. كان كل شيء يحيل إلى الورد. وكان الجميع يكلف البعض منا بحمل الورد في بعض الأماكن، لكنهم الآن واليوم، يتعاركون لحمل ورد أقل، ويتخاصمون لشرب القهوة مع صنم معزول في الجغرافيا، أو لأخذ صورة منه وتوزيعها على مجلات الموضة، والصحف بالمقابل. كأنهم يريدون أن يقولوا نحن قادمون بجلباب أبيض وبرنس مثله، وطربوش أحمر. بحقيبة مثقوبة أو بدونها، لا يهم المهم، بالنسبة لهم، هو ترويج صورهم في الفنادق الفخمة، وفي الفيلات التي تسخر من طباخيها وحراسها. في الفيلات الفخمة، يتخاطفون على مأكولات ومشروبات متنوعة، دون أن يعرفوا الأصابع التي قامت بطبخ تلك المأكولات، يحاولون التسلل إلى المطبخ، لكن بدون جدوى، يبعثون الرسائل تلو الرسائل، ويدافعون بقوة على ما كانوا يعارضونه في السابق. في بعض الأحيان يرتدون ملابس، يدخلون إلى ذاكرة الحاسوب، ليضعوا فيروسات الفوضى، ينشرون النميمة، بل في بعض الأحيان حين ينتهون من حفلة سرية، يرسلونها إلى الفيلات الفخمة عبر الصحف الجديدة، ويتساءلون من سرب الخبر؟ من سرب صورة الخروف المشوي، قناني « الفودكا «، ورقص الصبايا. يقتلون بعضهم البعض، يقامرون بالورد من أجل شبيه ينفلت من التطابق. تكبر جثتهم وتختفي رؤوسهم تحت أعناقهم. وهم يتمرنون على قيام الركوع والسجود، والتلف بين الحسابات البنكية، وترويج سلعة الورد في المدن الأخرى. يضعون الورد في المزاد العلني من سيدفع أكثر، بينما السماسرة منهم يحتفظون بآلاف الدراهم والسر، ويتواطأون مع فساد الأمكنة، وفساد الأزمنة. يحررون بلغة الماضي أمكنة الفساد، وهم يشتركون مع فساد الأمكنة تحت الطاولة، كأنهم يكذبون ولا يكذبون، كان الجميع يعرف، كما قال صاحبي الذي كان يشتغل حارسا لأرشيف الطابق السابع، إن أحد هؤلاء الضراطيين الجدد، كان وسيطا بين أحد تجار الحشيش ومهندس بائع للورد الجديد، وقد كسب خمسة ملايين سنتيم، بينما تاجر الورد استحوذ على ملايين الدراهم، والمصيبة أن بائع الحشيش خسر في هذه الصفقة التجارية.الحكايا تتناسل خلف بورصة الورد التي دشنها الطابق الثامن. هل أضيف لهذه الحكاية أخرى؟ أم نشربها بكأس نبيذ، كي تسهل علينا تبولها. خليل هو الآخر، بحكم تواجده في العاصمة، يعرف حكايا أخرى، حكايا تقترب من الفساد حين ركوبه جوادا أو جملا، في موقع « ويكيليكس «، ربما غدا ستحاسبني الحكايا حين لا نكتبها. الحكايا حين تداولها شفاهيا، تنسل بالنسيان أما حين كتابتها، فشيء آخر تماما. وأنا لا أحكي موقع « ويكيليكس « مثلما لا تهمني صورته، فأخبار الطابق الثامن، أضحت بخورا مقيتة، بخور تعيش بالفوضى أو رائحة أحد الشمامين الكبار، الذين يعرفون الأطعمة من روائحها، والعطور من قيمة حامليها، ومأكولات هذا أو ذاك من الضراطيين ... يستطيع ضبط تلك البخور ومعرفة مصدرها، لذا تتشتت الحواس في فوضى مثلما تحتل الفوضى الحواس. حيث المريدون الجدد وبائعو الورد بالتقسيط، والباحثون عن شغل ما، وما إلى ذلك، ضاعوا في الفوضى. ولم يتبنوا حواسهم ولا البخور. فمنهم من قال والله أعلم: إنها بخور مكية، نسبة للشيخ المكي الذي يداوي البرص والعمى. كما يعطي للعنينين فرصة العمر الأخيرة، ومنهم من قال إنها بخور فاسدة. وإن كان فسادها ليس من مصدرها، بل من مروجيها ومستعمليها على السواء. أي أن هؤلاء لم يكونوا أوفياء للتعليمات المقدمة على أغلفة البخور، ربما قاموا بخلطها مع بخور برازيلية وبرتغالية وماليزية... فتم فسادها. وهناك من يقول إن مصدر هذا البخور لا هذا ولا ذاك، وإنما هي خليط من بخور أو تعانق مبخرات، واحدة من زاوية وأخرى من ضريح وثالثة من فندق ورابعة من سوق، وخامسة من علية القوم، وسادسة من مسكنات الماضي، وسابعتهم من صفحات الجرائد ... هكذا، يبنون الفوضى في الحواس، ويبيعون الوهم فيما بينهم بالمقالب. كأنها مقالب مضافة إلى ألق الفوضى، كأن الفوضى لا تترسخ إلا بالمقالب، هي طريقة تعطي للتواطؤ، مملكة الصمت. وتضيف للسكوت تميمة فقيه أعرج. لماذا سكت الجميع على الجميع؟ تساءل خليل. وهو يرسم الحكاية. ربما لطرد النسيان أو لمطاردة ذاكرة يريدون دفنها في المستودع أو في أي مكان تفوح منه رائحة الرصاص ورماد الجمر وكحل العينين، وأشياء أخرى. هو يرسم الحكاية وأنا أتابع الحكي، حكاية قتلة الورد. ولا أنتهي. ما دام النبيذ، يحرر اللسان من قيوده، وما دامت شرفتي تطل على الأمل. أحكي أتلفن للأصدقاء كي يحرروا الحكايا من فندق شهريار أو من جدار الكلام ضدا على الفيروسات التي تطارده. أحرضهم كي «يبرزطوا» شهريار. أقول للنساء المتحومات حوله كي يقلن الحكايا. أراهن عليهن للتمترس خلف الحرية للتحرر من بخور الفوضى، لأضع حكاية النساء، قاب قوسين أو أدنى، لأمضي بعيدا نحو شرفة الأمل، نحو ورد يليق بتربة هذا البلد ...