بعد 12 قرنا من الخطاب الرسمي ليلة باردة من ليالي الشتاء، الكل مجتمع حول بضع خشبات متوهجة، صوت الرياح الصاخبة التي تحاول بين الفينة والأخرى ان ترفع سقف المنزل الخشبي وتذهب به بعيدا. قطرات مطر مختلطة بحبات الثلج تتساقط على المنزل محدثة تسربات في السقف، كاس شاي مطبوخ بتأن. يبدأ الحديث، فكرة من هنا وفكرة من هناك، لا خيط رابط بينها. قال الأول: لقد رأيت البارحة فلان، جار فلان يجر بقرته إلى السوق. ربما يريد بيعها بعدما نفد كل ما لديه من علف واكل. لا، يقول آخر مقاطعا، لقد دخلت إلى منزلهم أمس، إنها مليئة بالعلف والأكل، لديهم ما يكفي من العلف لعشر بقرات وخلال سنة كاملة، لا يمكن ان يكون هذا هو السبب. فلان أيضا كان يصرخ، ربما تعرض لسرقة أوانيه المنزلية من احد اللصوص. لا، ليس هذا، انه مجرد خصام عائلي، زوجته لم تحضر له ماء الوضوء في الوقت المناسب فقام يصرخ وكأنه تعرض لهجوم عنيف، لقد كنت هناك قريبا منهم، استغربت كثيرا كيف لإنسان يريد ان يعبد الله ليغفر له ذنوبه ويبدأ هكذا بإذلال زوجته وبإخراج كلام لا يطاق. لقد هرب جميع الناس من هول ما سمعوا وما رأوا، لقد سمعته في الأخير يقسم ألا ينحني مرة أخرى لربه قائلا لزوجته: اهذا ما تريدين؟ اقسم بالله وبجميع الجبال التي يتكئ عليها ألا اسجد مرة أخرى، فلنحترق أنا وأنت يا عدوة الله وان لم تغادري فسأقوم بحرقك اليوم قبل جهنم . تدخل شخص آخر ليطور النقاش ويطيله، فهو يعرف ان هاته المواضيع ما تلبث ان تنتهي ويبقى الليل طويلا، ولذلك فهو يريد ان يستهدف جده الجالس في الركن الذي لم يعد يسمع جيدا، لكن إذا بدأ في الحديث فلا احد يستطيع ان يوقفه. قال الابن مناورا، جدي، جدي هل أنت نائم؟ أجاب الجد نافيا ومستغربا من سؤاله: لا ينام في مثل هذا الوقت سوى الدجاج. أأنا دجاجة؟ ختم كلامه بابتسامة تترك إمكانية الحديث مستمرة. استثمر الابن الابتسامة، وقال له: هل يمكن يا جدي ان تحدثنا عن حياتكم قديما، عن صراعاتكم مع المخزن، عن دخول فرنسا وعن استعمار بلدكم وعن... ؟ وقبل الانتهاء من كلامه، وجد الجد قد بدأ في الإجابة. حسب ما كان يروي لنا أبى عن جده عن... عن... عن جده عن مجموعة من العلماء والأشياخ والناس الذين لم يتبق منهم أحد الآن رحمة الله عليهم جميعا، فان مناطق المغرب عرفت صراعات ضارية بين الناس للاستيلاء على الأنهار والكلأ وعلى السلطة. فقد عمت الفوضى والاقتتال جميع نواحي بلادنا وكان يحكمها المشركون إلى أن من الله عليهم بشريف من أهل البيت، أتى إلينا من الشرق واستقبله المغاربة وأكرموه وأقام دولته بالمغرب وبعد ذلك أخد في مواجهة أناس لم يكونوا يرغبون في الخضوع له. ودامت هاته الحروب سنوات عديدة لم يتمكن هذا الشريف من القضاء على المغاربة المعارضين الذين سيطروا على مجمل البلاد. وكان المغاربة في هذا الوقت يمارسون الفلاحة والزراعة وتربية الماشية ويتبادلون منتجاتهم مع البلدان الأخرى حيث يأتون بالذهب والعاج، وبعد وفاة هذا الشريف وولده عمت الفوضى ولم يبق لهم اثر. وبعد طول تفكير، تدارك الجد قائلا: هذا ما قالوا لي رحمة الله عليهم. تم اخذ يجوب بعينيه جميع أنحاء البيت كأنه يتأكد من عدم وجود أي شخص غريب ليتابع حديثه قائلا: إلا أنني، وخلال جولاتي المتكررة' التقيت أحد الناس الذين يعرفون كل شيء ولديهم معلومات كثيرة عن تاريخنا، فاخذ يحدثني عن المغرب. اعتقدت في البداية انه يتحدث عن دولة أخرى. قال لي إن الامازيغ هم السكان الأولون للمغرب ولديهم ملوكهم وحضارتهم وكتابتهم وكتاباتهم وعملتهم وديانتهم. ثم أضاف ان الوندال والفينيقيين والبيزنطيين والرومان كانوا هنا في سنوات قبل الميلاد، ثم أضاف ان اليهوديين والمسيح والمشركين وعبدة الأصنام والكبش كانوا هنا أيضا، أضاف ان العرب المسلمين كانوا هنا ثم رحلوا ليعودوا مرة أخرى.... حدثني عن أشياء غريبة لم أكن على علم بها، ولما سألته عن السر بعدم إخبارنا بتاريخنا الحقيقي كما يفعل الصينيون والمصريون والأوروبيون والهنديون ووو.... قال لي، في المغرب نعرف الآشوريين والبابليين والسوماريين والكنعانببن، نحسن الكتابة الهيروغليفية، نسمع عن المعلقات السبع، نعيش مع فجر وضحى الرسالة الإسلامية، نحفظ عن ظهر قلب عدد جواري الأباطرة العظام، نعرف أين نام اسكندر المقدوني، نحس بعشق قيس وليلى ولكن لا يمكن ان نقرأ تاريخنا ومن أصر على ذلك، فمدرسة تاريخ المغرب مشيدة داخل الزنازن. في المغرب نعرف الآشوريين والبابليين والسوماريين والكنعانببن، نحسن الكتابة الهيروغليفية، نسمع عن المعلقات السبع، نعيش مع فجر وضحى الرسالة الإسلامية، نحفظ عن ظهر قلب عدد جواري الأباطرة العظام، نعرف أين نام اسكندر المقدوني، نحس بعشق قيس وليلى ولكن لا يمكن ان نقرأ تاريخنا ومن أصر على ذلك، فمدرسة تاريخ المغرب مشيدة داخل الزنازن. جملة كررها الجد لعشرات المرات وفي كل مرة يحلق بعينيه فوق الجميع وقبل ان يستمر في الحديث، امرنا بمعالجة تسربات الماء في الجدران الطينية وبإغلاق الأبواب الخشبية جيدا وبإحضار كوب شاي جديد ساخن. وبعد اخذ ورد تابع حديثه قائلا، وبعد سنوات عديدة، قام بالمغرب رجل صالح، اجتمع عليه رأي قبيلتة ووعد الناس بإصلاح أحوالهم، وإصلاح الشريعة الإسلامية وتخفيض الضرائب على الفلاحين فوقف معه الناس، وعرفت البلاد في عهده وعهد بعض خلفائه تراكم الخيرات وعاش الناس في خير ورفاهية بل إنهم قد قطعوا البحر لمواجهة المشركين ببلاد الأندلس، لكن مع مرور الوقت، انهمك السلاطين الآخرين في بناء القصور واللهو والترف .. حيث لم تعد مداخيل العشور تكفيهم فأثقلوا كاهل الفلاحين بالضرائب، وانتزعوا محاصيلهم واخذوا ممتلكات الرحل وأدى ذلك إلى نشوب الحروب والى نهوض سلطان من قبيلة جديدة، عمل على إرجاع الأمور إلى نصابها وحذف الضرائب على الفلاحين وتحالف مع الزوايا، فمكنه الله من الملك وجعل الخير للأمة على يديه فخاض حروبا كبيرة وانتصر فيها، لكن خلفاءه من بعده عادوا إلى ممارسات البذخ وإثقال كاهل الناس بالضرائب فثاروا عليه. وتزامن ذلك مع دخول البرطقيس (اسبانيا والبرتغال) إلى أراضينا، فدعا احد الزعماء قبيلته إلى نصرته كي ينصر الإسلام وينصر المسلمين، فكان له ذلك ووقفت معه القبائل الأخرى، فتمكن من تحقيق النصر على النصارى وأخرجهم من البلاد، وعم السلم جميع أنحاء البلاد، وازدهرت التجارة مع السودان وانتشر الذهب ومعامل السكر، وانتشرت الفلاحة وتربية المواشي. إلا انه مع مرور الوقت، طور النصارى بواخر عملاقة تجوب البحار طولا وعرضا، حيث يقال إنهم وصلوا إلى قارة جديدة، والى الهند، وجنوب إفريقيا، فقطعوا الطريق على بلادنا حيث أصبحوا يحصلون على الذهب مباشرة دون ان يمر من بلادنا مما سبب في ركود التجارة وتراجع عائداتنا في الوقت الذي كبرت فيه الدولة واحتاجت إلى السلاح وأجور الناس وأموال بناء القصور وأموال اللهو فما كان من السلطان إلا اللجوء إلى فرض ضرائب جديدة على الفلاحين الذين اكتووا بنارها فالتجأوا إلى إخلاء أراضيهم والرحيل عنها واستنجدوا بالزوايا والقبائل الأخرى وهكذا أصبح لكل جهة دولته فقسم المغرب إلى إمارات، كل واحدة تحكم منطقة خاصة بها وتستعد وتستجمع قواها للهجوم على باقي الإمارات الأخرى لكي تتمكن من بسط سيطرتها على المغرب جميعا وتتمكن بذلك من الحصول على عائدات الضرائب وتخضع الفلاحين وقوافل التجارة والرحل لسيطرتها وهذا ما كان لواحدة منها حيث تمكنت بعد تحالفاتها من الظفر بالسلطة على المغرب. توقف الجد قليلا، ثم أضاف: حسب ما كان يروي لنا أبى عن جده عن... عن... عن جده عن مجموعة من العلماء والأشياخ والناس الذين لم يتبق منهم أحد الآن رحمة الله عليهم جميعا. أما مدرسة الزنازن فتقول أشياء عديدة ومختلفة يصعب تدريسها في الكتب المدرسية والمقررات الجامعية كما ان اغلب مراجعها اندثر والبعض الآخر هجر. أتذكر سؤالا طرحه علي صاحبي الذي أصبحت أطلق عليه مدرس الزنازن جاء فيه: هل يمكن ان تشرح لي كيف انتقلت ملكية أراضي المغرب وخيراته من المواطنين الأوائل إلى المالكين الحاليين لجل أراضي المغرب ولكل خيراته برا، بحرا وجوا؟ ثم أضاف، هل خلقنا فقراء وخلقوا هم أغنياء؟ هل نحن امازيغ – عرب -مسلمون- مسيحيون- يهود- رومان- وندال- فنيقيون- أدارسة- برغواطيون- مغراويون- مرابطون -موحدون- سعديون- وطاسيون- مرينيون- موريسكيون- سملاليون- شبانات- علويون- قبائل- عبيد البخاري- زنوج .. أم نتاج كل هذا الذي هو تاريخنا أي مغاربة؟ استطرد في طرح الأسئلة الواحدة تلو الأخرى. استفزتني أسئلته كثيرا، أحسست بتناقض صارخ يهز أعماقي أنا الذي ظننت نفسي عربيا قحا رغم أنني لا افهم من اللغة العربية شيئا. قلت له بنبرة حادة ماذا تريد مني؟ أجابني ببرودة دم: أنت الذي تريد ان تعرف تاريخ المغرب. توقف الجد مرة أخرى كعادته ثم استرسل من حيث أنهى حديثه الأول: وهذا ما كان لواحدة منها حيث تمكنت بعد تحالفاتها من الظفر بالسلطة على المغرب. ورغم ذلك فهو لم يستطع بسط نفوذه على مجموع التراب الوطني وبقيت مناطق عديدة تسير نفسها بنفسها كما هو الحال عندنا حيث كانت الأعراف والعادات والشيخ والقبيلة والجماعة تهتم بكل شيء، لكن وللأسف أطلقوا علينا في تاريخهم الرسمي المدون اسم بلاد السيبا. فمن منا يا ترى يعيش في بلاد السيبا: نحن أم هم. ان توقف طرق القوافل التجارية،جعل من الفلاحين والرحل هم المنتجون للمأكل في المغرب وكانت جميع نفقات الدولة تمول بواسطة مساهماتهم التي يؤدونها على أشكال متنوعة فمنها الضرائب السنوية،ومنها الضرائب الظرفية حين يكون السلطان مارا من القبيلة هو وجيشه بحثا عمن يسمونهم المجرمون أو لتنفيذ غارات على اللذين يعيشون في بلاد السيبا أي نحن الغير خاضعين لسلطتهم. وبدأ المغرب يتعامل مع دول الخارج التي استعمرت جزءا من أراضيه وبدأ يشتري منها موادا وسلعا جديدة باهضة الثمن وتخص أناسا يعدون على رؤوس الأصابع. وكان من نتائج كل ذلك ان المغرب لم يجد ما يؤدي به ثمن ما كان يشتري فبدأ يقترض الأموال من النصارى. وتزايدت الحفلات والحملات وتزايد عجز الدولة فتزايدت الديون إلى ان وصلت حدا لا يطاق وأصبح الفرنسيون يتدخلون في شؤون البلاد وفي كل صغيرة وكبيرة، فتحركت القبائل وأمرت السلطان بالانسحاب من الحكم وحاصرت مدينة فاس. ولكن السلطان استنجد بالفرنسيين اللذين دخلوا إلى المغرب وفرضوا الحماية واستعبدوا أناسه واستولوا على أخضره ويابسه. فلم نكن لنرض بهذا الوضع، فهربنا إلى الجبال وكنا نتصدى لهجومات العدو، قتلنا منهم عددا كثيرا إلا ان أسلحتنا كانت بدائية مقارنة مع أسلحتهم الفتاكة. كانت هناك طائرات ومدافع تقتل المئات دفعة واحدة، ورغم ذلك فقد هزمناهم في عدة مواقع واضطروا في مواقع أخرى الى التحالف مع القوات الاسبانية، والذي كنا نستغرب منه هو ان هناك بعض المغاربة كانوا منخرطين في جيش الغزاة، والبعض الآخر يطلب منا ألا نواجه القوات الفرنسية وان نستسلم لها لأنها جاءت لمساعدتنا ومساعدة أبنائنا وأنها ليس عدوة لنا. وبعد عدة سنوات من الاقتتال والفرار، تمكنت الجيوش الفرنسية من استعمارنا بالكامل حيث لجؤوا إلى الاستيلاء على مصادر المياه وقتل مواشينا حتى نضطر الى النزول من الجبال والاستسلام. وبدأ الفرنسيون ومجموعة من المغاربة التابعين لهم بالاستيلاء على أجود الأراضي الفلاحية، وبنت السدود والطرق بعرق أكتافنا وزودت المدن بالكهرباء وجميع التجهيزات الضرورية، وقامت بحفر الآبار والمناجم وبنت مكاتب الاستغلال كما بنت السجون لتأديب كل رافض لسياستها من فلاحين وأناس عاديين ووطنيين. وبدا الفرنسيون يتوافدون على المغرب، ويتلقون كل التسهيلات من حكوماتهم من اجل الاستيلاء على الأراضي وبناء المعامل واضطهاد العمال والفلاحين الذين تحول غالبيتهم إلى عمال أو مشردين بعد حرمانهم من أراضيهم. تكاثر عدد المتضررين من الحرفيين والعمال والفلاحين وزعماء القبائل، والأسر الشيء الذي أدى إلى النهوض مجددا من اجل مواجهة المستعمر، فقامت انتفاضات، وأسست الأحزاب السياسية وحركات المقاومة المسلحة السرية، وتكبدت القوات الاستعمارية خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. وفي خضم هذا الصراع والقتل والتقتيل، استعمرت فرنسا من طرف قوات هتلر فاستنجدت بالمغرب من اجل تخليصها من ألمانيا على أساس منحه استقلاله بعد ذالك. وشارك الجيش المغربي مع فرنسا حيث هزموا ألمانيا، لكن حالنا لم يتغير فأدنى الإصلاحات لم يتم إدخالها، ما حدا بنا إلى الدخول في مواجهات عسكرية مع الجيوش الفرنسية بتنسيق مع إخواننا في الجزائر ومصر. وبعد اخذ ورد، وبعدما تبين لفرنسا أنها خارجة لا ريب فيه وتفاديا للخروج بالسلاح الذي أصبح مسالة وقت فقط، كونت لجانا للمفاوضات. مفاوضات حول طريقة الخروج من المغرب الذي كانت تحاول من خلالها ضمان بقائها بعد خروجها. لقد اعترفوا بعدما سدت أمامهم آفاق التطور بأنهم اخطاوا بقبول المفاوضات، ولكنهم رغم ذلك لم يرجعوا الثروات التي استفادوا منها. أتذكر جيدا حفلا أقيم للاحتفال برجال المقاومة، كنت متحمسا كثيرا لهذا الحفل، سهرت الليل كله احسب عدد طلقات النار التي تفاديتها والسنين التي أمضيتها في السجن والفرنسيين الذين رقصت على جثثهم... لقد كان الحفل لائقا برجال المقاومة. حفل يترأسه عامل الإقليم، حضره القائد والشيخ والمقدم ورجال السياسة ووجوه لم أرها قط. ظننتها للوهلة الأولى شخصيات من العاصمة أو مبعوثو جلالة الملك أو... لم يجب على حيرتي هاته سوى صعود مجموعة منهم إلى منصة التتويج لتسلم ميداليات وهدايا الفخر والاعتزاز وأراضي زراعية في ملكيتنا وملكية آبائنا اعترافا وامتنانا لهم على ما أسدوه للمملكة من خدمة شريفة. اختلط في عيني النهار بالليل، أخذت بعض التراب، وضعت فيه وجهي، تذكرت سنوات الجوع والاضطهاد والرصاص الحي، تبخرت أمامي جميع الآمال ، انسد الأفق... صمت الجد كثيرا، دمعت عيوننا جميعا، انتهى الكلام مؤقتا. خيم الصمت طويلا، كل واحد منا اخذ يحلق بعينيه في شقوق المنزل، شربنا الماء رغم البرد القارس. تبادرت في عقلي عدة أسئلة. كنت أود ان أسال جدي ان كان من الذين رأوا صورة محمد الخامس في القمر... وكأن الجد كان يقرا ما يدور بمخيلتي، حيث فاجأني بقوله، لقد قالوا أيضا بأننا رأينا صورة الملك في القمر. ثم أضاف: ان ما استغرب منه هو ان أبناء دوارنا أيضا يعترفون بأنهم رأوه مع ان ذاك الوقت تزامن مع عاصفة وأمطار غزيرة لم أر مثلها قط مما صعب الخروج من المنازل وحتى رؤية ما فوق السطوح كان شبه مستحيل. أنا لا أستطيع ان انفي أو أؤكد ذلك، لكن أنا متيقن من ان أناسا عديدين لم يروا شيئا قطعا وهم يؤكدون خلاف ذلك لسبب لا افهمه. ان الملك مشمول بالبركة فهو –كما قالوا لنا- أنقذ الطائرة التي كان على متنها من السقوط بعد ان نفذ الوقود منها. لقد أنقذ عرقه الشريف الطائرة والا لكانت الكارثة. استمر في الحديث عن بعض الخوارق التي عرجت به إلى الإسراء والمعراج، فإحياء الموتى.... قبل ان يواصل حديثه قائلا: خرجت فرنسا إذن وتركت الممتلكات، تركت المبادلات معها، فقد كانت تستخرج المواد المعدنية من المناجم وترسلها إلى فرنسا وبعد ذهابها أصبح المغاربة يستخرجون هذه المواد ويرسلونها إلى فرنسا. لقد أخذت الدولة كل شيء، أممت المعامل والمكاتب والتجارة واستولى كبار رجالات الدولة على كل شيء، الأراضي الفلاحية المجهزة بالسدود، واستمر طرد الفلاحين من أراضيهم وقمع العمال والطلبة والمثقفين الذين ظنوا ان خروج فرنسا سيعبد الطريق أمامهم. فبمجرد خروج فرنسا، بدأت الخلافات تدب بين الناس، فهناك من أراد ان يحرر جميع مناطق المغرب التي لازالت محتلة، وهناك من التزم مع فرنسا بالاكتفاء بما هو وارد في اتفاقية الاستغلال وهناك من يطمع إلى تحسين وضعيته داخل الدولة، كل هذه الأشياء والأحداث أدت إلى اندلاع صراعات في شمال المغرب وفي جنوبه، لقد قيل لنا آنذاك بان الجيش المغربي صعد شمالا ونزل جنوبا ليقمع أناسا متمردين على السلطان وان المحارق كانت رهيبة. لقد كثر الاقتتال في هذه الأوقات وكأننا لم نستقل قط. تمكنت الدولة بمساعدة فرنسا من إرجاع الأمور إلى نصابها رغم وجود من يعارض سياستها. لم نكن نفهم الأمور جيدا، لقد كانوا يقولون بان هناك أعداءا للشعب يريدون زرع الفتنة بين الناس، وتغيير رمز البلاد وسلالته الذي لم يمض على رجوعه إلا وقت وجيز بعد ان أخذه أعداء الله وهجروه من المغرب. انطلقت الدراسة،انطلقت الاوراش،كل من لديه شهادة متوسطة بامكانه ان يدرس، أو يصبح رئيس إدارة، التحق الناس بالتعليم وبقطاع الإدارة وتوظف الجميع لكن سرعان ما تغير الوضع، لقد أصبحوا يمنعون أبناءنا من التمدرس. يقولون لهم ان سنكم غير مناسب ،أو أنكم درستم كثيرا وبدأ الحاصلون على الشواهد لا يجدون عملا. لم افهم سرعة التحول هذه، وعانى العمال والفلاحون من التشريد ومن ظروف العمل اللاانسانية، فانطلقت المظاهرات، والاعتصامات والمواجهات. لقد التجأت الدولة إلى المدرعات والى قوات الجيش لوقف اضرابات التلاميذ والطلاب، لقد قتلت العديد منهم وبعد ذلك أرسلوا إلى فرنسا لقتل من يرون فيه الرأس المدبر لكل هاته الأحداث. نعم لقد كانوا يقولون لنا بان هناك رأسا مدبرا للأحداث فر من المغرب ليستقر عند عدوتنا فرنسا ويعطي الأوامر من هناك لهؤلاء الأبرياء لكي ينزلوا إلى الشارع، وهاهم قد فعلوها وتم قتلهم جميعا. أما الدولة، فلا يمكن التغلب عليها أبدا، لقد حرمت الناس من كل شيء في تلك الفترة لا برلمان،لا حقوق إنسان،لا أحزاب. الأحزاب تركت الناس يواجهون مصيرهم، لم يعملوا بجد على إيقاف الدولة عند حدودها وإتياننا بما وعدونا به، نعم لقد وعدونا بالكثير لكن لاشيء تحقق من ذلك. انظر إلى المغرب، الفقراء بالملايين، وبعض الناس فقط من يستفيدون من خيراته ويعيشون كأنهم أوربيون وسطنا، لا علاقة لواقعهم بواقعنا،أبناؤهم تخصص لهم الطائرات ليتلقوا الدروس بفرنسا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية، يدرسون في أفخم المدارس في حين أبناؤنا يمشون حفاة عراة إلى مدارسهم التي تتواجد في أحسن الأحوال على بعد 5 كلمترات. إنهم يخرجون قبل مطلع الشمس ليعودوا بعد مغيبها. انظر إلى سكنانا، إنها أشبه بحجرات فئران. لا ماء صالح للشرب، لا كهرباء، لا صيانة... كل يوم ننتظر ان تنهار علينا الجدران الطينية والسقف الخشبي في حين، هم يسكنون في فيلات لا مثيل لها، الكل متحكم فيه عن بعد، من فتح الأبواب إلى إغلاقها، إلى الأكل والشرب ، لديهم خدم يقدمون لهم الأكل والشرب ويساعدونهم على الاسترخاء والاستحمام، أما نحن فلنا الله، عندما نفتح أعيننا، نرى الشقوق في كل مكان ونسمع صراخ الجيران ونباح الكلاب ونهيق الحمير. لديهم هم أيضا كلاب لكن ليست ككلابنا، كلابهم لا تنبح ، لا تبيت في العراء، لا تأكل لوحدها... إنها كلاب آدمية، رغم أنها لن ترض أكلنا، وملبسنا وسكنانا... لكنها تعيش مع هؤلاء الناس الآخرين، لقد أصبحت واحدة منهم، تركب معهم في السيارة، تذهب للتسوق. هاته هي الكلاب أما كلابنا فحالها لا يطمئن. نحن وكلابنا في نظرهم امة واحدة، لقد لاحظتها في الطبيب الذي زارنا آخر مرة بعد ان تجاذبنا أطراف الحديث حول المرض الذي ألم بأهل البلدة حيث قال لي ان المرض خطير جدا وهو ما استدعى مجيئنا، أضاف بأنه لم يصل إلى مستوى مرض الكلاب الذي عالجناه منذ 10سنوات، ولو وصل إلى ذاك الحد لكان ضروريا استعمال نفس الدواء أي لتم إقباركم جميعا حتى لا يتفشى المرض إلى المدن المجاورة ولكي لا يصبح خطرا على الناس. لقد قالها الطبيب مرضنا سيصبح خطرا على الناس، نحن لسنا منهم، نحن قوم ينتمي إلى ما قبل الناس، إننا حيوانات وفقط. إننا حيوانات وفقط، قالها الجد وعيناه ممتلئتان نوما وندما. نام الجد، نمنا بعده بعد دقائق معدودات، أحببت كثيرا لو استمر في حديثه الشيق/المريع حتى اسمع منه عن المرحلة الجديدة التي عايشناها جميعا من تقتيل وتهجير واعتقال جماعي، مرورا بسنوات الجوع والطرد الجماعي وصولا إلى إحياء الأموات والإفراج الجماعي وختما بهمة الدولة... لكن الجد ترك القراءة معلقة. اننا بالتأكيد، شباب اليوم، أجداد الغد لنا قراءتنا الخاصة عن هذه المرحلة. فهل سننتظر اثنا عشر قرنا أخرى لنحكي نفس الحكاية ؟